كان لا بد للاستقبال الملكي الذي حظي به إلياس العماري، بعد انتخابه أمينا عاما لحزب الاصالة والمعاصرة، أن يحمل معه أكثر من رسالة في العلاقة بين الحكم والأحزاب السياسية. فقد ظلت مملكة الحسن الثاني ترى في المشهد الحزبي المغربي خصما لدودا منذ بدأت ملامح دولة ما بعد الاستعمار الفرنسي تتشكل. وقد اعتبر الملك الراحل أن حزب الاستقلال، وحزب الشورى والاستقلال الذي خرج من رحمه، قد يشكل «خطرا» على حكمه، لذلك سارع إلى تحريك قواته الاحتياطية لتؤسس لحزب جديد سماه «جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية، أو «الفديك» كما عرف بذلك. الحزب الذي اختار له صديقه ومستشاره الخاص أحمد رضا اكديرة. ولم يكن الخصم المفترض وقتها غير حزب الاستقلال، وبعهد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الاتحاد الاشتراكي لاحقا. لذلك سيقود صديق الملك ومستشاره أحمد رضا اكديرة هذه الجبهة، التي استطاعت في ظرف زمني قصير اكتساح مقاعد عدد من المؤسسات الدستورية. وبدا أن الحسن الثاني كان يريد أحزابا سياسية على مقاسه. الحسن الثاني يختار بوستة كانت الوصفة الثانية التي لجأ إليها الملك الراحل لتدجين الأحزاب السياسية وجعلها تحت عباءته، هي التي قادها ضد حزب الاستقلال. فحينما كان هذا الحزب يبحث عن أمين عام بديل للراحل علال الفاسي، وأمام دهشة الكثيرين، سيقول الملك الراحل للمقربين منه، إنه مستعد لاختيار من يكون الأمين العام الجديد للحزب. ولأن هذا الأمين العام، يشرح الحسن الثاني، سيكون هو مخاطب الملك، فلا ضير أن يختاره بنفسه. إنه امحمد بوستة، الذي سيصبح بالفعل أمينا عاما للحزب برغبة من الحسن الثاني، وليس لأن الاستقلاليين اختاروه عن طواعية. ولم تكن سلطة الملك الراحل على هذا الحزب خفية. فقد ظل يقول للمقربين منه إنه قادر على دعوة الاستقلاليين للحكومة متى يشاء، ومستعد لإبعادهم متى يشاء. ولم يكن غريبا أن يقنع أحد قادة الحزب وهو الراحل عز الدين العراقي، الذي كان وزيرا للتربية الوطنية، بأن يتخلى عن انتمائه الحزبي من أجل حقيبة وزير حينما قرر الاستقلاليون الانسحاب من إحدى حكومات سنوات الثمانينيات. وكان جزاء العراقي بعدها أن عينه الحسن الثاني وزيرا أول. أما حينما رفض بعض أعضاء اللجنة التنفيذية للحزب المشاركة في حكومة التناوب، التي قادها الاتحادي عبد الرحمان اليوسفي احتجاجا على فشل تناوب سنة 1996 الذي كان من المفترض أن يقوده بوستة، قال الحسن الثاني لمخاطبيه: «إن بوستة لا يملك في هذا الفريق غير الأقمصة والجوارب، أما أنا فإنني أملك اللاعبين». وصلت الرسالة. وقبل الاستقلاليون المشاركة في حكومة اليوسفي. وبدا أن الحسن الثاني كان قادرا على فرض اختياراته في هذا الحزب، لدرجة أن فشل تناوب 1996، الذي كان مقررا أن يقوده بوستة بعد غضب اليوسفي، وحماس اليازغي للمشاركة، لم يفشل لأن الأمين العام لحزب الاستقلال رفض استوزار إدريس البصري، كما تم تداول ذلك يومها، خصوصا وأن حزب الاستقلال ظل مشاركا في أكثر من حكومة ضمت البصري، بما في ذلك حكومة المعطي بوعبيد التي صنفت على أنها كانت تلميذا نجيبا لصندوق النقد الدولي. وهي «النجابة» التي فجرت الدارالبيضاء في يونيو من سنة 1981 حيث سقط عشرات القتلى سماهم إدريس البصري بشهداء «كوميرة». لم يفشل هذا التناوب، إذن، إلا برغبة من الملك الراحل الذي كان يراهن على أن يقوده اليوسفي وليس غيره. غير أن الأمر اختلف لدى محمد السادس وهو في بدايات عهده بالحكم. ففي 2002 لم تحترم المنهجية الديمقراطية، التي ستصبح في دستور 2011 فاصلة. وهي التي بموجبها أضحى عبد الإله بنكيران رئيسا للحكومة حينما احتل حزبه المرتبة الأولى في الاستحقاقات التشريعية. كان المنطق السياسي، يفرض أن يختار الملك الجديد عقب استحقاقات 2002 وزيرا أول من الاتحاد الاشتراكي، الذي كان يقود حكومة التناوب منذ 1998، باعتباره الحزب الذي احتل الصف الأول في تلك الاستحقاقات. لكن العملية لم يكتب لها النجاح لسبب جوهري هو أن حزب الاستقلال، المكون الثاني للكتلة الديمقراطية وقتها، رفض أن يكون مجرد مكمل لحكومة اتحادية، وطالب بحقه من الكعكة وهو يتحدث وقتها عن «مولا نوبة»، الصيغة الجديدة التي غزت المشهد السياسي المغربي آنذاك. لقد قال حزب علال الفاسي إنه حان الوقت لكي يقود الحكومة كما قادها خصمه التقليدي الاتحاد الاشتراكي، حتى وإن كان الأمر خارج المنهجية الديمقراطية. وحينما لم تنجح كل الخطوات، اضطر الملك ليعين ادريس جطو وزيرا أول من خارج الأحزاب، التي تسابقت بعد ذلك لكي تجد لها موطئ قدم في تشكيلته الحكومية من الاتحاد الاشتراكي الغاضب، إلى حزب الاستقلال، الذي كان ينادي بدوره. الحسن الثاني يفشل في مهمته مع الاتحاد حينما كان الاتحاديون يوارون جثمان عبد الرحيم بوعبيد في الثامن من يناير من سنة 1992 الثرى بمقبرة الشهداء بالرباط، وصلت رسالة الحسن الثاني المشفرة، التي تقول إنه مستعد لكي يختار للاتحاديين كاتبهم الأول خلفا لبوعبيد، كما صنع مع إخوتهم في حزب الاستقلال. ولم يكن الاسم الذي يحظى بثقة الملك الراحل وقتها، غير عبد الواحد الراضي، الذي سينتظر أكثر من عقد من الزمن لكي يتبوأ هذا المنصب في حزب القوات الشعبية. لقد كان الراضي هو الرجل الذي أشركه الملك الراحل في حكومة كان يقودها الاتحاد الدستوري، وهو الذي كان يتمنى الحسن الثاني أن يجلس على نفس المقعد الذي جلس عليه خصمه عبد الرحيم بوعبيد، الذي حركت جنازته المهيبة بشوارع العاصمة الرباط، مملكته. ومن يومها فهم أنه لا سبيل للمصالحة مع حزب بوعبيد، غير إشراكه في الحكم. لذلك كانت أولى ملامح التناوب قد انطلقت من هذه الجنازة. وصلت رسالة الملك. وقبل تشفيرها كان الاتحاديون قد توافقوا على عبد الرحمان اليوسفي كاتبهم الأول، حينما كلف بتلاوة وصية الحزب على قبر بوعبيد. لذلك شعر الحسن الثاني بضربة اتحادية جديدة انضافت لسلسلة الخلافات التي ظلت عنوانا بين علاقة الاتحاد والقصر. وهي الخلافات التي ستنتهي حينما قرر الملك الراحل الدخول في تجربة التناوب التوافقي، التي لم يكن ربانها غير الاتحادي عبد الرحمان اليوسفي. عين الملك على أحزاب الأغلبية لم تكن اختيارات الحسن الثاني، ولا يده الممدودة، تذهب فقط لأحزاب المعارضة. فما سمي بأحزاب الإدارة كان لها أيضا النصيب الأكبر. ففي بداية الثمانينيات حينما بدا أن الدور الذي كان موكولا لحزب التجمع الوطني للأحرار، قد استنفد مهامه، فكرت الدولة في خلق حزب جديد لن يكون قائده غير الوزير الأول وقتها المعطي بوعبيد، الذي أسس الاتحاد الدستوري، الذي رفع شعار حزب جيل ما بعد جيل الاستقلال. ولم يكن الأمر غريبا أن يتكفل وزير داخلية الحسن الثاني بدعمه واختيار عدد من الأطر لكي تلتحق بصفوفه. بل إن إدريس البصري صنع للاتحاد الدستوري خارطته الخاصة في الجماعات المحلية وفي مجلس النواب. لذلك كان هذا الحزب قد شكل الأغلبية في هذه المؤسسات التي اعتبرتها المعارضة مزورة. وعلى عهد الملك الراحل، سينتفض حزب آخر ضد نفسه، وهو الحركة الشعبية، التي ظل يقودها المحجوبي أحرضان، حينما قاد أحد أتباعه، وهو امحند العنصر، انقلابا أبيض عليه، واختير أمينا عاما. لم يصدق الكثيرون الأمر. وهدد المحجوبي أحرضان، الذي ظل يعتبر الحركة الشعبية بيته الكبير الذي لا أحد قادر على إخراجه منه، وهو الذي أسسه بمعية عبد الكريم الخطيب، أحد المقربين من القصر، للدفاع عن البادية المغربية، باللجوء للقضاء من أجل استرجاع ما اعتبره حقا. وقبل أن تصل القضية إلى ردهات المحاكم الإدارية، سيبادر الحسن الثاني لاستقبال الأمين العام الجديد امحند العنصر باعتباره صاحب الشرعية، شرعية سيعترف أحرضان بها بعد أن حظي خصمه باستقبال ملكي كان أكبر من أي انتخاب، لذلك توقف «الزايغ» في منتصف الطريق. كانت الخلافات تدب في جسد هذا المولود الحزبي، خصوصا بين المحجوبي أحرضان وعبد الكريم الخطيب. وكان القصر يتابع ما يحدث قبل أن يختار من يجب أن يدعمه. لذلك كان لا بد لهذا التصدع أن يترك أثره على مسار الحركة، التي ستخرج منها «حركات» هي اليوم أكثر من واحدة، لعل أكبرها هي حركة عبد الكريم الخطيب، التي ولد منها حزب العدالة والتنمية حينما راهنت الدولة على إشراك الإسلاميين في الحياة السياسية، وأوجدت لهم تنظيما سياسيا كان هو حركة الخطيب. غير أن للحركة خطوطا حمراء يجب ألا تتجاوزها. خطوط لا يرسمها فقط المنتمون لها. بل إن للحكم دوره الكبير في ذلك. فقد ظلت تعتبر نفسها حزبا وسطا. وظلت حسب طبيعة اشتغالها في المشهد السياسي، تتحول أحيانا إلى حزب يميني ومرة إلى آخر يساري. لذلك ظل قادتها، بتوجيه رسمي، سواء تعلق الأمر بالمحجوبي أحرضان أو بخلفه امحند العنصر، مستعدين لأي دعوة للمشاركة في تدبير الشأن العام حتى دون أن يكون ما يجمعها مع التركيبة الحكومية أي رابط، كما حدث في حكومة التناوب التي قادها الاتحاد الاشتراكي وكانت الحركة الشعبية مستعدة للمشاركة فيها. واليوم حينما وضعت يدها في يد أحزاب لا يربطها أي رابط إيديولوجي أو مذهبي. وعلى الرغم من أنها دخلت قبيل آخر استحقاقات تشريعية، تحالف «جي 8»، الذي رسم خطوطه العريضة حزب الأصالة والمعاصرة، وهي التي كانت وقتها تنتمي لأحزاب الأغلبية الحكومية حيث كانت تشارك بحقيبتين وزاريتين، إلا أن قبولها المشاركة رفقة أحزاب من اليسار، بل من أقصى اليسار في هذه الحكومة، يجزم بأن حركة العنصر ظلت تشكل تنظيما حزبيا مستعدا لأي دعوة يتلقاها، إنها تنظيم سياسي لم يولد ليلعب دور المعارضة. وصفة الحسن الثاني الأولى مع الملك الراحل، لم يكن الأمر خفيا. لقد قاد الحسن الثاني حملة ممنهجة لإسكات الأصوات التي ظلت تعارضه وتتمنى أن تقتسم معه السلطة. وعلى الرغم من أن جبهة «الفديك» ربحت بعض المحطات والمراحل، إلا أنها عجزت عن تدجين كل الحياة السياسية، حيث ظل حزب القوات الشعبية ينعم بحضور وازن بين جل فئات الشعب. فلم يجد الملك الراحل من صيغة للحسم غير الإعلان عن حالة الاستثناء، التي تعني توقيف كل الحياة السياسية ببرلمانها ومجالسها الجماعية. وإغلاق أبواب البرلمان ووضع مفاتيحه في جيب وزيره في الداخلية وقتها الجنرال محمد أوفقير. وقبل ذلك، كانت المعارضة البرلمانية، التي كان يقودها الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، قد تحركت بقوة للرد على الملك الراحل. ومن أدوات تلك المعركة ما عرف بحكاية الزي التقليدي الذي كان يرتديه النواب البرلمانيون، وتحديدا ما يتعلق ب»الشاشية» التي يرتديها النواب البرلمانيون في الجلسات الافتتاحية التي يترأسها الملك. والتي اعتبروها رمزا للعبودية. وقال الاتحاديون، والملك يستعد لافتتاح جلسات البرلمان، إن ذلك اللباس التقليدي لم يعد مناسبا للمرحلة، لذلك سيتركوا الجلباب والشاشية، ويرتدوا بذلة عصرية بدون ربطة عنق، لكي لا ينعثوا في المقابل بالبرجوازية الصغيرة. كان هذا الموقف وقتها، الحدث السياسي الأبرز الذي غطى على كل ما حملته كلمة الملك في افتتاح البرلمان. وسجل المتتبعون أنها بداية معركة لن تنتهي بين الحسن الثاني والمعارضة، التي كانت قد حاولت إسقاط حكومة السيد احمد ابا حنيني سنة 1964 وهي تنجح في تقديم ملتمس للرقابة، رأى فيه الكثيرون بعد ذلك بداية شد الحبل بين طرفي الصراع حول السلطة: الملك ومعارضته، وهو الشد الذي سيقود إلى انتفاضة الدارالبيضاء، وإلى الإعلان عن حالة الاستثناء. لم يقبل الحسن الثاني بالأمر. ورفض أن يتابع نواب الأمة الجلسة من داخل القاعة العامة، حيث خصصت لهم قاعة جانبية. أما تبعات كل ذلك، فهي أن الملك هدد باعتقال كل الفريق الاتحادي بعد أن «خرج عن ملة الجماعة». ولأن الملك هو أمير المؤمنين بنص الدستور، فإنه مضطر لتحريك قضية الخروج عن ملة الجماعة. انتظر المغاربة قرابة عقد من الزمن ليستعيدوا نغمة السياسة، لكن ليس كما أرادتها الأحزاب السياسية، ولكن كما خطط لها الحسن الثاني، وعملا بشعار استئناف المسلسل الديمقراطي في السنوات الأولى للسبعينيات، حينما أسس وزير الداخلية الأسبق إدريس البصري حزبا جديدا أطلق عليه اسم التجمع الوطني للأحرار، الذي تكون من المستقلين الذين كانوا قد كسبوا المقاعد في الجماعات المحلية وفي مجلس النواب بغرفتيه. وهو التجمع الذي اختار له الملك الراحل صهره ليكون أمينه العام. محمد السادس على نهج أبيه مع محمد السادس، لم تتغير الصورة كثيرا. فحينما قاد صلاح الدين مزوار، الذي كان قد التحق بحزب التجمع الوطني للأحرار، انقلابا ضد رئيسه المصطفى المنصوري بدعم من فؤاد عالي الهمة ورفاقه وقتها في الأصالة والمعاصرة. يوم اختار صديق الملك أن يلعب أدوارا سياسية بدأت بجمعية كل الديمقراطيين، وانتهت بتجميع عدد من الأحزاب السياسية لتشكيل ما سيعرف لاحقا بحزب الأصالة والمعاصرة. وفي عز الخلاف بين مزوار والمنصوري، الذي ظهر أنه لم يكن مقتنعا باختيارات فؤاد عالي الهمة وقتها، حظي مزوار باستقبال ملكي باعتباره الأمين العام الجديد لحزب الحمامة،. اليوم حينما استقبل إلياس العماري من قبل الملك محمد السادس أياما قليلة على انتخابه أمينا عاما لحزب التراكتور، كما صنع مع المصطفى بالكوري، الذي انتخب أمينا عاما للحزب في الولاية السابقة، عادت الذاكرة إلى الوراء لاسترجاع الدور الذي ظل يلعبه القصر في جسد كل الأحزاب السياسية، سواء تلك التي يراهن عليها للعب أدوار في المعارضة، أو في تدبير الشأن العام. لذلك لم تقو أي من هذه الأحزاب على القول بملكية برلمانية يكون فيها للملك دور الحكم، «ملك يسود ولا يحكم» كما قالها مرة النقابي محمد نوبير الأموي، ولا أدل على ذلك من أن كل المقترحات التي وضعتها هذه الأحزاب السياسية أمام اللجنة التي كلفت بإعداد مسودة دستور 2011، خلت من الحديث عن حدود سلط الملك. بل إن رئيس الحكومة الحالي عبد الإله بنكيران، تخلى عن طواعية عن عدد من السلط التي منحها إياه هذا الدستور لفائدة سلطة الملك، فيما عرف اصطلاحا بما للملك وما لبنكيران.