يقال إن الضحك لغة الأشقياء. وفي الأدب، كان الضحك دائما طريقة رمزية للتعامل مع السياسة، وشكلت السخرية آلة قوية لمواجهة تعنت الحكام، ووسيلة للتحايل على الرقابة والرقيب. ولكن السخرية لا تعني الضحك، دائما، بل هي، في الغالب، تعبير عن الحزن والقلق في النفس، ولذلك ابتدع النقاد شيئا اسمه السخرية المرة أو السوداء، لأن السخرية، أحيانا، تكون أشد تأثيرا على النفس من قول الكلام بشكل مباشر وصارم. وكان الجاحظ أشهر الكتاب العرب الساخرين في النثر، وقد وضع كتابه الشهير«البخلاء» للسخرية من طينة من الناس، وضمنه طرائف ونوادر عجيبة، وكانت تلك طريقة فنية في التعامل مع شريحة من المواطنين الذين كانت لهم نزعة شعوبية معادية للعرب وموقف مناوئ للخلافة العربية، لأن العصر العباسي عرف انتشارا واسعا للنزعة الشعوبية، بسبب اختلاط الأجناس وصراعها على دواليب الحكم. ولكن الكتابة الساخرة ليست متاحة لأي كان من الناس، فهي تستوجب قدرا معينا من التحايل على الكلمات ونباهة وقدرة على فهم الأمور بشكل مغاير أو الوقوف في زاوية غير التي ينظر منها الآخرون. ولهذه المواصفات جمعت السخرية كثيرين في أصقاع الأرض، التقوا في نقطة واحدة هي تلك الزاوية، وهو ما جعل شاعر الحمراء، محمد بنبراهيم، يلتقي مع بيرم التونسي، الشاعر المصري الشهير بكتابة أغاني أم كلثوم، الذي كتب في بداية القرن العشرين قصيدة جميلة يفضح فيها الفساد السياسي، فحورها شاعر الحمراء للسخرية من الفساد الاجتماعي. عنون التونسي قصيدته ب»المجلس البلدي»، فجعلها بنبراهيم «المعطم البلدي». بدأ التونسي قصيدته بالقول: «قد أوقع القلب في الأشجان والكمد» «هوى حبيب يسمى المجلس البلدي»... وبدأ بنبراهيم قصيدته بالقول: «إن كان في كل أرض ما تشان به» فإن في طنجة المطعم البلدي»... ولا يعرف لماذا ترك الشاعر المراكشي مدينته لكي يسخر من مطعم طنجاوي، أم أن مراكش، في تلك المرحلة من الخمسينيات، لم تكن بها مطاعم، وما إن كانت القضية فيها «شعوبية مدينية» مثل تلك التي سخر منها الجاحظ، أم إنها محاولة للسخرية من المستعمر في مدينة الشمال التي كانت منطقة دولية?. ويقول بيرم التونسي في قصيدته: «إذا الرغيف أتى، فالنصف آكلهُ» والنصف أتركه للمجلس البلدي وإن جلست فجيبِي لست أتركهُ خوفَ اللصوصِ وخوفَ المجلسِ البلدي وما كسوتُ عيالي في الشتاءِ ولا في الصيفِ إلا كسوتُ المجلسَ البلدي كَأنَّ أٌمّي بَلَّ اللهُ تُربتها أوصَتْ فقالت: أخوك المجلس البلدي»... أما بنبراهيم فيقول ساخرا من المعطم البلدي ونوعية الطعام التي تقدم فيه والروائح الكريهة التي تنبعث منه: «أما الطبيب فعجّلْ بالذهاب له» «إذا أكلت طعام المطعم البلدي»... الطرف في أرق والقلب في حنق والنفس في قلق في المطعم البلدي ويسخر التونسي من المجلس البلدي الذي يهيمن على حياة المواطنين ويعيث في الأرض إفسادا ورشوة، قائلا: «له من الجند أجلاف يفرقهم» ليجحفوا الناس باسم المجلس البلدي من كل جلف قفاه نصف جثته لمَ غاب عن هذا المجلس البلدي»... حتى مقام موتانا إذا نبتت فليس إلا بفأس المجلس البلدي أما بنبراهيم فيصطنع محاورة بينه وبين صاحب المطعم البلدي الثقيل: «فقلت مالي أرى هذا الذباب بدا» مثل الضباب بأفق المطعم البلد فقال إن فضول الناس يقلقني هذا الذباب ذباب المطعم البلدي فقلت: والبق؟ قال: البق ليس به بأس إذا كان بق المطعم البلدي فقلت: هاذي البراغيث التي كثرت ما بالها كبرت بالمطعم البلدي؟ فهزني كصديق لي يداعبني وقال: تلك جيوش المطعم البلدي فقلت: عفوا، ما لي من ملاحظة وإنني معجب بالمطعم البلدي»...