في غياب الوقاية والسلامة في المعامل والمقاولات، وفي غياب وسائل وإمكانيات الفحص والتشخيص والتشريع تعرف الأمراض المهنية تزايدا مستمرا.. ورغم ارتفاع الحالات، يعاني قطاعا الصحة والشغل من نقص حاد على مستوى الفحص والتشخيص والعلاج في مجال التطبيب، وأيضا على مستوى التقنين والتشريع بخصوص مدونة الشغل والتعريف القانوني بهذا النوع من الأمراض والنتيجة ضياع حقوق ضحايا الأمراض المهنية من العمال والمستخدمين... مصطفى لا يدخن السجائر ولا يشرب الخمر ومع ذلك أصيب بسرطان الرئة! تفاجأ للأمر وتفاجأت أسرته وزملاؤه معه لهذه الكارثة. بحث عن السبب بمساعدة طبيبه الذي استفسره عن محيطه الأسري وعن عاداته اليومية... تعجب الطبيب لإصابة السيد كوكة بهذا المرض الفتاك رغم غياب بعض العادات السيئة والمضرة لديه كالسجائر والخمر، فشك في علاقة المرض بمحيط العمل فاستفسره عن محيطه المهني. وهنا بطل العجب وظهر السبب...! إنه يعمل بمصنع لإنتاج الألواح المموجة والمسطحة وهي عبارة عن سقوف اسمنتية تدخل في صناعتها مادة الأميانت القاتلة... أغلبية الناس يجهلون أن ما يزينون به سقوف المصانع التي يملكونها أو التي يعملون بها أو الفيلات التي يسكنونها قد نخر صحة المئات من العمال والمستخدمين ضحايا مادة الأميانت الأساسية لصناعة هذه السقوف...! مصطفى لم يكن يعرف وزملاءه خطورة هذه المادة على الصحة؛ وبالتالي لم يتخذوا الاحتياطات اللازمة والضرورية للوقاية من أخطارها وتفادي أضرارها على صحتهم، كما أن المشغل لم يخبرهم بذلك ولم يقم بما هو واجب عليه تجاههم ليضمن لهم العمل في محيط صحي سليم.. مصطفى، المزداد بتاريخ 1952 بالبيضاء، واحد من مئات الضحايا الذين نخرت مادة الحرير الصخري «لاميانت» الفتاكة صحتهم، يقول:«أشتغل في مصنع لصناعة الألواح المموجة والمسطحة التي تستخدم في صناعتها مادة «لاميانت» منذ أكثر من 30 سنة وعمري الآن 59 سنة، أب لستة أطفال. لم أكن أعلم بخطورة هذه المادة المدمرة للصحة والتي عصفت بأرواح مئات من الأشخاص ومن بينهم أبي الذي كان يشتغل بمادة لاميانت لمدة 20 سنة.. أنا كذلك مهدد بنفس المصير. إن صحتي انهارت بسبب هذه المادة، وهي تتدهور يوما بعد يوم. وقد خضعت لفحص طبي من طرف أطباء مختصين في هذا المرض. وقد بينت الفحوصات أنني مصاب بمرض (لاسبسطوز). وقد نتجت عن الدواء الذي أتناوله لعلاج هذا المرض، أمراض أخرى مثل مرض المعدة والأمعاء وتدهور في القلب وهشاشة في العظام. وأنا أعاني من هذا المرض منذ سنة 1994. لم يسبق لي ولا لزملائي في العمل التعرف على هذا المرض الخطير، نظرا لأننا لم نكن نعلم بخطورة هذه المادة الفتاكة التي كانت تأتينا مستوردة من دول أجنبية ككندا وغيرها من الدول خلال السنوات الماضية. ومن خلال الفحوصات التي أجريناها بمستشفى 20 غشت تبين للأطباء المختصين أننا مصابون في الجهاز التنفسي بمرض (لاسبسطوز) ولنا شواهد طبية تثبت إصابتنا بهذا المرض المهني. ولهذه الأسباب لن نقدر على مزاولة أي عمل آخر. ونحن مهددون بالموت بسبب تعرضنا لمادة لاميانت». يطالب مصطفى وزملاءه في العمل وفي المرض وزراء: الصحة والشغل والعدل وحقوق الإنسان بتحمل مسؤولياتهم تجاه المواطنين حصوصا البسطاء والفقراء... يقولون: «عليهم التدخل من أجل منع استعمال هذه المادة أو على الأقل تقنين استعمالها وتخفيض مدة العمل بالمصانع المصنعة لها من 60 إلى 50 عاما على الأقل. وأن يعوضوننا عن المرض الناتج عن التعرض لها بتغطية صحية كاملة وأجرة 100% عند ثبوت العجز، وأن تستمر التغطية الصحية الكاملة حتى بعد التقاعد.». هناك العديد من المهن المعترف بها، في الدول الغربية، كمهن خطيرة يمكن أن تسبب أمراضا مهنية. المغرب متأخر جدا في هذا الشأن، فهناك العديد من الأمراض لم يتم الاعتراف بها كأمراض مهنية، حيث هناك مهنتان أو ثلاث فقط تدخل ضمن التعويض والاعتراف بكونها مهن يمكن أن تؤثر على الجهار التنفسي كالعمل بمناجم الفحم الحجري (السيليكوز) وهو نوع من الغبار الضار بالصحة يمكن أن يتسرب إلى الجهاز التنفسي ويؤثر سلبيا على صحة العامل، حيث يسبب قصورا في التنفس وأيضا سرطانا في الرئة، الحساسية، الالتهابات المزمنة للقصبة الهوائية والشجرة التنفسية، التعفنات الرئوية الناتجة عن العمل في الضيعات بالبادية، مثلا، داء السل. ومن المواد المسرطنة التي لها علاقة مباشرة بمحيط العمل هناك الهيدروكاربونات، السيليكوز والأميانت والغاز المستعمل في قنينات الغاز، وهي مواد تنتج عنها أمراض سرطانية بعد أعوام قليلة للتعرض لهذه المواد. لذلك يجب على الدولة والمستخدِم التكفل بضحايا الأمراض المهنية. منذ أكثر من خمسين سنة، اعتبرت مادة الحرير الصخري «لاميانت» المستعملة في البناء من ضمن المواد القاتلة والمسببة في السرطان. فهي من المواد المؤثرة سلبا على صحة المواطنين. وهي مادة تستعمل بشكل كبير في صناعة مواد البناء نظرا لصلابتها. وللإشارة، فقد تم في الولاياتالمتحدةالأمريكية حظر استعمال مادة الحرير الصخري منذ أكثر من 30 سنة. كما تم منع استعمالها بفرنسا منذ سنة 1997، نظرا للأخطار التي تمثلها على صحة السكان، حيث أثبتت الدراسات أن أكثر من 2000 شخص يموتون سنويا بسبب الأمراض الناجمة عن استنشاق هذه المادة في الهواء. ورغم كونها تستعمل كثيرا بالمغرب، لم تتم أي إجراءات قانونية أو وقائية لتقنين استعمالها أو الحد منه حماية للمواطنين وللعاملين بالمعامل المصنعة والمحولة لهذه المادة القاتلة والملوثة للبيئة والتي تتسبب في الغالب في التهابات وتعفنات الجهاز التنفسي، بل في سرطانات الرئة. ومن ضمن الشركات التي تستعملها بالمغرب هناك شركة «ديما تيت» المنتجة للألواح المموجة أو المسطحة بالدار البيضاء وشركة مغرب قنوات المنتجة للقنوات بالقنيطرة. وهناك 70% من العمال لهم أحكام تتثبت إصابتهم بأمراض مهنية ناتجة عن تعرضهم لمادة الحرير الصخري. ومن أجل التحسيس بمخاطر مادة «لاميانت» القاتلة والمتلفة للجهاز التنفسي، وحماية للعاملين المعرضين لها بالمغرب تأسست بتاريخ 2000 / 07 /01 جمعية تضم عمال الشركات المستعملة لمادة «لاميانت»، وهي جمعية «الأشخاص المصابون بمادة لاميانت»، أكثر من 123شخصا. وقد رسمت من بين أهدافها الدفاع عن حقوق المنخرطين المعرضين لمادة الحرير الصخري «لاميانت» وحماية المستخدمين من مخاطر هذه المادة والمطالبة بالتغطية الصحية لهم، سواء خلال مزاولتهم لعملهم أو بعد التقاعد، وتوفير التغطية الكاملة (100%) عند الإصابة، مع التكفل الملائم وتقديم العلاج الضروري والجيد للأمراض الناجمة عن التعرض لمادة «لاميانت». ومن بين مطالب الجمعية أيضا أداء التعويضات اليومية عن أيام المرض عند الإصابة بمرض الأسبسطوز الناجم عن التعرض لهذه المادة. كما تطالب الجمعية بتخفيض سن التقاعد إلى ما قبل سن الستين كما هو الحال في باقي المناجم أو تحديد سنوات العمل. عبد القادر ضحية أخرى لمادة لاميانت يحكي عن معاناته مع هذه المادة الفتاكة فيقول: «أشتغل منذ سنة 1951 بإحدى الشركات التي تستعمل مادة سامة هي مادة «لاميانت»، وهذه المادة لم تكن لنا معرفة كاملة بما تسببه من أمراض. ولم يكن مسؤولو الشركة الأولون منذ السبعينات والثمانينات يقومون بالاحتياطات اللازمة للحفاظ على صحة العمال وتأمين سلامتهم بتوفير الوسائل الضرورية التي يمكن أن تقي العمال من استنشاق غبار مادة «لاميانت». كما لم يخبروا العمال بخطورتها ونتائج الاحتكاك بها على صحتهم. وفوجئت في سنة 1991، بعد إجراء التحاليل ومراقبة طبية بأنني مصاب بمرض إسمه «لاسبسطوز»، حيث بدأت أحس بضعف جسدي ولم أعد أتحمل القيام بأدنى مجهود، حيث أصاب بالإرهاق ويتصبب جسمي عرقا.. أحب الخلود إلى النوم وملازمة الفراش أكثر مما أحب الخروج إلى الشارع. لم أعد أستطيع الجري أكثر من 150 مترا. وهناك مشاكل أخرى غيرها عديدة... وبعد إجراء التحاليل، قيل لي إن المرض استقر بالجهاز التنفسي، وأن له مضاعفات على القلب وغيره، بل إنه أثر حتى على حياتي الزوجية.». والآن يقول عبد القادر ألتمس من المسؤولين عن حماية وسلامة أبناء هذا الوطن العمل على: 1 تخفيض سنوات العمل بالنسبة للأشخاص الذين بعملون في هذه المادة إلى 50 سنة بدل 60 سنة التي هي سن التقاعد، أو تحديد سنوات العمل في 25 أو 30 سنة. لأن جل العمال الذين يتعاملون مع هذه المادة لن يصلوا إلى سن التقاعد، أي 60 سنة. وعلى سبيل المثال توفي 5 أشخاص خلال إحدى السنوات، وهم نازيهي محمد مقبل محمد أيت كولة عبد الله وهو الوحيد الذي وصل إلى سن التقاعد وتوفي خلال الأيام الأولى من تقاعده». وعليه، يقول: «نلتمس من ذوي القلوب الرحيمة أن يسنوا لنا قانونا يسمح لنا بالتقاعد قبل سن الستين. فلربما نعيش ولو سنوات إن لم نقل شهورا بعد التعاقد. كما نطالب بالحماية الصحية والرعاية الطبية وتحمل شركة التأمين مصاريف الأدوية بعد التقاعد. حيث يحرم المتقاعدون من التأمين على المرض. وهذه هي المرحلة التي يكون فيها المرض قد تجذر في الجسم وأثر على كل الخلايا والأنسجة ويحتاج المتقاعد في هذه المرحلة إلى مصاريف باهظة تتهرب منها شركة التأمين لتترك المصاب يتخبط في آلامه وعذابه وفقره. كما نطالب السادة الوزراء بأن يسنوا لنا قانونا يحمي حقوقنا، كما سنوا قانون الحماية والوقاية الذي نشر في الجريدة الرسمية بتاريخ 1 فبراير 2001 ميلادية عدد 4870 مرسوم رقم 975 98 2 صادر في 28 من شوال 1421 (23 يناير 2001) في شأن العمال المعرضين لغبار الحرير الصخري). الإشكالية المطروحة حاليا ما بين ومشاكل الأمراض المهنية هناك طرح يقول إن الظرف الراهن ليس هو الوقت المناسب للحديث عن هذه المشاكل، نحن بلد يجب عليها حاليا أن تنمي اقتصادها وتجلب الاستثمار الخارجي وتفتح الأبواب من أجل ذلك، خصوصا أننا نواجه مشكل البطالة، ويجب علينا أن نشغل ما أمكن ونفتح مقاولات. أنا مع هذا الطرح، لكن في إطار السلامة وحفظ صحة المأجورين، لأن الدول النامية والدول التي تعد اقتصادياتها ناجحة، تم لها ذلك بفضل العنصر البشري. فالاقتصاد الذي لا يكون العنصر البشري فيه في صحة جيدة أو الذي يتوقف عن العمل بسبب الأمراض التي يصاب بها أو الذي عندما يصل إلى سن التقاعد يموت بعد شهر من تقاعده عن العمل أو تقع له مشاكل.. هذا الاقتصاد ليس اقتصادا سليما لأن العنصر البشري فيه خارج عن الاعتبارات. ونضم صوتنا إلى أصوات هؤلاء الضحايا وغيرهم، فنقول إننا مع التنمية الاقتصادية، لكن لا بد من وضع تصور صحيح وسليم ومتوازن لهذه التنمية يكون فيه العنصر البشري ضمن الاعتبارات الاقتصادية، إذ لا يمكن أن يكون هناك تصور لتنمية اقتصادية فعلية بإغفال عامل الصحة والسلامة داخل المؤسسات الاقتصادية والمقاولات، وفي غياب إجبارية التأمين وطب الشغل بها... فتزايد حالات الإصابة بالأمراض المهنية يقتضي فرض إجبارية التأمين والوقاية والسلامة في المعامل والمقاولات، وفرض طب الشغل والطب المهني بها وتوفير الإمكانات في مجال الفحص وتشخيص الأمراض المهنية. والتنسيق أيضا بين الأطراف المعنية: وزارة الشغل، وزارة الصحة ووزارة العدل، من أجل تعديل مدونة الشغل لضمان حقوق الضحايا وإنصافهم وتسريع المسطرة القانونية لتعويضهم عن الأضرار التي يسببها لهم محيط العمل...