الأسطورة جنس إبداع أدبي شفهي مجهول المؤلف، أبدعها خيال الشعب وظلت تتناقل وتتطور على شفاه الناس ومخيلتهم عبر القرون. ولقد ارتبطت الأسطورة دائماً ببداية الإنسانية وبطفولة العقل البشري حيث مثلت لدى كل الشعوب سعياً فكرياً بدائيا لتفسير ظواهر الطبيعة الغامضة. ولذلك اختلفت أساطير البشرية وتباين مستواها ومحتواها. فكانت أكثر تطورا لدى الشعوب المتحضرة مثل الإغريق، بينما نجدها أقل تطورا لدى الشعوب العربية والاسلامية لأسباب عدة، أهمها النظرة السلبية للدين إليها. ويشرح لنا ذلك ربما لماذا هي الأسطورة المغربية قصيرة النَّفَس وبسيطة الحبكة. من خلال هذه الاستراحة الصيفية، تقترح عليك «المساء» عزيزي القارئ باقة منتقاة من أجمل أساطير المغاربة الأولين. اخترقت الزمن لتصل إلينا بفطريتها البديعة، عساها تعكس لمن يتأملها جوانب من عقلية الأجداد ونظرتهم إلى الذات وإلى العالم من حولهم.. كان لرجل متقدم في السن زوجتان، إحداهما طيبة ورقيقة وذات جمال لا يضاهى، بينما الثانية كانت قبيحة وشريرة وفوق ذلك شريرة. دارت الأيام وحبلت الزوجتان في وقت واحد، فأنجبت الزوجة الجميلة طفلة أجمل منها بينما وضعت الزوجة القبيحة طفلة تشبهها، وملأها ذلك حقدا وغيرة من الزوجة الجميلة وطفلتها. وذات يوم، ذهبت الزوجتان وطفلتاهما إلى النهر لغسل الصوف وقضين اليوم كله في ذلك، حتى إذا حل المساء انتبهن متأخرات إلى أن الحمار الذي حملن عليه الصوف قد سرقه اللصوص وتركوا مكانه اللجام. فقالت الزوجة القبيحة الساحرة لضرتها الطيبة الجميلة: «دعيني أضربك بهذا اللجام لأحولك إلى حمارة أحمل عليك هذا الصوف وأسوقك حتى البيت، ثم أحولك إلى بقرة، وبعدها أعيد إليك هيئتك البشرية »، فوافقت المرأة الطيبة بحسن نية. لكن حين حولتها الساحرة إلى بقرة ساقتها نحو الإسطبل وربطتها هناك. فأخذت البقرة تخور بكل قواها كي تذكر ضرتها الساحرة بوعدها الذي قطعته بإرجاعها إلى هيئتها الآدمية. فتجاهلتها ضرتها الساحرة كأنها لم تسمع ولم تفهم.. وعندما عاد الزوج في المساء إلى البيت وجلس إلى مائدة العشاء، لاحظ غياب زوجته الطيبة الجميلة فسأل عنها زوجته القبيحة الساحرة التي ردت عليه قائلة: «نسيت أن أخبرك بأننا عندما كنا في النهر نغسل الصوف، ابتعدت عنا ولم تعد. لكنني وجدت مكانها بقرة أتيت بها إلى البيت وربطتها في الإسطبل.». فصدقها زوجها ونسي أمر زوجته الجميلة الطيبة بعد ذلك. خلا الجو للزوجة القبيحة والشريرة لتنكل بطفلة ضرتها الجميلة وكان اسمها «عيشة». فسجنتها في المطبخ وفرضت عليها القيام بجميع أشغال البيت الشاقة، وأمعنت في إذلالها بذر الرماد على وجهها وشعرها الجميلين كل مساء، حتى استحقت الفتاة المسكينة لقب عيشة الرّْمادة، أي الملطخة بالرماد. لكن حيرة الساحرة كانت تكبر كل يوم إذ تجد الفتاة في الصباح نظيفة من أثر الرماد الذي قذفتها به في المساء، وشعرها ممشوطا. فأخذت تراقبها خفية حتى تكشف السر، إذ تبين لها بأنه عندما يستسلم جميع من في البيت للنوم تأتي البقرة قرب ابنتها فتحضنها وتقبلها، فترد الفتاة المعذبة على أمها حنانا بحنان. ثم تقوم البقرة بتنظيف ابنتها وتمشط شعرها، وتأخذها في حضنها حتى الصباح، فتتركها وتعود إلى الاسطبل. بعد أن اكتشفت الساحرة ذلك السر، ذهبت تخبر به زوجها، وطلبت منه أن يبيع البقرة، فسمعتها هذه الأخيرة وهربت من الاسطبل جريا. فتبعوها إلى أن خارت قواها واستسلمت فأخذوها إلى الجزار الذي ذبحها وباع لحمها إلى كل بيت في القرية. وخرجت عيشة المسكينة تطرق البيوت وتجمع عظام أمها، حتى أنها تعاركت مع الكلاب وهي تخرج بعض العظام من القمامة. وعندما انتهت من جمع كل عظام أمها نظفتها وعطَّرتها ولفتها في كفن، ثم دفنتها في مقبرة القرية. واصلت الساحرة تنكيلها المعتاد بعيشة الرمادة. وصارت البقرة تغادر قبرها كل ليلة وتأخذ هيئة بشرية لتأتي إلى مضجع ابنتها في مطبخ البيت، فتواسيها وتداويها. وعلى هذا الحال مرت الأيام والأعوام، فكبرت عيشة الجميلة في الذل والهوان بينما تنعم أختها القبيحة بالعطف والحنان. وذات يوم، أعلن الملك عن تنظيم حفل كبير بمناسبة زفافه ودعى إليها عموم الشعب. فقامت الساحرة القبيحة تعد ابنتها لحضور الحفل، وفي الليلة الموعودة وقبل أن تغادر البيت وضعت في المطبخ حملا ثقيلا من القمح، وحملا آخر من الزوان، وآخر من الذرة. خلطت الأحمال جيدا ثم توعدت عيشة الرمادة قائلة: «إذا لم تنته من فرز حبات هذه الأحمال عن بعضها في الصباح حين أعود، سوف أخلص عليك.. » ما إن أغلقت زوجة الأب الشريرة الباب خلفها مع ابنتها حتى ظهرت أم عيشة الرمادة، التي عادت من قبرها كعادتها كل مساء. لكنها كانت ترتدي هذه المرة ثيابا جميلة وطقم مجوهرات رائعا. فقبلت ابنتها ونظفتها من الرماد الذي كان يغطي رأسها، ومشَّطت شعرها ثم كستها ثيابا جديدة وألبست قدميها زوج شبشب جميلا، وأخذتها إلى حفل زفاف الملك. وما أن رأى الحاضرون في الحفل عيشة الرمادة حتى انبهروا لجمالها، وكانت الساحرة وابنتها ضمنهم. فقالت هذه الأخيرة لأمها: «أنظري يا أمي إلى هذه الفتاة الجميلة. لكم أخشى أن تكون هي عيشة الرمادة.» فردت عليها أمها ساخرة: «اطمئني يا ابنتي، ففي هذه اللحظة عيشة الرمادة غارقة في فرز أحمال ثقيلة من الحبوب. وقد توعدتها أن أقتلها إذا لم تنته من ذلك بانتهاء هذه الليلة، ونتخلص منها نهائيا. »