في وقت سابق من هذا الشهر، ذكرت تقارير أنه بعد وقف إطلاق النار في غزة الذي تلا يناير الماضي، بدأت بلدات الجنوب بإسرائيل في تحقيق ازدهار ملحوظ، كما لوحظت زيادة في عدد سكانها وعقاراتها، بل وحققت نموا في وتيرة بناء مراكز التسوق. لكن غزة لا تزال تحت الأنقاض، مع الآلاف من العائلات المشردة التي عليها أن تتحمل الآن برد الشتاء القارس في العراء. كثير من هؤلاء لا يزالون يعيشون في خيام بجوار أنقاض منازلهم. مر الآن ما يقرب من عام منذ بدأت إسرائيل عملياتها الهجومية التي أسمتها «الرصاص المصبوب». ورغم ذلك، فإن توقف عجلة إعادة الإعمار في قطاع غزة لا يعود إلى عدم وجود أية تعهدات دولية بالحصول على المساعدة، بل إن السبب الرئيسي في ذلك هو السياسة الإسرائيلية. إن قيام الحكومة الإسرائيلية بإرساء سياسة الحصار، التي كانت قد بدأتها منذ منتصف عام 2007، جعل من إعادة بناء الآلاف من المنازل والمدارس والمستشفيات مهمة مستحيلة. وسلط تقرير - صدر اليوم عن وكالات رائدة للمساعدات الإنسانية وحقوق الإنسان، بما في ذلك وكالة المساعدات المسيحية (كريستياين إيد) ووكالة المساعدات الطبية للفلسطينيين ومنظمة أوكسفام الدولية- الضوء على العواقب المترتبة عن هذه السياسة. وخلص التقرير إلى أن 41 شاحنة فقط محملة بمواد بناء في المجموع هي التي دخلت قطاع غزة منذ نهاية الهجوم العسكري. ومع الدمار واسع النطاق الذي لحق بالبنية التحتية المدنية في غزة، فقد أشارت هذه الوكالات إلى أن مهمة إعادة بناء وترميم آلاف المنازل وحدها ستتطلب حتما آلاف الشاحنات المحملة بمواد البناء. هذا الوضع لا يعد غير مناسب وغير كاف فحسب بل إن توقف عجلة إعادة الإعمار في غزة قد ساهم في تفاقم الوضع وتحويله إلى دورة لا نهاية لها من النقص والحاجة، وهذا ما من شانه أن يسبب تأثيرا خطيرا على الحياة اليومية والصحة العامة، فالحصار يعني منع أو تأخر الوقود والسلع التجارية والمساعدات الإنسانية. ولنأخذ، على سبيل المثال، الكهرباء في قطاع غزة. فأجزاء من الشبكة الكهربائية تعرضت للقصف خلال الحرب، وهي تتطلب إصلاحات عاجلة. وبإضافة القيود التي تفرضها إسرائيل باستمرار على توريد الوقود الصناعي إلى قطاع غزة، فهذا يعني أن 90 في المائة من سكان غزة يعانون من انقطاع في التيار الكهربائي الاعتيادي من أربع إلى ثماني ساعات يوميا. وهذا شيء عادي بالنسبة إلى العائلات الفلسطينية التي ما زالت تتحمل وطأة الحصار المروعة. وعلى الرغم من ال4 ملايين دولار التي تعهد بها المجتمع الدولي لإعادة إعمار غزة، فإن الحصار يعني أن قليلا من هذا المال سيتم إنفاقه فعلا. إسرائيل تسمح بإرسال حوالي 35 صنفا فقط من خلال نقاط العبور التي تسيطر عليها إلى غزة بشكل منتظم. كما أن لديها رؤية ضيقة ومتقلبة لما تراه «مواد أساسية». يذكر أن غزة تعاني من نقص كبير في الآلاف من المواد المطلوبة في ظل ظروف عادية، كما أن هناك نقصا حادا في ما يتعلق بمواد البناء والتعمير، لأن هذه المواد تكاد تكون غائبة عما هو «مقبول» في لوائح إسرائيل. ووصف جون جينج، الذي يرأس وكالة الأممالمتحدة لإغاثة وتشغيل الفلسطينيين في غزة، الحصار بكونه «تسهيلا لعملية تدمير لمجتمع متحضر». وفي بيان صدر مؤخرا، أبرز الاتحاد الأوربي بقوة أزمة قطاع غزة، ووصف الوضع الحالي بكونه غير مقبول، ودعا إلى التنفيذ الكامل للاتفاق الذي تم تبنيه في عام 2005 بشأن التنقل والعبور. الآن هو الوقت المناسب بالنسبة إلى دول الاتحاد الأوربي، بما أن إسرائيل أكبر شريك تجارى لها، لترقى إلى مستوى خطابها وتصر على إنهاء الحصار. كما يتعين على أوربا أن تتمسك بالمبادئ الأساسية للقانون الدولي. علينا ألا ننسى حقيقة أساسية وهي أن الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة كان هجوما من سلطة احتلال على شعب محتل. وليس هناك مجال للنسبية الأخلاقية في مسائل القانون الدولي الإنساني. إسرائيل ما زالت قوة الاحتلال، وبالتالي فعليها أن تتحمل المسؤولية عن تأمين وتوفير الاحتياجات الأساسية لسكان المناطق المحتلة. هذا هو ما نصت عليه اتفاقية جنيف الرابعة بشكل واضح جدا. كما أن الفشل في الاضطلاع بهذه المسؤولية يشكل انتهاكا خطيرا للحقوق الأساسية للفلسطينيين. تجدر الإشارة إلى أن المانحين الدوليين عليهم أن يدفعوا فاتورة آثار الاحتلال والحصار. وعلى مدى السنة الماضية، فإن الدعم الممنوح من قبل الاتحاد الأوربي ودوله الأعضاء قد ارتفع إلى ما يقرب من مليار يورو. إن الضرائب الأوربية تساعد على بناء المدارس والعيادات الطبية، وإعادة البناء والإصلاح عندما تكون هذه الأعمال في المقام الأول. بيد أن الحصار المتواصل والمتسارع في غزة عزز الاعتماد على المعونات الدولية، حيث إن ما يزيد على 80 ٪ من السكان يصطفون كل يوم للحصول على المساعدة الغذائية. في يناير، كتبت مقالا أتساءل فيه عما إذا كان باراك أوباما مستعدا لممارسة الضغط على الإسرائيليين في القضية الأساسية، وهي المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية. وعلى الرغم من خطاب الرئيس أوباما الممتاز التي قدمه في القاهرة، فإن هذا لم يحدث، وذلك نظرا إلى الانحرافات في سياسة الولاياتالمتحدة بشأن أفغانستان ومعضلاتها الداخلية. لذا، فإن هذا يضع المزيد من الضغوط على الاتحاد الأوربي، وقد علمت للتو في قمة كوبنهاغن كم هو مهم بالنسبة إلى البلدان الأوربية أن تعمل معا بفعالية ونشاط أكبر على المسرح الدولي. وآمل أن السيدة أشتون، الممثل الأعلى لسياسات أوربا المشتركة الخاصة بالعلاقات الخارجية والأمن، سوف تعترف بأن الحرمان الذي يعاني منه سكان غزة يمثل تحديا كبيرا بالنسبة إلى الاتحاد الأوربي. وينبغي على أوربا أن تضطلع بدورها في مساعدتهم على إعادة بناء حياتهم المحطمة. إذا كنا غير قادرين على فعل شيء سوى إدخال 41 شاحنة فقط إلى قطاع غزة في العام المقبل وبعد سنة أخرى، فإن إعادة بناء هذا المجتمع ستكون مهمة تحتاج إلى قرون. الآن هو الوقت المناسب - بعد سنة كاملة من الهجوم على غزة - بالنسبة إلى الاتحاد الأوربي وحكومات الدول الأعضاء لكي تقول بوضوح لإسرائيل إن على الحصار أن ينتهي. كما أن الكلمات ينبغي أن تكون مصحوبة بإجراءات دبلوماسية فعالة. إن عدم التحرك هو بمثابة خيانة للعائلات التي ما زالت تعيش على أنقاض منازلها، في حين أن شاحنة محملة بمواد الإعمار في انتظار الدخول على بعد أميال فقط. وفضلا عن البؤس الذي يسببه هذا اليوم، فإنه يعد أيضا إرساء لجذور الصراع في المستقبل.