المُراكشي كائن ساخر وضحُوك بطبعه، وقديما قيل إن السُخرية هي سلاح الضعفاء ضد الأقوياء. وبالمدينة الحمراء التي تعاقبت عليها وجوه وأسماء من ثقل ووزن الباشا التهامي الكًلاوي المزواري في بطشه وحدة سلطويته، كانت سخرية المراكشيين موجهة ليس فقط إلى الضحك من السلطة بل امتدت حتى إلى الضحك من النفس والذات، لتعبر مجالات الحياة والهزء بها لنسيان المآسي ومعاكسة الألم بالضحك الأسود النافذ إلى القلب والروح والعقل. إحدى مدارس السخرية المراكشية هي التي كانت قد جمعت في الماضي القريب الفقيه الراحل السي محمد بينبين، الشاعر والعلامة الذي أمضى حياته يجالس ويؤنس الملك الراحل الحسن الثاني، بشاعر الحمراء محمد بن إبراهيم، الذي كرس حياته للهزء من مكر الحياة ومقالبها واشتهر بقصيدته الساخرة عن فأره الأليف الذي كان يتعايش معه في بيته المراكشي، وقيل إن ابن إبراهيم، غفر الله له، استعمل الفأر كمجاز وإنه كان يعني شيئا آخر «نال عطفه وحنانه قبل أن يفارق مكانه»، ويسأله في قصيدته: «يا ترى هل تهت عني أم نهاك الأبوان.. كنت لي خير أنيس نشط في كل آن». سخرية أهل مراكش طبع ومزاج وجب حفظه، ومن جالس الفقيه بينبين وشاعر الحمراء يعرف أكثر من غيره أن السخرية وجدت لتولد في مراكش وتمشي على رجليها وسط دروبها وأزقتها وأحيائها العتيقة، وكل الخوف اليوم من أن يزحف «ماكياج» الحداثة والمال وثقافة الاستهلاك التي تزينت بها المدينة الحمراء على ما تبقى من متنفس الضحك والهزل الأسود في نفسية المراكشي وطبعه ومزاجه الذي انساق وراء المصطنع البراق على حساب النقد اللاذع المُفرح للنفس والروح على مقياس ما قاله المتنبي في مصر ونستعيده هنا بتصرف: «كم ذا بمراكش من المضحكات، ولكنه ضحك كالبكاء». الجيل الجديد من المُراكشيين ممن يملؤون آذانهم بسماعات «إم بي 4 «، لم تعد تضحكهم حلقات ساحة جامع الفنا، والكثير من أهل المدينة الحمراء ممن كان لهم حتى حدود الأمس اكتفاء ذاتي من السخرية والضحك أصبح لديهم اليوم فقر كبير في المناعة من انشغالات الحياة التي كانوا في السابق يتفوقون عليها بسخريتهم اللاذعة والهادفة والذكية، والكثير هنا بمراكش أصبح يشتكي من ندرة الطبائع الساخرة التي كان المراكشي يعلقها على كتفيه كالنياشين، حتى إن أغنياء وعلية القوم في الماضي القريب كانوا يصاحبون أشخاصا بسطاء عرفوا بقوة سخريتهم التي كانت تضحك حتى الموتى في قبورهم، وكلهم عاشوا على كرم وجود البيوت المراكشية العريقة التي كانت تحسن إليهم تقديرا منها لما يتمتعون به من حس النكتة والقول الساخر. مُراكش، التي وصفت بكونها مدينة البهجة، أخذت تفقد اليوم سخريتها أمام امتلاء الشارع والفضاءين العام والخاص بوجوه عابسة ومُتكبرة لا يهمها سوى التفاخر باللباس والساعات والمجوهرات والعطور والأملاك والسيارات وارتياد المطاعم والكازينوهات وأرقام البورصة والأرصدة، تناسى أصحابها أن ما يتفاخرون به ويعتبرونه أعز ما عندهم يمكن أن يتهدم في لحظة ساخرة حين تسمع مراكشيا عتيقا جاثما فوق كرسيه الخشبي يعلق بعبارة «وِيتي وِيتي» على من كان حتى الأمس القريب ماسح أحذية واليوم يمر أمامه بسيارة «جاغوار» مع فتاة فاتنة في مقتبل العمر فقط لأنه تحول، في غفلة من الزمن والعباد، إلى سمسار أراضي، والعبارة المراكشية الساخرة إياها تعني ما تعنيه من أن الدنيا في مراكش «إذا أقبلت باض الحمام على الوتد، وإن أدبرت بالت الحمير على الأسد».