سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
«زوارق» طارق و»زلاقة» بن تاشفين و»أنوال» الخطابي و»مسيرة» الحسن .. عقدة إسبانيا الأبدية إسبانيا تعاند المغرب في كل شيء .. بداية من سبتة مروراً بالطماطم وصولا إلى الصحراء
لم يجد المغاربة، وهم يتتبعون مواقف الشارع والحكومة والأحزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام في إسبانيا، من ملف الانفصالية أمينتو حيدر، إلا العودة إلى بعض محطات التاريخ المشترك لمعرفة أسباب كل هذا التحامل الإسباني على بلادهم. حين تصطف إسبانيا ضد كل القضايا التي يكون المغرب طرفا فيها، سواء تعلق الأمر بالمهاجرين و الطماطم و الحوامض أو السمك، و حين يتعلق الأمر بسبتة ومليلية والجزر الجعفرية والصحراء المغربية وجزيرة ليلى، لا نكاد نجد تفسيرا لكل هذا العناد والتحامل إلا بالعودة إلى دروس التاريخ «البحرُ من ورائكم، والعدوُّ أمامَكم»، هكذا ابتدأ القائد طارق بن زياد خطبته الشهيرة، يوم انطلقت جيوش المسلمين لفتح الأندلس، قبل أكثر من 1360 سنة. وعلى امتداد كل القرون والأحداث التي تعاقبت على المنطقة، ظلت كلمة «عدو» حاضرة، من دون أن تتغير كثيراً، في معناها ومبناها. واليوم، على امتداد الجنوب الإسباني، يُمكن للمرء أن يعود إلى ذاكرة التاريخ، لتبرز أمامه خريطة الأندلس بجغرافيتها وتاريخها: الأندلس كمراحل لتشكل حضاري لم تستطع إسبانيا، ما بعد القرن الخامس عشر، أن تطردها من ذاكرتها وكتبها. الذاكرة، قبل أن تكون تاريخاً يُسطر في الكتب، هي في الأندلس صخورٌ نحتت وبنايات شيدت لتعيش شاهدة على أثر مسلمين مروا من هناك. طُورو ومورو وتوماتينا ! للإسبان عادات غريبة مع الحياة والناس، يتراشقون بالطماطم، في أوقات معلومة، ويدفعون بالثيران الهائجة إلى الأزقة، لتنطح مؤخرات البعض وتمسح بالبعض الآخر الأرض. يبدو الإسبان كما لو أنهم غير راضين عن مرور العرب والمسلمين من أرض الأندلس، هم يعطون الانطباع بأن هذا الجزء من تاريخهم لا يروق لهم، إذ يؤرخ لبعض تفاصيله بمسلمين قطعوا البحر ليقيموا على أرض الأندلس قروناً طويلة، حيث بنوا القصور وأقاموا الجنان، ونظموا الشعر، واستمتعوا بالموسيقى، ونبغوا في الفكر والفلسفة والرياضيات والطب وعلم الفلك. واليوم، يبدو حال الإسبان كما لو أن طرد المسلمين من أرض الأندلس لم يشف لهم ولأجدادهم غليلاً، لذلك حافظ الأحفاد على حكايات الأجداد عبر احتفالات سنوية تذكر بانتصار الكاثوليك على المورو. المهاجرون المغاربة (أو المورو، كما يحلو للإسبان أن يلقبوهم) متواجدون في كل مدينة وقرية إسبانية، تقريباً، في المدن تتميز الأحياء ذات الغالبية المسلمة، بأنها تُذكرك بأحياء المدن المغربية : سانتا كولوما في برشلونة، والرصافة في بلنسية، مثلاً. لا فرق، تقريباً، بين حي الرصافة وأحياء الدارالبيضاء، أو بين حي سانتا كولوما وأحياء طنجة. الفرق الوحيد هو أنك حين تتعدى حي الرصافة، مثلا، ستكتشف أنك في إسبانيا، أما حين تتعدى الحي المحمدي فستكتشف أنك في المغرب. زفرة العربي الأخيرة ! في الأندلس، وحتى قبل أن تصل إلى إشبيلية وغرناطة وطليطلة وبلنسية ومالقة وألمريا وأليكانتي، وغيرها من المدن التي تؤثث لها بنايات الماضي العربي والإسلامي، سيدغدغ خيالك ونفسك هواء دافئ، يحمل رائحة عربية، لازالت هناك. إنهم لازالوا هناك. أشعار ابن زيدون وولادة، وكتابات ابن رشد وابن عربي، مراكب طارق بن زياد وخيول المرابطين والموحدين، وأحزان ملوك الطوائف، ودموع الملك الباكي. ومن المؤسف، أن الإسبان لم يلتقطوا من كل المجد الأندلسي إلا جملة «ابْكِ مثل النساء، مُلكاً لم تحافظ عليه مثل الرجال»، التي صرخت بها الأم في وجه ابنها الملك أبي عبد الله الصغير، يوم وقف على ربوة تطل على غرناطة، ليلقي منها نظرته الأخيرة على عاصمة حكمه، وهي اللحظة التاريخية التي تم اختصارها في ثلاث كلمات: «زفرة العربي الأخيرة». وقبل أشهر، فقط، تابعنا خبراً يتحدث عن إقدام عدد من بلدات مالقة، على حذف السلسلة التي تلف رقبة أبي عبد الله الصغير، من شعارها الرسمي، والذي يعود إلى القرن الخامس عشر، عندما منح الملكان إيزابيلا وفرديناند لفرناندث دي كوردوبا، حق إضافة صورة أبي عبد الله إلى شعار منطقته، مكافأة له على مشاركته وجهوده في دحر الجيش العربي عام 1483 في مالقة. وعلى الأثر، يقول الخبر، أضاف دي كوردوبا صورة الملك العربي إلى الشعار الرسمي، مع سلسلة ممتدة تلف رقبته، إشارة الى دحره وإذلاله. وقال رئيس بلدية كانياس، في شرح سبب قرار بلديته حذف السلسلة «إن هذا المنظر في الشعار يمثل عنصر تصادم ينتمي إلى الماضي .. ولهذا قررنا حذف السلسلة التي تمثل العبودية». وهو تصريح سبقته جملة أخرى، حاولت أن تتصالح مع الماضي، قالها النائب البلدي فرانسيسكو غالبيث، صاحب فكرة إزالة السلسلة من رقبة آخر ملوك الأندلس، «حانت ساعة إزالة قيد أبي عبد الله الصغير، بعد أكثر من 500 سنة». خادمكم المطيع جورج الثاني .. تذكر كتب التاريخ أن جورج الثاني، ملك إنجلترا، أرسل ابنة أخيه، الأميرة دوبانت، ورئيس ديوانه على رأس بعثة مكونة من ثماني عشرة فتاة من بنات الأمراء والأشراف إلى إشبيلية لدراسة نظام الدولة والحكم وآداب السلوك الإسلامي وكل ما يؤدي إلى تهذيب المرأة، وأرسل معها رسالة، هذا نصها : من جورج الثاني، ملك إنجلترا والسويد والنرويج، إلى الخليفة ملك المسلمين في مملكة الأندلس، صاحب العظمة هشام الثالث الجليل المقام، بعد التعظيم والتوقير، نفيدكم بأننا سمعنا عن الرقي الذي تتمتع بفيضه الصافي معاهد العلم والصناعات في بلادكم العامرة، فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج من هذه الفضائل لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم لنشر أنوار العلم في بلادنا التي يحيط بها الجهل من أركانها الأربعة، وقد وضعنا ابنة شقيقنا، الأميرة دوبانت، على رأس بعثة من بنات الأشراف الإنجليز لتتشرف بلثم أهداب العرش والتماس العطف لتكون مع زميلاتها موضع عناية عظمتكم، وقد زودت الأميرة الصغيرة بهدية متواضعة لمقامكم الجليل، أرجو التكرم بقبولها مع التعظيم والحب الخالص. من خادمكم المطيع، جورج الثاني، ملك إنجلترا». وجاء جواب الخليفة الأندلسي، هشام الثالث، كما يلي : «بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه سيد المرسلين، وبعد، إلى ملك إنجلترا وإيكوسيا واسكندنافيا الأجل. اطلعت على التماسكم فوافقت على طلبكم، بعد استشارة من يعنيهم الأمر من أرباب الشأن، وعليه نعلمكم أنه سوف ينفق على هذه البعثة من بيت مال المسلمين، دلالة على مودتنا لشخصكم الملكي. أما هديتكم فقد تلقيتها بسرور زائد، وبالمقابل أبعث إليكم بغالي الطنافس الأندلسية وهي من صنع أبنائنا، هدية لحضرتكم، وفيها المغزى الكافي للتدليل على التفاتتنا ومحبتنا. والسلام خليفة رسول الله في ديار الأندلس، هشام الثالث». عقدة إسبانيا الأبدية ولم يجد المغاربة، وهم يتتبعون مواقف الشارع والحكومة والأحزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام، في إسبانيا، من ملف الانفصالية أمينتو حيدر، إلا العودة إلى بعض محطات التاريخ المشترك لمعرفة أسباب كل هذا التحامل الإسباني على بلادهم. حين تصطف إسبانيا ضد كل القضايا التي يكون المغرب طرفا فيها، سواء تعلق الأمر بالمهاجرين أو الطماطم والحوامض أو السمك أو بسبتة ومليلية والجزر الجعفرية والصحراء المغربية وجزيرة ليلى، لا نكاد نجد تفسيرا لكل هذا العناد والتحامل إلا بالعودة إلى «زوارق» طارق بن زياد، و»زلاقة» يوسف بن تاشفين، و»أرك» يعقوب المنصور، و»أنوال» محمد بن عبد الكريم الخطابي، و»مسيرة» الحسن الثاني. ورغم رماد الزوارق وحمرة الطماطم، يبقى الأمل قائماً، عند المغاربة، في مستقبل مشترك يبنى بعيداً عن عقد الماضي والتباسات الحاضر. إسبانيا تعاند المغرب في كل شيء، بداية من سبتة، مروراً بالطماطم، ووصولا إلى لصحراء راعي الجمال .. راعي الخنازير ! في اشبيلية وغرناطة وقرطبة، وغيرها من مدن الأندلس، لابد أن تتذكر الأمير المرابطي، يوسف بن تاشفين، وعبوره المتكرر إلى الأندلس، وما خلده التاريخ من حكاية المعتمد بن عباد، الذي لا يذكر إلا وتذكر اعتماد الرميكية - زوجته الشهيرة : اعتماد، التي عاشت تحتل مكانة بارزة في حياة المعتمد، حتى أنها كانت لسمو مكانتها وتمكن نفوذها يطلق عليها اسم «السيدة الكبرى». كانت اعتماد الرميكية - والعهدة على كتب التاريخ وكتابات المهتمين والباحثين - تُغالي في دلالها على المعتمد، ومن ذلك، أنها طلبت منه أن يريها الثلج، فزرع لها أشجار اللوز على الجبل المقابل للقصر، حتى إذا نوّر زهره بدت الأشجار وكأنّها محملة بالثلج الأبيض. ومن ذلك، أيضاً، أنها رأت نساءً يمشين في الطين، في يوم ممطر، وهُن يتغنين فرحات، فاشتهت المشي في الطين، فأمر المعتمد أن يُصنع لها طين من الطيب، فسُحقت أخلاط منه وذرت بها ساحة القصر، ثم صب ماء الورد على أخلاط المسك وعجنت بالأيدي حتى عاد كالطين، فخاضته مع جواريها. وقد خلد المعتمد بن عباد قصة المشي فوق طين المسك والكافور، في قصيدة نظمها في يوم عيد رأى فيه بناته، وقد جئن يسلمن عليه، في سجنه، وهن يلبسن ثيابا رثة، فيما بدا على محياهن العوز والحاجة فخنقته العبرة، جاء فيها: في ما مضى كنت بالأعياد مسرورا / فجاءك العيد في أغمات مأسورا ترى بناتك في الأطمار جائعة / يغزلن للناس ما يملكن قطميرا والغريب في كل الحكاية أنه حدث أن غاضب المعتمد زوجته اعتماد، ذات مرة، فأقسمت أنها لم تر خيراً منه، قط. غير أن ما يمكن أن يجلب العذر للمعتمد بن عباد، في سياق الحديث عن ملوك الطوائف ويوسف بن تاشفين، الذي تذكر كتب التاريخ أنه «كان صوّاماً قوّاماً زاهداً مُتقشِّفاً لم يكن يأكل سوى خبز الشعير، ولحم الإبل، وشرابه لبن النوق»، هو مستوى الهيام الذي ظل يُكنّه المعتمد لزوجته الشاعرة، وهو هيامٌ يمكن أن يُفقده العقل ويُضيع الإمارة، وكل الأندلس، ويُطوِّح بصاحبه إلى أغمات سجيناً. المعتمد العاشق حتى الضياع، هو نفسه الذي تذكر عنه كتب التاريخ مواقف جميلة تنم عن صفاء طوية ونخوة كامنة. تقول كتب التاريخ : «ولما خوّفه بعض حاشيته من ابن تاشفين، وقالوا : «الملك عقيم، والسيفان لا يجتمعان في غمد واحد»، أجابهم : «تالله إنني لأوثر أنْ أرعى الجمال لسلطان مراكش، على أنْ أغدو تابعاً لملك النصارى، وأنْ أؤدي له الجزية. إن رعي الجمال خير من رعْي الخنازير». تسويق البنايات وطرد البناة ! في الأندلس، يثيرك إحساس غريب، يشدك إلى زرقة السماء والنخل النابت في كل مكان. في المطويات التعريفية بإسبانيا، بشكل عام، والأندلس، بشكل خاص، يطرح الإسبان تعريف الأندلس المسلمة كمجال، وكتاريخ فلسفي وعلمي وأدبي، تبرز، من خلاله، حقول الرياضيات وعلوم الفلك والفيزياء والطب وتقنيات الري في المجال الفلاحي والزراعي. لم يكن في وسع الإسبان أن يفرطوا في أثارات تبيض ذهباً. ذلك حالهم مع قصر «الحمراء» وصومعة «الخيرالدة» (كانت صومعة !)، وغيرها من التحف الأثرية، التي يصطف سياح من كل الجنسيات ليزوروها ولكي يؤدوا واجب الزيارة مالاً وفيرا وإعجاباً كثيراً. الإسبان كانوا أكثر دهاء مع ما تركه المسلمون بالأندلس، فطوال قرون، كان لديهم الوقت الكافي للتنصير والتحريف والتعديل والعناية، وفق ما يساير مصالحهم وأهواءهم. 400 سنة على طرد الموريسكيين حلت هذه السنة الذكرى المئوية الرابعة لطرد المسلمين من الأندلس. ذكرى مؤلمة، ووصمة عار على جبين جيراننا الشماليين، الذين مارس أجدادهم أبشع أنواع الترهيب والقتل، إثر صدور مرسوم التاسع من أبريل 1609، الذي نص على طرد كل المسلمين الذين لم يعتنقوا الدين المسيحي. وفي سياق تناولها للأحداث المرتبطة بالمورسكيين، تُذكر الكتابات التاريخية باتفاقية غرناطة، التي وقعت بين المسلمين والكاثوليك، سنة 1491، والتي طبقت ابتداء من 1492، سنة سقوط غرناطة، وهي الاتفاقية التي نصت على احترام ممتلكات المسلمين ومعتقداتهم، واعتماد الشريعة الإسلامية كمصدر للقضاء عند المسلمين، كما فتحت الباب أمام إمكانية عودة المسلمين، الذين تركوا الأندلس، إلى موطنهم الأصلي، غير أن رجال الدين الكاثوليك حالوا دون تطبيق بنود هذا الاتفاق، ودفعوا في اتجاه مغاير، تماما، لروح تلك الاتفاقية الموقعة، فكان أن مورست أبشع الجرائم في حق المسلمين، قبل أن يتم إجبارهم على اعتناق المسيحية، ويتقرر طردهم إلى وجهات مختلفة، ليستقر أغلبهم في شمال إفريقيا، وخاصة بالمغرب، حيث شيدوا مدناً بكاملها، مثل شفشاون، كما سكنوا مدن طنجة وتطوان والرباط وسلا، وهي مدن ما زالت، إلى اليوم، تحمل بعض معالم الحضارة الأندلسية، التي نقلها الموريسكيون عند استقرارهم بها. وفيما تؤكد الوثائق الإسبانية أن عدد المسلمين، الذين طردوا، يناهز 300 ألف، تتحدث الوثائق العربية، وخاصة المغربية منها، عن أكثر من مليون موريسكي، تم طردهم من نعيم بلاد الأندلس. عقدة المسيرة الخضراء ! ستتواصل حكاية شمال إفريقيا بجنوب أوروبا، وسينزل أحفاد من طرد الموريسكيين، مرات عديدة، وفي محطات مختلفة، من تاريخ الحوض المتوسطي، قبل أن يقصفوا الريف المغربي بغازاتهم السامة، بعد أن مرغ المقاوم محمد بن عبد الكريم الخطابي كبرياءهم في الوحل، خلال بدايات مرحلة الاستعمار الإسباني، في عشرينيات القرن الماضي. واليوم، حين تصطف إسبانيا ضد كل القضايا التي يكون المغرب طرفا فيها، سواء تعلق الأمر بالمهاجرين والطماطم والحوامض والسمك، أو بسبتة ومليلية والجزر الجعفرية والصحراء المغربية وجزيرة ليلى، لا نكاد نجد تفسيرا لهذا التحامل إلا بالعودة إلى «زوارق» طارق بن زياد، و«زلاقة» يوسف بن تاشفين، و«أرك» يعقوب المنصور، و«أنوال» محمد عبد الكريم الخطابي، و«مسيرة» الحسن الثاني.ومن الواضح أن هناك أشياء كثيرة ليست على ما يرام بين المغرب وإسبانيا، الجار الذي طرد، خلال حروب الاسترداد، البناة المسلمين واحتفظ بالبنايات التي خلدت لمرورهم من بلاد الأندلس. ويبدو أن الوقت قد حان، فعلا، كي ننادي بأكثر من العودة إلى أحداث التاريخ وأرقامه، في علاقاتنا مع إسبانيا، فنطالب بما يقابل جريمة طرد مليون مسلم من الأندلس، في القرن السابع عشر، وجريمة الغازات السامة، التي لجأت إليها القوات الاستعمارية العسكرية الإسبانية، ضد المدنيين في شمال المغرب، إبان الحرب التي شنت لإخماد المقاومة الريفية. وبين جريمة الطرد وجريمة الغاز، تبقى سبتة ومليلة والجزر الجعفرية حلقة أخرى من ماضي المنطقة، المفتوح على حقائق التاريخ والجغرافيا. سبتة ومليلية .. درسُ التاريخ والجغرافيا ! قبل أشهر، وفي سياق متابعتهم لتفاعلات زيارة ملك إسبانيالسبتة ومليلية، اكتشف المغاربة أن «ناس الغيوان» تغنوا بالمدينتين السليبتين، كما تغنوا بحيفا ويافا والقدس، تأكيداً للربط المتواصل، الذي أقامه المغاربة، بين النضال الوطني والهم القومي. ولعلَّ ما يلخص هذه العلاقة، التي ظلت تمزج الوطني بالقومي عند المغاربة، بامتياز، هو حرصُ الشاعر المغربي الراحل أحمد المجاطي على تأثيث ديوانه «الفروسية» بقصائد تحمل عناوين «القدس» و»كتابة على شاطئ طنجة» و«سبتة»و«الدارالبيضاء» و«وراء أسوار دمشق». وفي قصيدة «سبتة»، التي يقول فيها إن سبتة «عينان غرناطةٌ فيهما طفلةٌ»، يمتهن المجاطي الوصل بين الحنين والربابة، وبين لهاث الغصون وسمع السحابة، فيأتي على صهوة الغيم والضيم، وعلى كل نقع يثار، ليمنح عينيها لون سهاده، وحزن صهيل جواده، وصوْلة طارق، قبل أن يسقط خلف رماد الزمان والزوارق، فيقول : «آه قاتلتي أنتِ / حينَ أجوسُ شوارعكِ الخلفَ / حاناً ومبغى / وحينَ أراكِ عطوراً مهربة / وخموراً وتبغاً / وحين أراك على مدخل الثغر / عاشقة غجريهْ / مضرجة تحتَ أحذيةِ الهتكِ / لا حول للفتكةِ البكر فيكِ / ولا حول للنخوة العربيهْ». طال انتظار الشاعر، وواصل الإسبان منطقهم الغريب في التعامل مع المغرب والمغاربة. وقد كان آخر الأمثلة، اختيار 91 %، من المشاركين الإسبان، في استطلاع للرأي أجرته يومية «مينوتو ديخيتال»، قبل أشهر، «طرد المغاربة من إسبانيا». والمفارقة، أنه حين يختار الإسبان «طرد المغاربة من إسبانيا»، يخال غير العارف بالواقع المرير الذي يعيشه مهاجرونا، هناك، كما لو أن الإسبان سيطردونهم من الجنة، في حين أن عليهم أن يقدموا لهم الاعتذار، نظير مهزلة الإليخيدو، وغيرها، والشكر، نظير مساهمتهم في بناء إسبانيا وملء أسواقها الممتازة بخضر وفواكه الشتاء والصيف، وهي خضر وفواكه، لاشك أن بعضها يسقى بنظام ري موروث من المسلمين، خلال تواجدهم بأرض الأندلس. لكن، من يدمن الاحتفالات «التاريخية»، ويتراشق بالطماطم أو يدفع بالثيران الهائجة إلى الشوارع لتنطح المؤخرات، ويحتفل بجرائم القتل والطرد، يمكن أن يُقْدم على أفعال أخرى، قد لا تخطر على بال. وإثر زيارة خوان كارلوس للمدينتين المغربيتين المستعمرتين «استغرب» معظم الإسبان من ردة فعل المغرب والمغاربة، ولم يجدوا ما يدافعون به عن «إسبانية» المدينتين سوى أنهما «كانتا إسبانيتين قبل قيام المملكة المغربية»، الشيء الذي دفع بالطيب الفاسي الفهري، وزير الخارجية المغربي، إلى الرد، وقتها، بالقول إن ادعاءات الإسبان مجرد كذب، والإشارة إلى أن الدولة المغربية توجد منذ 14 قرناً. وأذكر أني التقيت، في برشلونة، قبل أكثر من سنتين، ثلاثة مهاجرين مغاربة، يوسف ولطيفة وعبد الرحيم. يومها، قال يوسف إن المسافة الفاصلة بين المغرب وإسبانيا، كجغرافية، هي أقل من 14 كيلومترا، غير أنها، على صعيد العقليات والأحكام المسبقة، لدى الإسبان، أبعد من ذلك بكثير، ولذلك اقترح أن يُجند المغرب مثقفيه، وخصوصاً العارفين منهم بإسبانيا، لغة وثقافة وتاريخاً، ويرتب المحاضرات واللقاءات التي تُعرف بالمغرب واختياراته، وبكل المواضيع والقضايا الحساسة التي تهمه. لكن، حين يقول الإسبان إن عمر المغرب هو أقل من أربعة قرون، كما لو أن مياه الأطلسي كانت تغطي أرضه، أو أن طارق بن زياد نزل بمراكبه وجنده من السماء، وأن جند المرابطين والموحدين، مثلاً، والذين أضافوا لتواجد المسلمين بالأندلس قروناً كثيرة، كانوا قُطّاع طُرق، يبدو أننا سنحتاج إلى أكثر من المثقفين، لكي تعرف إسبانيا ماذا تعني كلمة «المغرب»، تاريخاً وجغرافية. ولعل أولى الخطوات، أن ننقل هذا التاريخ إلى الشاشة، وأن يعرف المغاربة، أولا، «أين» ينام يوسف بن تاشفين، وكل الملوك والسلاطين والمفكرين والعلماء الذين ساهموا في تشكيل تاريخنا وبناء حضارتنا !