من مكر الصدف أنه حينما وصل الإشتراكيون إلى الحكم في فرنسا، خصوصا على عهد الرئيس فرانسوا ميتران، كان مغرب الحسن الثاني يعيش سنوات القمع السياسي الذي كان ضحيته الآلاف من مناضلي الحركة الإتحادية واليسار عموما. وهو المسلسل الذي بلغ ذروته يوم 20 يونيو 1981، بعد الإضراب العام الذي دعت إليه الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، والذي خلف عشرات القتلى في الدارالبيضاء، وكذا الآلاف من المعتقلين على امتداد المغرب. مع ما رافق ذلك من منع صحف اليسار، واعتقال قادة الحزب والنقابة حيث انطلقت محاكمات ماراطونية في كل محاكم المغرب صدرت عنها أحكام ضد العشرات من مناضلي اليسار. وهو ما يعني أنه، بعد شهر ونصف من وصول فراسوا ميتران إلى قصر الإليزي، كان حلفاء حزبه المغاربة في السجون. وكان لهذا الحراك المغربي القوي والحي صدى هائل في كل وسائل الإعلام الفرنسية، بل إنه كان موضوع اهتمام خاص من قبل الرأي العام الفرنسي. سيتضاعف هذا القمع أكثر في خريف 1981، بعد المحاكمة الشهيرة للزعيم الإتحادي عبد الرحيم بوعبيد، وعدد من أعضاء المكتب السياسي للإتحاد، إثر البلاغ الشهير الرافض لقبول مبدأ الإستفتاء حول الصحراء المغربية بمؤتمر القمة الإفريقي بنيروبي، والذي تقدم به الملك الراحل. والحصيلة هي أن نظام الحسن الثاني سيحكم على صديق ميتران، عبد الرحيم بوعبيد بالسجن سنة نافذة، في سجن ميسور. لقد عاش مغرب الحسن الثاني أكبر أزماته مع فرنسا على عهد رؤساء اليسار وفي مقدمتهم فرانسوا ميتران. والذي كانت مرحلته مؤطرة بظروف خاصة من الجهتين المغربية والفرنسية. فحينما فاز الزعيم الإشتراكي الفرنسي فرانسوا ميتران في 10 ماي 1981 برئاسة فرنسا، بعد محاولات عدة سابقة لم يحقق فيها فوزا يذكر، كان ذلك تتويجا لتوحيد صفوف اليسار الفرنسي، في المؤتمر الشهير لأميان، والذي برز فيه ميتران كزعيم لليسار يحمل مشروعا سياسيا واضحا، تجميعيا وجريئا. مثلما برزت فيه زعامات جديدة لحزب الوردة الفرنسي، كانت السند الحاسم لميتران، من عيار الثلاثي «جاك دولور»، «بيير موروا»، و»ميشال روكار»، والنقابي «بيير بيريغوفوا». إظافة لفريق من القيادات الشابة من عيار «بيير جوكس»، و»رولان فابيوس» و»ليونيل جوسبان». وهي القيادات التي كانت على علاقة وثيقة باليسار المغربي، في إطار الأممية الإشتراكية، خاصة مع قيادات الإتحاد الإشتراكي بزعامة الراحل، عبد الرحيم بوعبيد، ومع جناحه النقابي ضمن المركزية النقابية الكونفدرالية الديمقراطية للشغل. في حين ظل نفس نظام الحكم في المغرب يتميز بعلاقات خاصة مع الرؤساء الفرنسيين القادمين من اليمين، خاصة على عهد جاك شيراك، ونيكولا ساركوزي، وقبلهما جيسكار ديستان. على عهد ميتران، كان لابد للوضع السياسي في المغرب أن يشغل اهتمام الرئيس الفرنسي، الذي سيشكل الوضع الحقوقي في نظام الحسن الثاني واحدا من الملفات التي فتحها وهو يقوم بزيارته للمغرب. بل إن تلك الزيارة لم تكن فقط زيارة نقد سياسي، بل كانت حاملة لحلول مساعدة على فك الأزمة المجتمعية الخانقة اقتصاديا بالمغرب، والتي كانت سببا في أحداث الدارالبيضاء سنة 1981 بعد الزيادة الصاروخية في مواد الإستهلاك الرئيسية. لذلك كانت المشاريع المالية التي وقعت بين المغرب وفرنسا خلال تلك الزيارة، من أبرز ما تركه ميتران في المغرب. وكانت الرسالة السياسية الواضحة التي أرادها الرئيس الفرنسي أن تصل وقتها للمغرب، هي أن نظام الحسن الثاني كان عليه أن يغير من استراتيجيته التدبيرية داخليا، سياسيا واقتصاديا وحقوقيا بالإنفتاح على القوى الحية في المجتمع، وإطلاق الحريات النقابية والطلابية والإعلامية، لتجاوزالحصار السياسي والنفق الذي يهدد المغرب. وكانت أهم تلك الأوراق مرتبطة بملف حقوق الإنسان وملف المعتقلين السياسيين والمنفيين، وأيضا ملف المختطفين ومجهولي المصير. وكانت قوة ذلك الضغط، قد بلغت درجة جعلت صورة المغرب، جد سلبية على المستوى العالمي في كافة المحافل والمنظمات الدولية. وأصبح النظام المغربي، سياسيا، يصنف كنظام قمعي استبدادي. ومع توالي السنوات، كانت مواقف باريس أكثر تشددا. وكان المشهد الإعلامي والحقوقي الفرنسي يتابع ويفضخ حلقات مسلسل الخروقات بالمغرب، فيما كانت وزارة الداخلية، على عهد الراحل ادريس البصري تكتفي بشحذ المغاربة، بالإكراه، للتعبير عن رفضهم لمواقف باريس تلك. وبلغ الأمر دروته بعد صدور كتاب جيل بيرو الشهير «صديقنا الملك» الذي أصبح قضية دولة. وتسبب في أزمة حقيقية بين قصر الإليزي ونظام الحسن الثاني. انتظرنا سنة 1994 مع صدور العفو الملكي العام على المعتقلين السياسيين والمنفيين والنقابيين والطلبة، وتأسيس النواة البكر للمجلس الإستشاري لحقوق الإنسان، وتأسيس المجلس الوطني للشباب والمستقبل كإطار لبلورة حلول ناجعة للأزمة الإقتصادية والإجتماعية الخانقة بالمغرب، ليقتنع أخيرا نظام الحسن الثاني بقيمة تلك الرسائل التي أرادها فرانسوا ميتران. علما أنه كانت للراحل ميتران علاقة خاصة مع المغرب، فهو مطلع على الملف المغاربي بشكل جيد منذ أربعينات القرن العشرين لدرجة أنه قدم استقالته احتجاجا على نفي محمد الخامس من حكومة أنطوان بيني سنة 1953، وكان وراء إصدار البيان الشهير ب «بيان من أجل فرنسا والمغرب العربي» الذي وقعه معه كبار مفكري فرنسا وأدبائها من طينة «ألبير كامو»، و»جون بول سارتر»، و»لوي فالون» و»ألان سافاري». بين ثمانيات ميتران والحسن الثاني، والأن مع وجود فراسوا هولاند ومحمد السادس، راهن الكثيرون على أن يشكل الاقتصاد المحرك الأساسي للعلاقة بين البلدين الذين حكمت عليهما ظروف الاستعمار أن يتعايشا، خصوصا وأن ساركوزي تبث، قبل أن يغادر قصر الإيليزي في 2012، أقدام الفرنسيين في أكثر من قطاع صناعي وتجاري وسياحي أيضا. المغرب معني أكثر بالانتخابات الفرنسية ظل المغرب، الرسمي والشعبي على السواء، يولي أهمية كبرى للانتخابات الفرنسية بالنظر إلى الدور البارز الذي تلعبه فرنسا في العديد من القضايا والملفات المهمة. فقد كانت باريس سياسيا ولا تزال هي المدافع الأول عن مقترح الحكم الذاتي المغربي في نزاع الصحراء المغربية، خصوصا حينما يتعلق الأمر برئيس من اليمين، الذي تربطه بالنظام المغربي علاقة خاصة. لقد اتسمت هذه العلاقة تاريخيا بالتقارب والتفاهم الدائم، إذا ما قورنت بعلاقته باليسار الفرنسي، الذي عرف فترات صعبة، مثل تلك التي تلت اختطاف واغتيال الزعيم اليساري المهدي بن بركة، في باريس، خلال الستينيات، ثم الخلافات التي نشأت على عهد الرئيس فرانسوا ميتران والملك الحسن الثاني في الثمانينيات، على خلفية اضطهاد المعارضة اليسارية، حيث وصلت الأمور إلى حد سحب السفير الفرنسي من المغرب. لقد كان من مصلحة النظام الملكي دائما بقاء اليمين الفرنسي في الحكم، لأنه أكثر تفهما لطبيعته. بينما يخضع اليسار لعلاقات البلدين على الدوام بمدى الاحترام الفعلي للحريات ولحقوق الإنسان. ومع ذلك، فقد تحرك نظام محمد السادس في عز الحملة الانتخابية لرئاسيات فرنسا، لفتح قنوات الاتصال مع الحزب الاشتراكي الفرنسي، حينما استقبل الملك محمد السادس مبعوثة فرانسوا هولاند، مارتين أوبري. خصوصا وأن المتتبعين ظلوا يرون أن الرئيس الاشتراكي الجديد لن يكون راديكاليا مثل ميتران في موقفه من المغرب، لأنه محاط بعدد من الشخصيات ذات الأصل المغربي، والتي ظلت تنظر بإيجابية إلى الإصلاحات الأخيرة التي عرفتها مملكة محمد السادس، ومن هؤلاء مديرة حملة هولاند، نجاة بلقاسم. قبل هولاند لم يتردد نيكولا ساركوزي، الرئيس الفرنسي السابق، في القول وهو يعلق على دستور 2011 إن «المملكة نموذج في الديمقراطية». لقد وصلت رسالة ساركوزي للمغاربة، الذين يعرفون أن نظام محمد السادس كان أكثر حضورا في اهتمامات الرئاسة الفرنسية، التي حافظت على ما سبق أن وضع أسسه جاك شيراك. ولأن الاقتصاد والمال هو عصب كل علاقة دولية، فقد وقعت حكومة ساركوزي في آخر لقاء للاجتماع المغربي الفرنسي الحادي عشر رفيع المستوى، بالرباط، على 13 اتفاقية للتعاون بين البلدين في عدد من المجالات، بينها اتفاقيتا قرض بقيمة 107 ملايين أورو من الوكالة الفرنسية للتعاون، تخصص 50 مليونا منها لتمويل برنامج الوكالة الوطنية للموانىء للاستثمار بالموانىء الجهوية٬ و57 مليون أورو لتمويل البرنامج الثالث لتعزيز شبكة نقل الكهرباء. وتوزعت الاتفاقيات الموقعة بين المغرب وفرنسا خلال ذلك الاجتماع، بين اتفاقية للتعاون في مجال تطوير الاستعمال السلمي للطاقة النووية٬ وأخرى للإعفاء المتبادل من التأشيرة لفائدة حاملي جوازات الخدمة، زيادة على تصريح مشترك لدعم التعليم والتكوين باللغة الفرنسية بالمدرسة، واتفاق إداري بين وزارتي العدل بالبلدين، وتصريحا بالنوايا بين وزارة الداخلية الفرنسية ونظيرتها الفرنسية، إلى جانب اتفاق تقني يتعلق بالتكوين التطبيقي لأطقم المروحيات، وتصريح مشترك حول التوطين المشترك في المجال الصناعي. وقال رئيس الحكومة وقتها «إن العلاقات المغربية الفرنسية نشأت لتستمر». فالمغرب ليس بلدا مغلوقا، بل كان دائما مفتوحا، وإذا كان كذلك، فهو لصالح الفرنسيين. قبل أن يخاطبهم بقوله: «لا تعتبروننا سوقا بل شركاء». ظلت المملكة على عهد نيكولا ساركوزي حاضرة في اهتمامات الدولة الفرنسية ليس سياسيا فقط، بل اقتصاديا أيضا. وعرف ساركوزي كيف يبحث لمواطنيه من رجال المال والأعمال عن الكثير من الصفقات التي وفرت بالتالي فرص شغل مغربية. ومن الأرقام التي تفخر بها حكومة ساركوزي في المغرب ما خصصته الوكالة الفرنسية للتنمية، من تمويلات وصلت 173 مليون أورو، منها 150 مليونا لتمويل برنامج قطب تكنولوجي، ومناطق الصناعات المندمجة المندرجة في الميثاق الوطني للإقلاع الصناعي الرامي إلى تطوير عرض «المهن العالمية للمغرب» والتي تضم «الأوفشورينغ» و»الإلكترونيك» وتجهيزات السيارات، وصناعة الطيران، والصناعة الغذائية، والنسيج والجلد. في حين خصصت 23 مليون أورو المتبقية، لفائدة شركة مشاريع النقل في الدار البيضاء ومنها مشروع التراموي. غير أنه بموازاة هذا الحضور الفرنسي اللافت اقتصاديا، ظل مغاربة فرنسا يعانون أكثر في ظل حكم اليمين وفي مقدمتهم نيكولا ساركوزي الذي قاد أكثر من حملة لطرد المهاجرين وتشديد عملية اندماجهم في المجتمع الفرنسي مقارنة مع القادمين من دول شرق أوروبا. في 2011 كانت زيارة ساركوزي للمغرب، وهي الثانية، إعلانا عن أكثر من حسن النية. ولعل خطوة تدشين مشروع « تي جي في» الرابط بين طنجة والدار البيضاء كانت هي الدليل على أن فرنسا، لا تزال حاضرة في أكبر المشاريع الاقتصادية لمغرب محمد السادس. لقد دعمت حكومة ساركوزي بقوة ملف حصول المغرب على صفة الوضع المتقدم في الاتحاد الأوربي. وحينما أخرج ساركوزي مشروع الإتحاد من أجل المتوسط، من أجل اسثتبات الأمن ومحاربة الارهاب وحوار الثقافات، كان يعرف أن المغرب سيكون من أشد مسانديه. لذلك لعبت فرنسا دورا كبيرا في لتولي الكاتب العام في وزارة الخارجية التعاون السابق يوسف العمراني منصب الأمانة العامة للإتحاد. وهو ما اعتبر من أهم مؤشرات عودة التنسيق بين الطرفين على أعلى مستوى، ليتواصل فيما بعد بتشكيلهما جناحا هاما داخل مجموعة الاتصال الدولية الخاصة بشأن ليبيا. وفي الشق الخاص، لا تخلو علاقة ساكوزي بمحمد السادس من أحداث تم الكشف عنها بعد أن غادر الرئيس الفرنسي قصر الايليزي. فقد تحدثت بعض وسائل الإعلام عن إمكانية أن يشغل الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي منصب مستشار خاص لمحمد السادس. وقالت وكالة الآنباء الفرنسية «آ.ف.ب» إن جرائد مغربية تحدثت عن سعي المغرب لاقناع ساركوزي لقبول هذا العرض لحاجة المغرب للاستفادة من علاقات ونفوذ الرئيس الفرنسي السابق الذي تربطه علاقات خاصة جدا بمحمد السادس منذ سنة 2008. وظل الرئيس الفرنسي السابق يقوم بين الفينة والأخرى بعدد من الزيارات الخاصة أحيانا بمقر الإقامة الملكية المسماة «جنان لكبير» بمراكش. قبل أن تنشر بعض وسائل الإعلام الفرنسية خبر شراء نيكولا ساركوزى لقصر فخم بالمدينة الحمراء بقيمة خمسة ملايين يورو، مشيرة أن هذا القصر يمتد على مساحة 1500 متر مربع، ويضم عدة مرافق ضمنها قاعة سينما، وثمانية أجنحة فخمة، وصالة تجميل، وحوض سباحة بمساحة 21 مترا على سبعة أمتار وحديقة بها 600 نوع من مختلف الأغراس والزهور. والمثير هو أن ذلك التقارب الكبير لدرجة « العشق» الذي ساد بين نظام محمد السادس وحكم ساركوزي، الذي يعشق مراكش، فرض على المغاربة تغيير بروتوكول استقبال فرانسوا هولاند، حينما قام بزيارته الرسمية إلى المغرب، من مراكش إلى الرباط. بين يمين ويسار ثمة حالات مد وجزر ظلت العلاقة بين المغرب وفرنسا تعرف حالات مد وجزر كلما صعد اليمين أو اليسار إلى سدة الحكم منذ دوكول إلى فاليري جيسكار ديستان، ثم فراسوا ميتران وشيراك وساركوزي، قبل أن يصل فراسوا هولاند اليوم. وظلت ندوات الملك الراحل الصحافية وحواراته، خصوصا مع وسائل الإعلام الفرنسية، هي الفرصة التي يكشف فيها لرجال فرنسا عن معرفته بتاريخ بلد نابليون، وتفاصيل القوانين التي جاء بها. لذلك ظل في المقابل ملكا يحظى بالكثير من التقدير والاحترام من قبل جل قادة فرنسا ومثقفيها، على الرغم من أن بعض رؤساء الجمهورية الفرنسية كانوا لا يخفون انتقاداتهم للسياسة التي ظل ينهجها الملك الراحل في عز قوته. أولى ملامح الخلاف بين الحسن الثاني، وهو لا يزال وقتها وليا للعهد، وقادة الجمهورية الفرنسية انطلقت حينما قال إن والده قامر بعرشه، وخسر الرهان حينما ساير العناصر الوطنية، بدلا من أن يجد مساندا أكبر من قوة الفرنسيين. وهو ما قام به الأمير مولاي الحسن، الذي نجح في صفقته حينما عاد والده إلى عرشه، شريطة ألا يقوم الملك بأية عملية انتقامية ضد زعماء القبائل الذين ساندوا الاستعمار الفرنسي في خلع السلطان من عرشه، وكان في مقدمتهم القائد الباشا الكلاوي. غير أن هذا التودد للمسؤولين الفرنسيين سيتغير مباشرة بعد اختطاف واغتيال الزعيم الاتحادي المهدي بن بركة حيتما لقد قال الجنرال «شارل ديكول»، في اجتماع خاص لمجلس الوزراء الفرنسي في 10 من نونبر من سنة 1965، «إن فرنسا تعتبر ملك المغرب مسؤولا مباشرا عن انتهاك قانون الإنسانية، وقانون فرنسا، وحرمة الأراضي الفرنسية بالتحريض على جريمة القتل، وبالتواطئ مع عناصر من الأمن الفرنسي. كما سجلتها المخابرات العسكرية الفرنسية من خلال مكالمات تيلفونية». ومن تم شكلت قضية المهدي بن بركة، أولى الشرارات التي انطلقت معها الخلافات بين فرنسا، التي ظلت تعتبر المغرب بلدها الثاني، وبين نظام الحسن الثاني، الذي كان يرفض أن يقستم السلطة مع من يعتبرهم خصوما للنظام. نفس هذا المد والجزر، الذي انطلق مع دوكول، هو ما ستعيشه العلاقات المغربية الفرنسية بين يمين ويسار. مع فاليري جيسكار ديستان، كان الحسن الثاني، وهو في عز قوته، يعرف كيف يجر فرنسا إلى صفه، خصوصا حينما يتعلق الأمر بالملفات الدولية. ومع ديستان، كانت للمغرب الكثير من نقط القوة التي ربحها هنا وهناك. لكن مجيئ فرانسوا ميتران اليساري إلى الحكم، سيقلب الكفة رأسا على عقب. وسيعيش نظام الحسن الثاني واحدة من أصعب مراحل حكمه بعد أن دخل ميتران على خط عدد من الملفات ذات الصلة بملفات حقوق الإنسان. غير أن عودة اليمين لحكم فرنسا مع انتخاب جاك شيراك، سيتنفس نظام الحسن الثاني الصعداء، وستعيش المملكة «أزهى» أيامها في التقارب مع رئيس ظل يعتبر من أقوى المقربين للنظام الملكي لدرجة أن الصحافة الاسبانية، التي اعتبرت نفسها متضررة من هذا التقارب، سمت الرئيس الفرنسي ب»شيراك العلوي». نفس هذا الود عاشته المملكة، بدرجات متفواتة، مع نيكولا ساركوزي. لذلك فحينما كان الفرنسيون يتوجهون إلى صناديق الاقتراع ليختاروا من يخلفه، كان المغرب بكل مكوناته الشعبية والرسمية، يتطلع لما ستسفر عنه هذه الصناديق لأن ذلك يعنيها بدرجة ما، قبل أن يفوز فرانسوا هولاند بمقعد الرائسة. كانت الحرب بين «حزب فرنسا»، الذي تكون في المغرب منذ عقود، و»حزب أمريكا»، مشتعلة قبيل وصول محمد السادس للحكم. ولم يكن المتتبعون يخفون هذه الحقيقة أن فرنسا كانت تقف في الظل ليصل الملك إلى عرشه بدون اكراهات. وحينما قال الملك محمد السادس بدستور جديد، بعيد اشتعال نيران ما سمي بالربيع العربي، ودعا لانتخابات شفافة ونزيهة. عادت نفس الحرب لتشتعل من جديد. ومن أبرز مظاهرها بعد وصول الإسلاميين إلى الحكم ما قاله «آلان جوبي»، وزير الخارجية الفرنسي وقتها متحدثا عن نتائج الاستحقاقات المغربية حينما قال «إن حزب العدالة والتنمية لم يحصل إلا على 100 مقعد في البرلمان من أصل 400.. وإن باريس تريد ألا يتجاوز حزب العدالة والتنمية الإسلامي الخطوط الحمراء وهي احترام الانتخابات وحقوق الإنسان والمرأة». وصلت الرسالة. وبعدها كان لا بد أن تصل بقية الرسائل الاقتصادية والثقافية على الخصوص من خلال هيمنة اللغة والثقافة الفرنسية، وهيمنة الشركات الكبرى التي استطاعت، في ملف القطار فائق السرعة المقرر أن يربط بين مدينة طنجة والدار البيضاء، «التي جي في»، أن تظهر بشكل مثير وغريب. أما سياسيا، فقد ظلت لفرنسا اليد الطولى في عدد من الملفات لعل أبرزها ملف الصحراء المغربية، الذي تلعب فيه دورا هاما، وتحقق من ورائه عائدات اقتصادية أهم. ثقافيا، ظل «حزب فرنسا» يسعى إلى فرض هيمنته اللغوية والثقافية تمشيا مع الفكر القديم الذي قبلت بموجبه فرنسا أن توقع عقد نهاية الحماية لاستقلال المغرب بعد معاهدة «إيكس ليبان»، والذي يقول بضرورة أن يحافظ المغرب على مصالح فرنسا بعد الاستقلال. اليوم فصول الحرب يتقاسمها الاقتصادي بشكل كبير ومثير. ويحضر فيها السياسي بتصوراته وخططه ورجالاته أيضا. كما تحرك فيها الثقافة الشق الأساسي لكي تظل فرنسا حاضرة بقوة. هذا هو الحقل الذي تتحرك فيه العلاقات المغربية الفرنسية بين رئيس من اليمين وآخر من اليسار. وهو حقل ألغام يحركه الاقتصادي والثقافي، وتجني من ورائه السياسة نتائجها. من دوكول إلى ديستنا وميتران وشيراك، ثم ساركوزي وهولاند. ظلت العلاقات المغربية الفرنسية تحت رحمة مد وجزر.