ظلت ندوات الملك الراحل الحسن الثاني الصحافية وحواراته، خصوصا مع وسائل الإعلام الفرنسية، هي الفرصة التي يكشف فيها لرجال فرنسا عن معرفته بتاريخ بلد نابليون، وتفاصيل القوانين التي جاء بها. لذلك ظل في المقابل ملكا يحظى بالكثير من التقدير والاحترام من قبل جل قادة فرنسا ومثقفيها، على الرغم من أن بعض رؤساء الجمهورية الفرنسية كانوا لا يخفون انتقاداتهم للسياسة التي ظل ينهجها الملك الراحل في عز قوته. ومن تم ظلت العلاقة بين المغرب وفرنسا تعرف حالات مد وجزر كلما صعد اليمين أو اليسار إلى سدة الحكم منذ دوكول إلى فاليري ديسكار ديستان، ثم فراسوا ميتران وشيراك وساركوزي، قبل أن يصل فرانسوا هولاند اليوم. ظل الحسن الثاني، وهو لا يزال وليا للعهد يعتقد أن والده قامر بعرشه، وخسر الرهان حينما ساير العناصر الوطنية، بدلا من أن يجد مساندا أكبر من قوة الفرنسيين. وهو ما قام به الأمير مولاي الحسن، الذي نجح في صفقته حينما عاد والده إلى عرشه، شريطة ألا يقوم الملك بأي عملية انتقامية ضد زعماء القبائل، الذين ساندوا الاستعمار الفرنسي في خلع السلطان من عرشه، وكان في مقدمتهم القائد الباشا الكلاوي. غير أن هذا التودد، الذي كان الأمير مولاي الحسن لا يخفيه، على الرغم من أنه ظل يغضب الوطنيين، سينتهي بوصوله إلى الحكم بعد وفاة والده محمد الخامس. تلك الوفاة التي تابعتها الصحافة الفرنسية وقدمت لها الكثير من القراءات على عهد الجنرال دوكول. لقد قال الجنرال «شارل دوكول»، في اجتماع خاص لمجلس الوزراء الفرنسي في 10 من نونبر من سنة 1965، «إن فرنسا تعتبر ملك المغرب مسؤولا مباشرا عن انتهاك قانون الإنسانية، وقانون فرنسا، وحرمة الأراضي الفرنسية بالتحريض على جريمة القتل، وبالتواطئ مع عناصر من الأمن الفرنسي. كما سجلتها المخابرات العسكرية الفرنسية من خلال مكالمات تيلفونية». وكان دوكول يعني قضية الزعيم الاتحادي المهدي بن بركة، الذي تم اختطافه واغتياله في الأراضي الفرنسية. لذلك لا يخفي المتتبعون أن قضية بن بركة كانت هي أولى الشرارات التي انطلقت معها الخلافات بين فرنسا، التي ظلت تعتبر المغرب بلدها الثاني، وبين نظام الحسن الثاني، الذي كان يرفض أن يقتسم السلطة مع من يعتبرهم خصوما للنظام. نفس هذا المد والجزر، الذي انطلق مع دوكول، هو ما ستعيشه العلاقات المغربية الفرنسية بين يمين ويسار. لذلك ظل المغاربة يتابعون عن كثب كل الانتخابات الرئاسية الفرنسية، ويتطلعون إلى من ستحمله صناديق الاقتراع إلى قصر الإيليزي. مع فاليري جيسكار ديستان، كان الحسن الثاني، وهو في عز قوته يعرف كيف يجر فرنسا إلى صفه، خصوصا حينما يتعلق الأمر بالملفات الدولية. ومع هذا الرئيس اليميني، كانت للمغرب الكثير من نقط القوة التي ربحها هنا وهناك. لكن مجيئ فرانسوا ميتران اليساري، سيقلب الكفة رأسا على عقب. وسيعيش نظام الحسن الثاني واحدة من أصعب مراحل حكمه بعد أن دخل ميتران على خط عدد من الملفات ذات الصلة بملفات حقوق الإنسان. غير أنه بعودة اليمين لحكم فرنسا مع انتخاب جاك شيراك، سيتنفس نظام الحسن الثاني الصعداء، وستعيش المملكة «أزهى» أيامها في التقارب مع رئيس ظل يعتبر من أقوى المقربين للنظام الملكي إلى درجة أن الصحافة الإسبانية، التي اعتبرت نفسها متضررة من هذا التقارب، سمت الرئيس الفرنسي ب«شيراك العلوي». نفس هذا الود عشناه بدرجات متفاوتة مع نيكولا ساركوزي. لذلك فحينما كان الفرنسيون يتوجهون إلى صناديق الاقتراع ليختاروا من يخلفه، كان المغرب بكل مكوناته الشعبية والرسمية، يتطلع لما ستسفر عنه هذه الصناديق، لأن ذلك يعنيها بدرجة ما. كانت الحرب بين «حزب فرنسا»، الذي تكون في المغرب منذ عقود، و«حزب أمريكا»، مشتعلة قبيل وصول محمد السادس إلى الحكم. ولم يكن المتتبعون يخفون هذه الحقيقة، أن فرنسا كانت تقف في الظل ليصل الملك إلى عرشه بدون إكراهات. وحينما قال الملك محمد السادس بدستور جديد، بعيد اشتعال نيران ما سمي بالربيع العربي، ودعا لانتخابات شفافة ونزيهة. عادت نفس الحرب لتشتعل من جديد. وفي الوقت الذي اعتقد الكثيرون أن «حزب فرنسا» سينتصر، عادت الغلبة «لحزب أمريكا»،التي ظلت مع فكرة إشراك الإسلاميين في الحكم لنزع شوكتهم. لذلك لم يتردد «آلان جوبي»، وزير الخارجية الفرنسي وقتها في التعليق على نتائج الاستحقاقات المغربية حينما قال «إن حزب العدالة والتنمية لم يحصل إلا على 100 مقعد في البرلمان من أصل 400.. وإن باريس تريد ألا يتجاوز حزب العدالة والتنمية الإسلامي الخطوط الحمراء، وهي احترام الانتخابات وحقوق الإنسان والمرأة». وصلت الرسالة. وبعدها كان لا بد أن تصل بقية الرسائل الاقتصادية والثقافية على الخصوص. فجل الدارسين للحياة العامة المغربية رأوا أن فرنسة البلاد بلغت حدا لم يحققه حتى «نابليون بونابارت» في مغامراته الإمبريالية. ومنذ أن خرجت إلى الوجود حكاية الفرانكوفونية في متم القرن التاسع عشر، تحولت الهيمنة الفرنسية إلى قضية أساسية في المغرب، وفي عدد من مستعمرات فرنسا القديمة، التي يعتبرها البعض شبيهة بملحقات سياسية واقتصادية وثقافية تابعة لفرنسا. ثمة سيطرة فرنسية واضحة على الاقتصاد الوطني من خلال الشركات الكبرى المهيمنة، والتي استطاعت في ملف القطار فائق السرعة، المقرر أن يربط بين مدينة طنجةوالدار البيضاء، «التي جي في» أن تظهر بشكل مثير وغريب. أما سياسيا، فلها اليد الطولى في عدد من الملفات، لعل أبرزها ملف الصحراء المغربية، الذي تلعب فيه فرنسا دورا هاما، وتحقق من ورائه عائدات اقتصادية أهم. زد على ذلك الشق الثقافي الحاضر بقوة هو الآخر، حيث تحضر اللغة بشكل مباشر. وهي التي تشكل ركنا أساسيا في مقومات الأمم وعمودا فقريا لهويتها الثقافية، باعتبارها التعبير الأكبر والأشمل عن الثقافة. إن ما تشنه فرنسا من غزو ثقافي على المغرب يبدو وكأنه غير مسبوق من خلال عدد مراكزها ومعاهدها الثقافية، ومن خلال الأساتذة والجمعويين والخبراء. هذا بالإضافة إلى ما تقوم به من تحكم في بعض مناحي المنظومة التعليمية. والمثير أن مجال تلقين اللغة الفرنسية لم ينحصر فقط على ما تقوم به البعثات الثقافية والتعليمية، بل إنه تجاوزه إلى ما هو أكبر حينما شمل عددا من وسائل الإعلام العمومية. فكما ظل حزب فرنسا يسعى إلى فرض هيمنته اللغوية والثقافية تمشيا مع الفكر القديم الذي قبلت بموجبه فرنسا أن توقع عقد نهاية الحماية لاستقلال المغرب بعد معاهدة «إيكس ليبان»، والذي يقول بضرورة أن يحافظ المغرب على مصالح فرنسا بعد الاستقلال، يصارع المدافعون عن الهوية المغربية لحماية هويتهم، على الرغم من أن المعركة ليست متكافئة. اليوم فصول الحرب يتقاسمها الاقتصادي بشكل كبير ومثير. ويحضر فيها السياسي بتصوراته وخططه ورجالاته أيضا. كما تحرك فيها الثقافة الشق الأساسي لكي يظل حزب فرنسا حاضرا بقوة. هذا هو الحقل الذي تتحرك فيه العلاقات المغربية الفرنسية بين رئيس من اليمين وآخر من اليسار. حقل ألغام يحرك الاقتصادي والثقافي، وتجني من ورائه السياسة نتائجها. من دوكول إلى ميتران وشيراك ثم ساركوزي. ظلت العلاقات المغربية الفرنسية تعرف حالات من المد والجزر.
نظام الحسن الثاني يتلقى التأنيب من فرنسوا ميتران
رغم أنه كان قد قدم استقالته احتجاجا على نفي محمد الخامس
لا يخفي المتتبعون للعلاقات المغربية الفرنسية أن نظام الحكم بالمغرب ظل يرتبط بعلاقات أكثر حميمية بالرؤساء الفرنسيين القادمين من اليمين، خاصة على عهد جاك شيراك، ونيكولا ساركوزي، وقبلهما جيسكار ديستان. في حين عاش مغرب الحسن الثاني أكبر أزماته مع فرنسا على عهد رؤساء اليسار وفي مقدمتهم فرانسوا ميتران، الذي كانت مرحلته مؤطرة بظروف خاصة من الجهتين المغربية والفرنسية. فحينما فاز الزعيم الاشتراكي الفرنسي فرانسوا ميتران في 10 ماي 1981 برئاسة فرنسا، بعد محاولات عدة سابقة لم يحقق فيها فوزا يذكر. كان ذلك تتويجا لتوحيد صفوف اليسار الفرنسي، في المؤتمر الشهير لأميان، والذي برز فيه ميتران كزعيم لليسار يحمل مشروعا سياسيا واضحا، تجميعيا وجريئا. مثلما برزت فيه زعامات جديدة لحزب الوردة الفرنسي، كانت السند الحاسم لميتران، من عيار الثلاثي «جاك دولور»، «بيير موروا»، و«ميشال روكار»، والنقابي «بيير بيريغوفوا». إضافة لفريق من القيادات الشابة من عيار «بيير جوكس»، و«رولان فابيوس» و«ليونيل جوسبان». وهي القيادات التي كانت على علاقة وثيقة باليسار المغربي، في إطار الأممية الاشتراكية، خاصة مع قيادات الاتحاد الاشتراكي بزعامة الراحل، عبد الرحيم بوعبيد، ومع جناحه النقابي ضمن المركزية النقابية الكونفدرالية الديمقراطية للشغل. ومن مكر الصدف أنه حينما وصل الاشتراكيون إلى الحكم في فرنسا، كان المغرب يعيش سنوات القمع السياسي الذي كان ضحيته الآلاف من مناضلي الحركة الاتحادية واليسار عموما. وهو المسلسل الذي بلغت ذروته يوم 20 يونيو 1981، بعد الإضراب العام الذي دعت إليه الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، والذي خلف عشرات القتلى في الدارالبيضاء، وكذا الآلاف من المعتقلين على امتداد المغرب، أولئك الذين سماهم وزير الداخلية وقتها ادريس البصري في خطابه الشهير ب«مناضلي كوميرة»، مع ما رافق ذلك من منع صحف اليسار، واعتقال قادة الحزب والنقابة، حيث انطلقت محاكمات ماراطونية في كل محاكم المغرب، صدرت عنها أحكام ضد العشرات من مناضلي اليسار. وهو ما يعني أنه، بعد شهر ونصف من وصول فرانسوا ميتران إلى قصر الإليزي، كان حلفاء حزبه المغاربة في السجون. وكان لهذا الحراك المغربي القوي والحي صدى هائل في كل وسائل الإعلام الفرنسية، بل إنه كان موضوع اهتمام خاص من قبل الرأي العام الفرنسي. سيتضاعف هذا القمع أكثر في خريف 1981، بعد المحاكمة الشهيرة للزعيم الاتحادي عبد الرحيم بوعبيد، وعدد من أعضاء المكتب السياسي للإتحاد، إثر البلاغ الشهير الرافض لقبول مبدأ الاستفتاء حول الصحراء المغربية بمؤتمر القمة الإفريقي بنيروبي، والذي تقدم به الملك الراحل. والحصيلة هي أن نظام الحسن الثاني سيحكم على صديق ميتران، عبد الرحيم بوعبيد بالسجن سنة نافذة، في سجن ميسور. كان لابد لهذا الوضع السياسي في المغرب أن يشغل اهتمام الرئيس الفرنسي ميتران، الذي سيشكل الوضع الحقوقي في نظام الحسن الثاني واحدا من الملفات التي فتحها وهو يقوم بزيارته إلى المغرب. بل إن تلك الزيارة لم تكن فقط زيارة نقد سياسي، بل كانت حاملة لحلول مساعدة على فك الأزمة المجتمعية الخانقة اقتصاديا بالمغرب، والتي كانت سببا في أحداث الدارالبيضاء سنة 1981 بعد الزيادة الصاروخية في مواد الاستهلاك الرئيسية. لذلك كانت المشاريع المالية التي وقعت بين المغرب وفرنسا خلال تلك الزيارة، من أبرز ما تركه ميتران في المغرب. وكانت الرسالة السياسية الواضحة التي أرادها الرئيس الفرنسي وقتها للمغرب هي أن نظام الحسن الثاني كان عليه أن يغير من استراتيجيته التدبيرية داخليا، سياسيا واقتصاديا وحقوقيا بالإنفتاح على القوى الحية في المجتمع، وإطلاق الحريات النقابية والطلابية والإعلامية، لتجاوزالحصار السياسي والنفق الذي يهدد المغرب. وكانت أهم تلك الأوراق مرتبطة بملف حقوق الإنسان وملف المعتقلين السياسيين والمنفيين، وأيضا ملف المختطفين ومجهولي المصير. وكانت قوة ذلك الضغط، قد بلغت درجة جعلت صورة المغرب، جد سلبية على المستوى العالمي في كافة المحافل والمنظمات الدولية. وأصبح النظام المغربي، سياسيا، يصنف كنظام قمعي استبدادي. ومع توالي السنوات، كانت مواقف باريس أكثر تشددا. وكان المشهد الإعلامي والحقوقي الفرنسي يتابع ويفضخ حلقات مسلسل الخروقات بالمغرب، فيما كانت وزارة الداخلية، على عهد الراحل ادريس البصري تكتفي بشحذ المغاربة، بالإكراه، للتعبير عن رفضهم لمواقف باريس تلك. وبلغ الأمر ذروته بعد صدور كتاب جيل بيرو الشهير «صديقنا الملك»، الذي أصبح قضية دولة. وتسبب في أزمة حقيقية بين قصر الإليزي ونظام الحسن الثاني. بحلول سنة 1994 مع صدور العفو الملكي العام على المعتقلين السياسيين والمنفيين والنقابيين والطلبة، وتأسيس النواة البكر للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، وتأسيس المجلس الوطني للشباب والمستقبل كإطار لبلورة حلول ناجعة للأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة بالمغرب، ليقتنع أخيرا نظام الحسن الثاني بقيمة تلك الرسائل التي أرادها فرانسوا ميتران. علما أنه كانت لفرانسوا ميتران علاقة خاصة مع المغرب، فهو مطلع على الملف المغاربي بشكل جيد منذ أربعينيات القرن العشرين، من موقعه كوزير في حكومات متوالية بفرنسا. وقد كان حاسما قبل أن يصل إلى قصر الإيليزي في إيجاد حل للمسألة المغربية والتونسية، وإنهاء الإستعمار الفرنسي بهما. بل إنه قدم استقالته احتجاجا على نفي الملك الوطني محمد الخامس من حكومة أنطوان بيني سنة 1953، وكان وراء إصدار البيان الشهير ب«بيان من أجل فرنسا والمغرب العربي» الذي وقعه معه كبار مفكري فرنسا وأدبائها من طينة «ألبير كامو»، و«جون بول سارتر»، و«لوي فالون» و«ألان سافاري». اليوم تغيرت الكثير من الأشياء، سواء في نظام الملكية بالمغرب باعتلاء محمد السادس العرش، الذي أو في رئاسة حكومة فرنسا. وبين ثمانينيات ميتران والحسن الثاني، والآن مع وجود فرانسوا هولاند ومحمد السادس، لا بد أن يشكل الاقتصاد المحرك الأساسي للعلاقة بين البلدين اللذين حكمت عليهما ظروف الاستعمار أن يتعايشا، خصوصا وأن ساركوزي ثبت، قبل أن يغادر قصر الإيليزي في 2012، أقدام الفرنسيين في أكثر من قطاع صناعي وتجاري وسياحي أيضا. ونجاح أي سياسة لا يمكن أن يقفز على الشق الاقتصادي، لأنه هو الأصل في عالم اليوم، فيما تبقى السياسة والاجتماع والثقافة مجرد فروع. لذلك فالمغرب الجديد سيظل حليفا طبيعيا لباريس الاشتراكية اليوم، تماما مثلما كان يسار فرنسا حليفا لمغاربة عهد محمد الخامس في نضالهم الحقوقي من أجل تحقيق ما كان منصوصا عليه في وثيقة 11 يناير 1944.