في سنة 2004 شكك طبيب في قرية بضواحي مدينة بينكل شرق تركيا في خطورة التقنية المستعملة في معامل النسيج، بعد أن أجرى عدة فحوصات طبية على مجموعة من الشبان سبق لهم أن عملوا في معامل تستعمل ما يصطلح عليه «حبيبات السليس»، التي تستخدم في عملية حك سراويل «الجينز» لتصبح بالية، والذين تبين أنهم مصابون بمجموعة من الأمراض الرئوية والتنفسية. كانت تلك المرة الأولى التي اكتشف فيها ذلك الطبيب، هذه الأمراض بين العاملين في قطاع النسيج بتركيا تسببت في وفاة 46 عاملا أصيبوا بمرض «Silicose»، كما سُجلت آنذاك 1.200 حالة إصابة بالمرض المذكور، وكانت النتيجة أن الحكومة التركية منعت « صابلاج» كليا وحظرت على الشركات الاشتغال به. خطورة هذه التقنية التي تستعمل في شركات النسيج، جعلتنا نطرح مجموعة من التساؤلات: هل سيعاد سيناريو تركيا في المغرب مستقبلا، خاصة أن العديد من شركات النسيج في المغرب تقوم بعملية حك وتلوين سراويل «الجينز»؟ هل يتم استخدام تقنية «الصابلاج بالرمل» المحظورة دوليا في الشركات المغربية؟ وهل هناك ضحايا لهذه التقنية من العمال والعاملات المغربيات؟ بمجرد وصولنا إلى الحي الصناعي، بعين السبع في مدينة الدارالبيضاء، كانت عقارب الساعة تشير إلى الثامنة صباحا، كان أول مشهد التقطناه هو ضجة الشارع بسيارات الأجرة وحافلات نقل العمال الخاصة. أسراب من العاملات والعمال، اختاروا القدوم إلى العمل مشيا على الأقدام، حاملين معهم أكياسا بلاستيكية تحتوي على وجبات لسد جوعهم خلال اليوم الطويل. أمام مشهد العمال وهم يسرعون خوفا من التأخر عن ميقات العمل، ارتأينا انتظار توقف حركتهم وسكون الحي الصناعي وغلق الشركات أبوابها، لنفتح الصفحة الأولى من كتاب رحلة البحث عن «الصابلاج القاتل» في شركات النسيج . لم أجد غير طريقة واحدة للدخول إلى إحدى الشركات وهي تمثيل دور شابة تبحث عن فرصة عمل. قرعت الباب الحديدي لإحدى الشركات وأنا أرتدي جلبابا باليا ومظهري يوحي بالحاجة إلى العمل، كانت تلك الشركة، بالقرب من ملتقى تقاطع الطرق، المؤدي إلى شاطئ عين السبع. أول شيء قام به الحارس وأنا أسأله عن فرصة عمل في الشركة، هو تعقبي بنظراته من رأسي حتى أسفل قدمي، سائلا عن درايتي بالمجال الذي أريد الاشتغال فيه، ليطلب مني الجلوس أمام باب الشركة، في انتظار ظهور أحد المسؤولين، لعلي أظفر بعمل في تلك الشركة. خلال فترة انتظاري للمسؤول قابلت «شروق» وهي تلميذة تبلغ من العمر 16 عاما، كانت تشتغل في شركة «الجينز» خلال عطلة الصيف، من أجل شراء لوازم الدراسة، حالها كحال باقي التلاميذ الذين يضطرون للعمل في الصيف لتغطية مصاريف الدراسة، كانت سعيدة لأنها تنتظر المحاسب لتتقاضى أجرتها الأخيرة. تحكي لي شروق التي كانت تجلس على عتبة المعمل: «بالنسبة لي أعمل دائما في فصل الصيف، وخلال اشتغالي بهذه الشركة لم يكن يسمح لي بالاشتغال في حك وتلوين سراويل الجينز، لأن المسؤول عن العاملين من أقاربي». وأضافت بأنها كانت تشتغل في طي السراويل وترتيبها، ومع ذلك تؤكد أن رائحة المواد الكيميائية كانت تخنقها، بالإضافة إلى صوت الآلات المزعج . في حديثها ل»المساء»، أكدت شروق أن العمال أثناء الصباغة وحك سراويل «الجينز» لا يضعون الواقي، بل يشتغلون بطريقة وصفتها ب»العشوائية»، مؤكدة أن ما يسمى بتقنية «السفح الرملي» أي حك سراويل الجينز بالرمل (صابلاج) أو بالمواد الكيميائية كانت تتم ليلا. صناعة الموت جلست قرابة ساعتين ونصف وأنا أنتظر أمام باب الشركة، في ذلك اليوم المشمس، إلى أن جاء المسؤول واستمع إلي وقام بإدخالي إلى ردهات الشركة، للوهلة الأولى لفتت انتباهي ملامح العاملين الشاحبة من كثرة التعب والوقوف طيلة النهار، لكن لم أتمكن من رؤية القسم الخاص «بالصابلاج» لكون الغرف كانت معزولة ومغلقة، وعملي بدأ بطي وترتيب سراويل «جينز». بعدها طلب مني المسؤول بصيغة «الأمر» الاشتغال واقفة، إلى أن ينتهي من أعماله، امتثلت لأوامره وأنا أراقب العمال وأترقب أي فرصة لأسألهم عن ظروف الاشتغال. كان أغلب عمال الشركة مهاجرين جاؤوا من القرية إلى المدينة، أو تلاميذ مدارس، يعملون بدون رفع رؤوسهم خوفا من «الباطرون». عقب انتظاري الطويل للمسؤول جاء رده، حيث رفض تشغيلي بحجة أنهم ليسوا في حاجة إلى عاملات جديدات وأنه سيتصل بي للاشتغال في معمل آخر في «مديونة». غادرت الشركة على أمل أن يتصلوا بي قريبا، وقمت بجولة بعدها في أزقة الحي الصناعي أبحث عن عمال يشتغلون في شركات تصنيع «الجينز» لألتقي ب»محمد «، كان شابا في العشرينات من عمره، وكان في يوم راحة، أبدى رغبته في مساعدتي لكنه لا يعرف أسماء المواد التي يشتغلون بها، فقد أكد في تصريحه، أنه خلال عمله في حك الجينز «الصابلاج» كان الغبار يتسرب إلى أنفه، ولكنه لم يكن يبالي بالأمر فهمه الوحيد كان هو كسب قوت يومه، خاصة أنه المعيل الوحيد لأسرته، ولا يتوفر على بديل آخر للاشتغال لعدم توفره على دبلوم يمكنه من ذلك. محمد الذي التقيته في ذلك المساء، كان نموذجا للعاملين الذين يشتغلون في قطاع النسيج ويجهلون أسماء وطبيعة المواد التي يشتغلون بها، الأمر الذي دفعني إلى البحث عن عمال آخرين لديهم خبرة أكثر وسنوات اشتغال أكبر في المجال، ولذلك ارتأيت انتظار موعد خروج العمال في ساعات متأخرة من الليل، بمساعدة محمد الذي كان على معرفة بأحد العمال، التقيناه بالقرب من إحدى المقاهي بعد خروجه من الشركة، لأسأله عن أسماء المواد التي يستعملونها، فأجاب بعفوية قائلا: «نستعمل حجر البركان في تلوين الجينز وحبيبات السليس وبرمنجانات بوتاسيوم في حكه «الصابلاج»». لم تتوقف أسئلتنا عند هذا الحد بل سألناه أيضا إن كان هناك عمال اشتغلوا معه في الشركة نفسها ومرضوا بأمراض رئوية وتنفسية خلال فترة عملهم، فرد علينا، «صعيب غير السل فجيب»، مضيفا أن زميلا له مرض بالسل وأصيب بهزال شديد مع صعوبة في التنفس، ومع ذلك لايزال يشتغل في «الصابلاج» بالرمل. كما تحدث عن حالة صديقه المعوز الذي لا يملك المال لزيارة اختصاصي لتشخيص وضعه، وشراء الأدوية لتخفيف الألم. برفقة صديق محمد كان يجلس بوشعيب «اسم مستعار»، الذي أكد بدوره الواقع الصحي الصعب لعامل «الصابلاج» فهو أيضا يعاني من مرض مزمن، ولكنه يأبى ترك عمله لأن الفقر والحاجة بالنسبة له أصعب من الموت، وفي طي حديثه عن مرضه وألمه، تحدث «بوشعيب» بحرقة عن حالة مجموعة من العمال الذين يعرف بعضهم والذين يؤكد بأن حالتهم تصعب على «الكافر»، فظروفهم الصحية صعبة ومع ذلك مستمرون في العمل لإعالة أسرهم، وقد ضرب لنا موعدا في صباح اليوم الموالي، من أجل لقاء رقية، نحيلة وطويلة القامة، سمراء البشرة، تعمل خياطة في معمل، زرناها في بيتها في حي البرنوصي في الدارالبيضاء، في البداية رفضت الحديث عن حالة زوجها المريض بمرض مزمن «سيليكوز» أو ما يصطلحون عليه في الأحياء المهمشة «مرض الصومال»، لكن «بوشعيب « الذي رافقني أقنعها بالحديث وبدد جميع تخوفاتها، فسمحت لنا برؤية زوجها المريض وهو طريح الفراش، خوف رقية كان نابعا من ظنها أن حديثها معنا سيتسبب لها في الطرد من العمل، خاصة أنها المعيلة الوحيدة لأسرتها بعد مرض زوجها، لذلك اختارت أن يحكي زوجها عن مرض بدون كشف اسمه الحقيقي، فاخترنا له اسم مستعار»كريم»، هو بالغ من العمر 44 عاما، بنيته نحيفة جراء تفاقم وضعه الصحي، يجلس في غرفة مظلمة بعينين جاحظتين ، وبصوت عاجز عن النطق ، إلا بعض الكلمات التي تمكنا من سماعها يقول كريم: « لم أتخيل يوما أن حالتي الصحية ستتدهور إلى هذه الدرجة، لقد أصبحت عاجزا عن الحركة» يعيش كريم بين المرض والفقر المدقع، بعد اضطراره للبقاء في البيت وترك العمل بسبب عجزه، وخلال الحديث صرح كريم أن سبب مرضه يعود إلى اشتغاله في «الصابلاج»: «إبان اشتغالي في الجينز كنت أسمع العمال يقولون إن المواد التي نستعمل خطيرة، لأني كنت أشتغل في حك جينز بالرمل داخل غرفة صغيرة لساعات طويلة، وكان الرمل مثل حبيبات زجاج صغيرة، بيد أني لم أكن أكثرت لأن همي الوحيد، هو الحصول على راتب وإعالة أسرتي، لكن بعدما تدهور وضعي الصحي زرت الطبيب واكتشفت أني مريض بالسيليكوز». يعيش كريم متأزما بسبب وضعه الصحي، الذي جعل بنيته نحيفة جدا إلى درجة أن عظامه أضحت بارزة، كما أصيب بسعال جاف وتعب، ومشاكل في تنفس تنضاف إلى وضعيته المادية المعوزة. اختار كريم أن يودعنا بعبارة: « أنا انتظر الموت.. لكني أخاف على مستقبل أسرتي بعدي». كان يقولها والدموع تنهمر من عينيه، متنهدا تنهيدة عميقة محاولا إخراج الحزن الذي يقبع داخله، وكانت نظراته يائسة تكشف واقع عامل سابق في «الجينز» . «الصابلاج» القاتل علامات الأمراض التي قد تصيب العامل في تقنية «الصابلاج» التي تستعمل في حك «الجينز»، من تعب وصعوبة في التنفس، وهزال شديد، جعلتنا نبحث عن علاقة الاشتغال في شركات «جينز» بها، فكانت أول خطوة نقوم بها هي البحث عن تقارير وطنية توفر لنا معطيات بخصوص الموضوع، غير أننا للأسف لم نجد أي دراسات تكشف اللثام عن هذا الموضوع « الغامض» الذي تتكتم عنه معظم الشركات. ولمعرفة العلاقة بين العمل في شركات الجينز والإصابة بهذه الأمراض راسلت «المساء» المنظمة العالمية Clean Clothes Campaign، (حملة الملابس النظيفة)، التي تضم أكبر عدد من النقابات والمنظمات غير الحكومية التي تنشط في قطاع النسيج. في جوابها أكدت المنظمة ل»المساء» أن تقنية حك الجينز بالرمل (الصابلاج ) هي تقنية خطيرة جدا لكونها تحتوي على مواد قاتلة. جواب المنظمة لم يأت من فراغ، فقد أرسلت لنا مجموعة من التقارير التي تكشف بالملموس، خطورة تقنية ما يسمى «السفح الرملي» التي تستعملها معظم الشركات التي تشتغل في «الجينز»، حيث كشفت أن هذه التقنية تتسبب للعاملين فيها بأمراض قاتلة، من بينها مرض «السحار السيليسي» أو ما يصطلح عليه ب «Silicose» وهو مرض يصيب الرئة بسبب استنشاق العاملين لجسيمات ثنائي أكسيد السيلكون، الذي يدخل في مكونات الرمل. فهذه الجسيمات، تضيف المنظمة، تلتصق بالرئة، وتتسبب للعامل في صعوبة التنفس مع الكحة و الهزال وانخفاض الوزن. وهذا المرض يجمع الأطباء على أنه ليس له علاج، ويؤدي إلى الوفاة في كثير من الأحيان . وأشارت المنظمة إلى أنها سبق وطالبت الشركات التي استعملت هذه المادة في جميع دول العالم، التي تتواجد فروعها بها، بتقديم تعويضات وتوفير الرعاية الصحية للعمال المصابين بمرض (السيليكوز) ، وأكدت أنه «لم يعد كافيا الآن أن تعلن الشركات أنها توقفت عن استعمال تقنية السفح الرملي، بل يجب على الشركات تحمل مسؤوليتها وتوفير العلاج لأولئك العمال الذين أصيبوا بالمرض جراء استعمالهم للتقنية المذكورة، لأنه من دون ذلك سيواجه هؤلاء الأشخاص موتا رهيبا». وورد في التقارير التي توصلت بها «المساء» أن ماركات عالمية مثلLevi Strauss & Co و H&M أعلنت امتناعها عن استعمال تقنية السفح الرملي لإضفاء مظهر بالي على سراويل الجينز. وبعد عدة ضغوطات من منظمات حقوقية، أعلنت شركات أزياء أخرى أنها امتنعت أو ستمتنع عن استعمال تقنية السفح الرملي، التي تشكل خطرا على حياة العاملين بمعامل النسيج. من خلال التقارير التي تم الإطلاع عليها، وبعد إدراك خطورة تقنية «الصابلاج» بالرمل، ربطت «المساء» الاتصال بخبير في مجال النسيج، أبدى رغبته في التعاون، لكن بحكم طبيعة عمله رفض الكشف عن اسمه، ورغم ذلك لم يتردد في الكشف عن خبايا بعض شركات الجينز في المغرب أو بالأحرى «الصابلاج القاتل». يقول في هذا الصدد: «إن نصف الشركات والمعامل التي تشتغل في «الجينز» بالمغرب تستعمل في عملها مواد محظورة دوليا، من بينها مادة تدعى «سيليس» وهي عبارة عن (حبيبات رملية)، هذه التقنية يضيف الخبير، ممنوعة دوليا، نظرا للأضرار الصحية الناجمة عنها، والتي تصيب بالأخص العاملين بها. وذكر المتحدث، أيضا أن تقنية السفح الرملي (صابلاج) تستعمل في معامل النسيج لإضفاء الشكل البالي على سراويل الجينز. وتتم هذه التقنية بدفع الهواء المضغوط بالرمل من خلال خرطوم يخرج من آلة لإزالة الطبقة الأولى من صباغة سراويل الجينز، مضيفا بأن الشركات تستخدم في ذلك آلات ذات عجلات تتحرك ريشاتها بسرعة لدفع كاشطات المعادن، وأضاف قائلا: «يفضل أرباب معامل النسيج هذه الطريقة لأنها سريعة وقليلة التكلفة غير أنها قاتلة». وقال المصدر ذاته: «إن بعض المعامل وشركات النسيج في المغرب تستعمل مواد كيميائية لتبييض الجينز وهي أيضا تحتوي على مواد مضرة بصحة العامل، وأيضا هناك معامل غير مهيكلة تعتمد هده المواد المحظورة دوليا في عملها، ولا تكترث لصحة العمال في ظل غياب جهات مختصة تتكلف بمراقبة سير هذه المعامل». وذكر الخبير، أيضا، أن الشركات التي تحترم معايير الجودة تواجه مشاكل عدة أهمها تكلفة اليد العاملة والمواد الأولية، مما يخلق لديها صعوبات في تسويق منتوجاتها في السوق، لأن باقي المعامل تبيع بثمن أقل وبالتالي تخسر المنافسة أمامهما، لهذا نجد بأن الكثير من الشركات تعتمد تلك التقنية لثمنها البخس. صمت العمال بسبب عمله مع شركات النسيج لسنين طويلة يقول الخبير الوحيد، الذي تمكنت «المساء» من الحديث معه: «خلال مدة عملي، لاحظت كيف كان بعض المسؤولين في هذا القطاع يتفقون في ما بينهم، لمعرفة سلوك العمال قبل تشغيلهم، فبمجرد التحاق العامل بإحدى الشركات يتم استفساره عن خبرته في المجال وهل سبق له الاشتغال فيه، وعند رده بالإيجاب يتم ربط الاتصال بالشركة المشغلة التي قامت بطرده، للاطلاع على سيرته الذاتية، فالمسؤولون حسب الخبير يتخوفون من العمال المزعجين الذين يطالبون بحقوقهم، وفي اختياراتهم لهم يعتمدون على أناس «دراوش» همهم هو الحصول على لقمة العيش بأي ثمن حتى ولو كان على حساب صحتهم. وحسب الخبير، فإن العديد من العمال يرفضون الخوض في الحديث عن تجربتهم مع شركات «الجينز» لخوفهم من الطرد ومن ضياع مستقبلهم رغم مرضهم في بعض الأحيان، فهم يصمتون ولا يخبرون به زملاءهم خوفا من بلوغ الخبر للمسؤول فيقوم بطرد العامل، لأن المرضى لا مكان لهم في تلك الشركات التي تتهرب من مسؤوليتها ولا تعوضهم عن أمراضهم المهنية. «الصابلاج» بالرمل لا يؤثر فقط على صحة الإنسان بل على بناء الشركة، يقول خبير النسيج الذي تحدثنا إليه: «لازلت أتذكر آخر زيارة قمت بها لأحد المعامل جينز بالحي الصناعي في عين السبع بالدارالبيضاء، لقد كانت الشركة مظلمة مليئة بالقاذورات والثقوب على الحائط بسبب قوة الصابلاج «، مشيرا إلى أن الصابلاج يمكنه إزالة صباغة سيارة بأكملها خلال 20 دقيقة، فما بالك بجسد الإنسان. أبواب موصدة عقب اكتشافنا لعالم «الصابلاج القاتل» من خلال ما صرحت به المنظمة الدولية وما صرح به الخبير المغربي في مجال النسيج، قابلنا إبراهيم، وهو شاب في الثلاثينات من عمره، بحكم اشتغاله في تحميل «الجينز» في الشاحنة، حدثنا في هذا الصدد قائلا: «الشركة التي اشتغلت فيها كانت تستعمل الرمل الذي كانوا يستوردونه من الخارج لحك الجينز والرمل يتكون من زجاج صغير، لقد كان العمال يقومون بالصابلاج في غرفة مغلقة، ويشتكون من تسرب الزجاج الصغير إلى أعينهم.» إن استعمال مادة «حبيبات السيليس» التي تتواجد في الرمل الذي يستعمل في عملية «الصابلاج»، أسفرت عن أضرار صحية لبعض العمال، يضيف إبراهيم: « لقد أصيب عدد من العمال بأمراض مزمنة ولكن الشركة كانت تطردهم وتشغل آخرين في مكانهم عوض تحمل تكاليف علاجهم، وبعد مغادرتهم الشركة كان صعبا علينا معرفة ومتابعة ظروفهم الصحية «. خيمت حالة من «السكون» للحظات ثم استأنف الحديث مرة أخرى قائلا: «لازلت أتذكر مشهد أحد العمال وهو يصارع الموت بعدما أصيب بمرض مزمن في الرئة لقد كان يشبه مواطني دولة الصومال». وفقا لتصريحات إبراهيم وجل من قابلناهم، فقد تم التأكيد على أن بعض معامل وشركات الجينز، تشغل العديد من العمال ونادرا ما يتمكن العامل من الاستمرار في عمل في هذا المجال لسنوات طويلة وإذا رغب في ذلك فان الشركة تفاجئه بإغلاق أبوابها والانتقال إلى مدينة أخرى، أو بلد آخر. عبودية في زمن الموضة في بيت مصطفى بدرب السلطان في الدارالبيضاء، كنا على موعد معه، للحديث عن تجربته في الاشتغال بإحدى شركات الجينز بحي ليساسفة، استقبلنا في بيته ولم يتردد في سرد ما رآه في شركة الجينز التي أغلقت أبوابها في وجه العمال، وانتقلت إلى الهند، كان يدرك خطورة المواد التي يشتغل بها، بحكم اشتغاله في مختبر الشركة، فهو حاصل على الإجازة في الكيمياء، لقد أبدى مصطفى تجاوبا كبيرا مع الموضوع لأنه يدرك خطورة الأمر، ويقول بهذا الصدد لقد كنا نحن قلة من نعرف بأن هذه المواد خطرة ومحظورة في أوروبا ولكن أغلب العمال الوافدين من البادية كانوا يجهلون ذلك. كان يحاول أن يسترجع أهم المشاهد التي عاشها في تلك الشركة قائلا: «لا يمكن أن أنسى مظاهر العبودية في تلك الشركة وكيف كان العمال يشتغلون فيها كالعبيد، بعقود عمل مؤقتة وسط مواد قاتلة» . كما أكد مصطفى أن الشركة لا يقتصر عملها على مادة «السيليس» في تقنية الصابلاج ولكنه كشف لنا أنها تستعمل مواد سامة أخرى مسرطنة، فبحكم أنه كان قريبا من المسؤولين كان يدرك جيدا خطورة هذه المواد، يتابع: «لازلت أتذكر كيف كان المدير الإسباني ينزعج عندما يجد العمال لا يضعون واقيا على وجوههم، حيث كان يصرخ قائلا إنها مواد خطيرة، ولكن العمال لا يكترثون لذلك». إن فقر العمال وحاجتهم للعمل، تضعهم في موقف ضعف، لاسيما أنهم يعتبرون أن هذا العمل فرصة أمام قلة فرص الشغل، يقول مصطفى: «لقد مرض أحد العمال بداء السل بسبب الصابلاج، وذهب إلى مستشفى عمومي، ثم عاد إلى العمل على الرغم من أنه مريض». وعلى الرغم من أن مصطفى لم يشتغل في (الصابلاج)، إلا أنه أيضا أصيب بمرض مزمن بسبب المواد الكيميائية الأخرى التي كان يشتغل بها، مما انعكس سلبا على صحته وتسبب له في فقدان وزنه وشعره و ظهور مرض جلدي على يديه، وبذلك دفع مصطفى ضريبة العمل في شركة جينز، رغم أنه ترك العمل ومرت سنوات على ذلك. إذا كان مصطفى الذي لم يشتغل في الغرف المغلقة لحك الجينز بسيليس (الصابلاج) قد أصيب بداء مزمن، فكيف سيكون حال باقي العمال الذين مارسوا المهنة داخل الغرف المغلقة؟ وكيف سيكون وضع من غادروا الشركة قبل إدراك أنهم مرضى؟ وما مصير من يشتغلون الآن بدون أن يدركوا خطورة هذه المواد؟ وهل هناك أطباء يزورون تلك الشركات لمعاينة الحالة الصحية للعمال؟ للإجابة على هذه التساؤلات ربطنا الاتصال بأحد العمال، الذي يشتغل حاليا في شركة للجينز وراكم تجارب في عدة شركات أخرى، حيث كشف لنا سرا آخر قائلا: «لقد اشتغلت في العديد من المجالات وكنا دائما نستفيد من زيارة الطبيب، لكن مجال الجينز الوحيد الذي لم يزرنا فيه الطبيب يوما». وأضاف المصدر ذاته قائلا: «إن هذا المجال يعاني من غياب حماية العمال بالإضافة إلى غياب المراقبة الطبية». فمجال الجينز ينبغي أن يتوفر على أطباء متخصصين في الجهاز التنفسي، يقومون بتشخيص الحالات بالأشعة ، فالعمال يضيف المتحدث «لايدركون أنهم مرضى إلا بعد فوات الأوان». ودعا المتحدث ذاته الى ضرورة تشكيل لجان لمراقبة ظروف العمل في شركات الجينز، تعمل على تحقيق الظروف المتفق عليها دوليا في قطاع النسيج قائلا: «نحن نرغب في شركات تشغلنا، في ظروف صحية لا ندفع فيها الضريبة من صحتنا» . وجهة نظر أخرى للحديث في الموضوع ومقاربته من مختلف الزوايا، اتصلت «المساء» بمصدر مسؤول، يشتغل في إدارة إحدى الشركات الكبرى التي تعمل في قطاع النسيج، والذي كشف عن كون السياسات التي يتم نهجها من لدن بعض شركات النسيج التي تشتغل في «دجينز» هو أنها «لا تستخدم الصابلاج برمل سليس، وتحترم المعايير الدولية ولكنها تتعامل مع معامل غير مهيكلة هي التي تقوم بصابلاج برمل سليس « شارحا أن العمل بتلك المواد السامة يكون غالبا في الليل».. وأشار المصدر ذاته الى أن بعض الشركات أصبحت تتوجه الى تشييد معامل في نواحي العالم القروي لأن العاملين في القرى يتقاضون أجورا أقل، لاسيما أن العمل في جينز أفضل بالنسبة لهم من العمل في الحقول، مضيفا أنهم يستغلون جهل وعدم دراية هذه الفئات «بالصابلاج القاتل». تعميق البحث أكثر في الموضوع كان يستدعي منا ربط الاتصال بإحدى الشركات التي تستعمل تلك التقنية، لكن مع بداية الحديث تم رفض إعطاء أي إجابة بخصوصه، دون منحنا أي مبرر، فخلال التحقيق واجهتنا عدة عراقيل سببها أن الشركات تتكتم على الموضوع ولا تعطي أي تصريح بخصوصه للإعلام فهو بمثابة موضوع «طابو» لا يمكن الحديث عنه، مما جعل من الصعب تحديد عدد العمال المغاربة الذين أصيبوا بمرض السحار السيليسي أو مرض سرطان الرئة، كما جعل من الصعب التعرف على عدد المعامل غير المهيكلة، التي تشتغل في المجال بسبب غياب إحصاءات دقيقة. داء بدون دواء في تصريح سابق لموقع بي بي سي، البريطانية، اطلعت عليه «المساء»، صرحت الدكتورة ليليان كابوني، أخصائية في أمراض الرئة والطب المهني وأستاذة بجامعة بوينس ايرس، قائلة إن مرض سحار سيليسي « Silicose» وهو مرض يصيب الرئة بسبب استنشاق جسيمات ثنائي أكسيد السيلكون، الذي يدخل في مكونات الرمل والذي يلتصق بالرئة، مشيرة إلى أن هذا المرض ليس له علاج. أما بخصوص الإجراءات الوقائية فقد أكدت في تصريحها، أن الأقنعة الجراحية العادية لا تقي من الإصابة بهذا المرض، لأنها تسمح باستنشاق جزيئات ثاني أكسيد السليكون. وأن ثمة أقنعة جراحية خاصة، لكن لن تجد أي عامل مستعد لوضعها لست ساعات متتالية، لهذا فإنها تعتبر غير فعالة أيضا. وأكدت الدكتورة المتخصصة في أمراض الرئة بأن الصمت المطبق حول هذا المرض وانعكاساته يعود للسلطة الاقتصادية لبعض الشركات التي تستعمل تقنية السفح الرملي (الصابلاج). كما أشارت إلى أن شركات التأمين على حوادث الشغل تغض الطرف عن هذا المرض، أضف إلى ذلك أن معظم العمال يخشون فقدان وظائفهم، خاصة أنها لا تتوفر على نقابات عمالية تسهر على التحسيس والتوعية بخطورة هذا المرض. بالإضافة إلى أن الجهات المعنية تضيف الدكتورة تتجاهل هذا الواقع خدمة لمصالح الشركات.
أزيد من 60 % من المقاولات بالمغرب لا تتوفر على مصالح طب الشغل – بخصوص العمال في قطاع النسيج، الذين يصابون بأمراض في الجهاز التنفسي، كالسل، والسيليكوز ومن بينهم من يكتشف المرض بعد خروجه من العمل، هل سبق وأدرجتم هذه القضية في ملفاتكم المطلبية؟ مما لاشك فيه أن قطاع النسيج بالمغرب يشغل ما يقارب 175 ألف فرد أي ما يمثل 40 في المائة من مجموع اليد العاملة الصناعية، ويساهم بأزيد من 25 في المائة من الصادرات، كما يحقق أرباحا مهمة جدا وبحكم تنوع أنشطة صناعة النسيج، التي تختص في إنتاج منتجات الغزل والنسيج، وتزيين النسيج، والزرابي.. وتستعمل به مواد قد تكون لها مخاطر وأضرار بصحة العاملات والعمال. فقطاع النسيج يعتبر من أكثر القطاعات الصناعية هشاشة، يشغل أيدي عاملة فقيرة 90 في المائة منهم نساء . أغلبهن لا يحصل على الحد الأدنى للأجور يشتغلن في ظروف شاقة ساعات طوال غير قانونية وفي بيئة مهددة بمخاطر الحوادث والأمراض المهنية. فضلا عن عوامل غير مهنية مثل الأمراض الوبائية المتنقلة وقلة النظافة وسوء التغذية… وهي التي تؤدي إلى أمراض كالسل والتسمم بالمواد الكيماوية …فالصحة والسلامة المهنية للعمال تعتبر بالنسبة لنا كنقابة من أولوية الأولويات في الدفتر المطلبي وفي الحوارات الاجتماعية. – حسب شهادات العمال فإن بعض المعامل في شركات النسيج وخاصة جينز، لا توفر للعمال تغطية صحية وأيضا لا يخضعون لمعاينة طبيب الشغل، على الرغم من اشتغالهم في مواد تؤثر على الجهاز التنفسي، ما هي قراءتكم لهذا الوضع؟ المغرب يسجل حوادث وأمراضا مهنية الأكبر في بلدان منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط في مجال حوادث الشغل والأمراض المهنية، بحيث تسجل سنويا 48 إصابة فرد في كل 100 ألف أجير أو مستخدم. اعتقد جازما أنه رغم مصادقة المغرب على الاتفاقية الدولية رقم 187 لمنظمة العمل الدولية والمتعلقة بالصحة والسلامة المهنية، وتنصيص مدونة الشغل على أن تتوفر لدى كل المقاولات التي تشغل أكثر من خمسين عاملا مصلحة لطب الشغل. فإن حوالي أزيد من 60 % من المقاولات بالمغرب لا تتوفر على مصالح طب الشغل. كما أن نسبة التغطية بمصالح طب العمل على الصعيد الوطني لا تتجاوز 3.5 % من السكان النشيطين. علاوة على أن عدد أطباء الشغل حاليا حوالي 1000 طبيب.يمارس أغلبهم بالقطاع العام. وبالنظر إلى هذا الخصاص وعدم احترام مدونة الشغل، فإن المخاطر تزداد بالنسبة للعاملات وللعاملين. فنسبة الإصابة بالأمراض المهنية وسط العاملات مرتفعة جدا ويجدن أنفسهن بين المطرقة والسندان، إما توقف العاملة عن العمل من أجل متابعة العلاج وهذا سيؤدي حتما إلى الاستغناء عنها من طرف رب المقاولة ودون تعويض أو حتى تغطية نفقات العلاج إما أنها تضطر للذهاب إلى العمل رغم مرضها لتغطية متطلبات عيش أسرتها، وفي هذه الحالة تزداد حدة مرضها وإن كانت مصابة بالسل فالمرض معد جدا ويمكنه أن يتفشى بسهولة في صفوف العاملات. – ماهي الحلول المقترحة من طرف المنظمة الديمقراطية للشغل؟ ففي اعتقادي أن الأمر خطير ويستوجب أولا تحيين القوانين المتعلقة بالصحة والسلامة المهنية، ثانيا إجبارية التطبيق عبر عمليات التفتيش والزجر والمراقبة الطبية الدورية من طرف وزارة الصحة للشركات التي تشغل أكثر من 50عاملة، وعموما ضرورة التوفر على إستراتيجية وطنية واضحة المعالم لمواجهة المخاطر المهنية وما تتسبب فيه من أضرار اجتماعية للعاملين ضحايا الأمراض المهنية وحوادث الشغل وأضرار اقتصادية على المقاولات. والعمل على توعية وتثقيف المواطن .