لعب السلطان أبو يوسف يعقوب المريني الملقب بالمنصور دورا هاما في حفظ الاستقرار في أوربا والشمال الإفريقي، وقد واجه مجموعة من التحالفات المعادية لدولته كتحالف يغمراسن وبني الأحمر مع ملوك قشتالة، لكنه استطاع فرض هيمنته على دول الجوار وأجبر خصومه على الرضوخ لما تمليه عليهم مصالح المغرب الحيوية، وتتحفنا الوثائق التاريخية المتعلقة بفترة حكمه برسالة وجهها إلى ملك فرنسا هي خير معبر عن وضع المغرب في عهد المنصور، إذ تحكي هذه الوثيقة كيف أرجع ملك المغرب الملك ألفونس العاشر إلى عرشه بعد الانقلاب الذي قاده ولده ضده، كما توضح أن المغرب منزعج من موقف فرنسا السلبي من الانقلاب المذكور، وأنه يدعوها إلى اتخاذ موقف حازم من الانقلاب على الشرعية في إقليم «قشتالة». ملك الإسبان يقبل يد ملك المغرب وفي هذه الرسالة الخطيرة التي وجهها الملك أبو يوسف يعقوب المريني إلى ملك فرنسا، فيليب الثالث، والتي يدعوه فيها إلى نصرة الملك الإسباني ألفونس العاشر، يظهر المغرب بمظهر الدولة العظيمة الحريصة على الاستقرار الدولي والراعية لما يعرف في وقتنا بالشرعية الدولية، وقد تدرج العاهل المغربي في عرض غرضه، فبدأ بما تقتضيه الأعراف من عبارات المجاملة والمودة حيث سيستهل رسالته قائلا: «بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله يعقوب بن عبد الحق أيده الله بنصره وأمده بمعونته وعضده ويسره، إلى الملك الأجل الأغر الأسنى دون فيليب ملك إفرانسه… نحن نعرف بعون الله قدر محلكم الجليل في كبار الملوك ولا نزال في إقامة الواجب بحسب ذلكم»، ثم سينثني بعد ذلك إلى الحديث عن الباعث الذي حمله على مراسلته فيقول: «إننا نقرر عندكم، ما عندنا من إقامة الواجب وملاحظة ما يلزم… فإننا نرى أن ذلكم حقا لازما نحن أحق من أقامه وأوجب من كمل ما يجب له وأدامه»، والظاهر من هذا الكلام أن العاهل المغربي يتحدث من منطلق ما يمليه عليه واجبه في حفظ السلم العالمي، إذ يرى ذلك من أوجب الواجبات وهو أحق من يقوم به ويسترسل في بسط غايته من الرسالة فيقول: «إن الملك الأسنى دون ألفونس ملك قشتالة وطليطلة وإشبيلية وقرطبة ومرسية وجيان والغرب… وقع بينه وبين ولده ما لم يقع قط في النصارى بين ولد ووالده، ورأينا أن ذلكم فعل قبيح في كل الأديان، وعار لم يسمع قط بمثاله في حين من الأحيان، فوجب علينا أن ننفر له النفرة التي تليق بما له من رتبة علية وعزة سلطان، وإن كنا بحال مخالفة معه في المذاهب والأديان، وعلمنا أن عمل الواجب في حقه نحن أحق من وفي فيه… وأدركتنا الغيرة… وبادرنا لنصرته وإعانته… مبادرة أخلصنا فيها النية وما أجنينا لغرض من الأغراض ولا لبلاد ولا لمال من ماله ولا لغرض من أغراضه، فإن الله تعالى قد أعطانا في البلاد والمال وسعة الملك في الممالك الحسان والرجال… ونحن لا نزال معه يدا واحدة وصداقتنا هذه متعاضدة حتى يملك ما بقي من بلاده». وبالرجوع إلى السياق التاريخي للحادثة التي تشير إليها الرسالة، نجد أن ملك قشتالة عندما فقد عرشه بعد انقلاب ولده عليه قصد ملك المغرب فاستقبله هذا الأخير استقبالا مهيبا، فانحنى الملك الإسباني على يده وقبلها إجلالا واحتراما ثم تضرع إليه أن يعيده إلى عرشه، ورهن عرش ملكه عنده برهانا على حسن نيته فحصل منه نظير ذلك على مائة ألف دينار من الذهب ووعد بالمؤازرة سرعان ما سيترجم إلى حملة عسكرية ستصل إلى حدود حصن مجريط عام 1282 م وستحقق انتصارات باهرة. المغرب يدعو فرنسا إلى الدفاع عن الشرعية الدولية لا يكتفي العاهل المريني في رسالته الموجهة إلى فيليب بذكر بلاء المغاربة في الدفاع عن «الشرعية الدولية «، بل ويوضح أيضا أن عيون المغرب مبثوثة في كل الأقطار، وأنه على علم بما يحدث في البلاطات الأوربية، وستقف الرسالة على ذكر ما تناهى إلى مسامع المنصور حول الانقلاب على ألفونسو من الأخبار، وأنه على دراية تامة بأنه لا صلة لملك فرنسا بهذا الانقلاب، كما أن معظم ملوك النصارى لا يقرون ما حدث، وعليه فقد طلب العاهل المغربي من فرنسا أن تبادر إلى اتخاذ موقف صارم من ذلك العمل المشين، الذي أقدم عليه ولد ألفونسو، وأن تدعمه حفاظا على استقرار المنطقة، حيث سيقول مخاطبا فيليب: «ونقول لكم إن ذلك هو الواجب على مثلكم من أهل الأدوات السرية والشيم العلية في حق مثل الملك المذكور، وعلمنا أن هذا الأمر الذي وقع لم يكن اتصل بكم ولا بملوك النصارى على ما هو عليه ولا تحققتموه كما تحققناه، فلهذا أبطأتم عنه ونحن نشكركم ونؤكد عليكم في المبادرة لنصرته والإسراع وتكميل الأمور… فإن كان أصابكم ما غير خاطركم من قبل الملك المذكور أو غير خاطره من قبلكم، فنحن نضمن لكم زوال ذلك حتى تعود المودة على أكمل ما به تقر العيون». وفي النهاية لا ينسى الملك المنصور أثناء دعوة فرنسا إلى مساندة الشرعية أن يذكرها بأن المغرب قد حسم الأمر من الناحية العسكرية، وأعاد الرجل إلى مملكته فيقول: «فأنجح الله تعالى العمل ويسر حسب المعتقد الجميل لأهل الجنة التي صدر منها ما أصدر من العود للملك المذكور»، غير أن المغرب مع ذلك يظهر رغبته في حفظ الاستقرار بالمنطقة، ولا يتم ذلك بغير وقوف فرنسا من الأحداث الداخلية بقشتالة موقفا إيجابيا، فمعظم النبلاء الذين قادوا الانقلاب على ألفونسو كانوا يطمحون إلى الحصول على دعم من دول الجوار.