يحل عيد الأضحى وسط الأجواء المتعارف عليها داخل كل منطقة، وفق طقوس و«عادات»، تلاشت معالمها من جيل لآخر وأخرى جرى ابتداعها لتجديد التراث وتلقيح جذوره. وإذا كانت العائلات المتمدنة، قد أفرغت برامجها الاحتفالية باليوم السعيد من كل ما هو تراثي، وحملت شعار التنافس على شراء أسمن وأبهى أضحية، وتكريس أسلوب المباهاة على (شكون احسن من الآخر)، باعتماد سعر الأضحية وندرتها، وإغفال جموع الأسر الفقيرة التي يقتاد فيها الأبناء أمهاتهم أو آباءهم للتفرج على ذي القرنين الطويلين والصوف الأبيض الناصع الذي يصعب اقتناؤه، والذي يسيل لعاب الأبناء غير ما مرة، وتدمع له العيون الفقيرة، ويستمر بحث هؤلاء الآباء عما قل سعره ليعودوا آخر النهار من السوق بأضحية مرفوضة من لدن الأبناء وأولياء أمورهم، فإن العديد من الأسر القروية تحن إلى طقوسها وعاداتها، وتعمل جاهدة على توريثها للأبناء والأحفاد، وعقدت العزم على أن تمر كل الأعياد والمناسبات الدينية في أجواء تغمرها الطقوس والعادات التي ساهمت في جمع شتات العائلات والجيران وزادت من تماسك الأسر المغربية واستمرار التكافل شعارا مغربيا لا بديل عنه. تختزن مختلف مناطق بلادنا الكثير من العادات والتقاليد خلال الأيام الاحتفالية بعيد الأضحى، نسجتها تخيلات وأعراف العديد من النساء والرجال، وظلت تنتقل بين الأجيال، واتسعت رقعة تجسيدها بتزايد عدد السكان وعزم مبدعيها وناقليها أبا عن جد على توريثها لأطفالهم. وجعلها ميزة لمناسباتهم وضامنة لهويتهم الثقافية والعرقية. يوم الوقوف بعرفة الذي يأتي قبل العيد... تلتقي معظم فتيات دوار لعمور بجماعة لفضالات بإقليم ابن سليمان في الصباح الباكر في فسحة الدوار حسب الموعد المتفق عليه مسبقا، يلبسن أحلى ما لديهن من (دفاين وتكاشط وشرابل ومضام وقفاطن...)، يحملن طبقا (طبك) به قطعة سكر وأوراق النعناع، ويبدأن رحلة البحث عبر الدور والمنازل المجاورة عن مصروف وليمة اعتادوا الالتفاف حولها مساء، والاستمتاع بالغناء القروي الشعبي بواسطة عتاد فني بدائي (طعارج وبنادر وصواني و...)، كانت الفتيات تكون مجموعات متفرقة وتستعن بالأغاني القديمة الخاصة بالمناسبة (عرفة عرفة مباركة... مايمونة مايمونة...). وينتظر الذكور من الأطفال والكبار مساء يوم العيد، ليخرجوا بدورهم في مجموعات متنكرين بأقنعة لإخافة أطفال أصحاب المنازل التي يطرقون أبوابها، ويطلبون نقودا أو مواد استهلاكية تعينهم في إعداد وليمتهم. ابتسمت الحاجة فاطنة وهي تستقبل سؤالي عن عادات وطقوس منطقتها الزيايدة الخاصة بأيام عيد الأضحى، عادت بالذاكرة إلى أيام الصبى وقالت بصوت تكسوه نبرات الحسرة على ماض مضى دون عودة: كنت في صغري ألتقي رفقة فتيات الدوار، صباح يوم عيد الأضحى، لنبدأ الاستعداد لليلة عاشوراء (العاشر من شهر محرم)، يأتي يوم فاتح محرم أول أيام عاشوراء فنختار عظما للفخذ الأيمن (يلقب بالكصير) لأضحية العيد من بين العظام التي تأتي بها كل بنات الدوار، نزينه بالحناء ونلبسه أزهى اللباس بمساعدة الأطفال الذين كانوا يكلفون بخياطة الكسوة التي نكون قد فصلناها له (اتشامير والسلهام والرزة)، نصنع له كتفين ورأسا، ونضعه كالعريس فوق صينية، ثم نطوف به كل الدواوير المجاورة، نلتمس من أصحاب «الخيام» والمنازل ما تيسر لديهم من (تمر أو شريحة أو دقيق أو نقود أو... ونهتف كلما مررنا بمنزل: أعطينا فلوس بابا عايشور آالله يعمر الدار...). وتصيح أخريات: (عايشور أبابا، عايشور أبيض الركاب.. إلى سولتي لالة منانة يعطيك الذباب...). تستمر جولات الفتيات كل يوم من أيام عاشوراء، وتتكفل إحداهن بجمع المحصول اليومي، حتى يوم العاشر من محرم، حيث يبدأ الاستعداد لتوديع ( بابا عايشور)، الوداع الأخير، فتقوم الفتيات بإزالة لباسه، وغسله وتكفينه وتقبيله ووضعه في مكان ما في الخلاء القريب من الدوار، وتمثل إحداهن دور الزوجة أو الأم التي مات زوجها أو ابنها، فتبدأ في البكاء والنواح، وتنادي جاراتها اللواتي ابتعدن قليلا عن المكان: هاها عايشور .هاها بابا .. أوليدي عايشور أوليدي أبابا... عايشور مات... تأتي الفتيات من كل صوب وناحية يجسدن أجواء حالات الوفاة عند الكبار، ويصرخن: يا دار جديدة ودخلها برد الليالي... أقوموا أنصارى ردوا عايشور فين غادي...عايشوري عايشوري ... دليت عليك شعوري.. تبكي الفتيات بكاء حقيقيا وتندبن خدودهن وتقطعن شعرهن، وتنتظرن الأولاد حتى يأتون ليقوموا في الفترة ما بين العصر والمغرب بتشييع جنازة (بابا عايشور)، فالفتيات ممنوعات من السير وراء الجنازة. يذهب الأولاد في موكب جنائزي إلى محل في الخلاء وهم يصيحون:لا إلاه إلا الله محمد رسول الله... وتبقى الفتيات تندبن فقيدهن و«يعددنه» بحزن عميق: عايشور العزيز في الزاوية دفنتو...أنا حالفة على رأسي لا دهنتو وأضافت الحاجة: كنا نشتري (الطعارج والبنادر)، خلال فترة عاشوراء استعدادا لإحياء ليلة تشييع جنازة بابا عايشور... نلبس أزهى ما لدينا من ( قفاطن وجلالب ودفاين ومضمات وشرابل وزيوفة وشدودة... ومن الفتيات من يأتين إلى مكان الحفل متنكرات في أزياء أمهاتهن أو أخواتهن الكبيرات، ونقتسموا الأدوار طيلة ليلة عاشوراء... نجلب قطع لحم من بيوتنا، فكل أسرة تحتفظ لابنتها بقطعة لحم من ذبيحة عيد الأضحى، تأتي بها ليلة عاشوراء... وتأتي الفتاة التي جمعت محصول الأيام التسعة من الجولان داخل الدواوير المجاورة. تنتهي فترات الحزن بعد دفن الجنازة، وتبدأ الاستعدادات لوليمة العشاء (خيلوطة)، وهي وجبة عشاء تشترك فيها كل الفتيات بقطع لحم العيد إضافة إلى بعض ما يلزم الطهي من توابل وأواني وموائد، إضافة إلى ما جمعوه من تجوالهم رفقة العريس الفقيد (بابا عايشور)، ويشارك في الحفل الأخير الأولاد الذين يشعلون نارا قوية (الشعالة)، تضيء الخلاء كاملا، وتبدأ الفتيات بالرقص والأولاد يدورون حول (الشعالة)، يقفزون فوقها، ويهتفون رفقة الفتيات بعدة كلمات معبرة عن فرحتهم بالعرس الكبير، تستمر الاحتفالات حتى موعد متأخر من الليل، لينتهي العرس ويضرب الجميع موعدا لعرس أحلى وأحسن لبابا عايشور السنة المقبلة. لم تقف الحاجة «المبدعة» التي خلقت الدفء حولها بكلامها الموزون عند احتفالات الأطفال، بل تابعت: وعند الكبار تكون ليلة عاشوراء ليلة التكافل والسؤال عن أحوال الأهل والجيران، فالأسر تجتمع داخل «خيمة» أو منزل واحد، تقتني الفواكه الجافة (التمر واللوز والكركاع والزبيب والشريحة...) من السوق الأسبوعي (الأربعاء)، لتفرقها على الأطفال وجميع الأفراد الحاضرين والغائبين والابن أو البنت المتزوجة خارج كنف الأسرة... تجتمع الأسرة كاملة مع الأهل والجيران، وتعد وجبة عشاء من الكسكس الزيادي باللحم المجفف من خروف عيد الأضحى (الكرداس والكديد والديولة). وأضافت أن (جزءا من الديلولة) يبخر به الإسطبل الخاص بالمواشي ليتزايد عدد المواشي وينمو أكثر . ويستمر سمر الكبار داخل المنزل، وحفل الصغار في الخلاء إلى أن يأخذ النوم مأخذه من المحتفلين، فيبدؤون في الانسحاب تدريجيا، ويترك أطفال عاشوراء دخان الشعالة يرسل دفأه على الدوار . وتزداد شهية الباحث في طقوسنا وأعرافنا لما تشمله من غرائب وعجائب تجسد عمق تاريخ الإنسان المغربي ومدى تمسكه بأصالته وتراثه، وتكفي الإشارة إلى الأساليب المختلفة التي ينهجها البعض من أجل الإعداد لذبح الأضحية، فمنهم من «يمد الأضحية بالماء ثم يوضئها الوضوء الأخير لتخرج روحها طاهرة بعد نحرها«» ومنهم من اعتاد على وضع بعض الأعشاب (نبتة الداد...)، أو قطعة سكر تحت رأس الأضحية، ومنهم من يرى أن ذبح الأضحية من قبل رب الأسرة ضروريا ،فيما يرى آخرون أنه يكفيه وضع يده على السكين والتسمية، ومنهم من يعمد إلى سلخ الأضحية رفقة الزوج والأبناء على اعتبار نشوة العمل الذي لن يتكرر إلا يوما في السنة، فيما يرى آخرون أن عملية السلخ يجب أن تكون من طرف جزارين ملمين بطرق السلخ، وعند استخراج الشحوم من بطن الأضحية، يعمد بعضهم إلى وضعها على ظهر أحد أبنائه لتجف فيما يرى آخرون أن العملية غير صحية وأنه يجب أن تعلق الشحوم على حبل. وعند اقتلاع الصفراء(المرارة)، منهم من يلقي بها مع بقايا الأزبال ومنهم من يحتفظ بها لأغراض الشعوذة أو التداوي. ومنهم من يجمع دم الذبيحة ويتركه يجف ليستعمله مستقبلا لعلاج الأطفال والرضع، من بعض الأمراض (الجعرة... أو كثرة البكاء). وعند إتمام عملية السلخ يتم تعليق (الكزرة أو السكيطة ...) لتجف، لتدخل من جديد أعراف وطقوس كل أسرة حول كيفية تناول لحومها وشحومها مشوية أو مقلية أو محمرة أو مبخرة... وإذا كان البعض ولأسباب اعتبرها صحية يحبذ ترك (السكيطة) إلى غاية ثالث يوم العيد، ومن ثم البدء في استهلاك لحومها، فإن رواية أخرى تؤكد أن ترك (السكيطة) لغاية ثالث يوم العيد كانت بسبب ما وقع لأحد الأشخاص في القرون السابقة، حيث يحكي الحاج بوعزة أن ذلك الرجل عمد رفقة أسرته لاستهلاك لحم الأضحية في نفس اليوم فجاءه خبر وفاة شقيقه الذي كان يسكن بمكان بعيد عنه، فترك الأضحية ورحل إلى منزل أخيه حيث قضى عدة أيام وعاد ليجد أن الأسرة لم تستهلك لحم الأضحية، فقرر ألا يأكل من لحم الأضحية إلى بعد أن يحل ثالث يوم العيد... ومن الأسر من تكتفي خلال ليلة يوم العيد بوجبة من الخبز (بوخمير مبلول بالمرق) وفوقه قطعة من لحم الرأس، وتنتظر إلى ظهر اليوم الموالي لتتناول وجبة غداء بالكسكس ولحم الكتف الأيمن. ومنها من تجتمع حول وجبة واحدة من الكسكس ولحم الكتف في نفس اليوم...