مع سعد الدين العثماني رأينا في الحلقة الماضية أن احتمالات التفاعل بين المرض النفسي والإدمان متعددة، وليس لها اتجاه واحد. فقد يكون المرض النفسي هو سبب الإدمان، وقد يكون الإدمان هو سبب المرض النفسي، وقد تكون هناك عوامل مشتركة تؤدي إلى كليهما، كما يمكن ألا تكون هناك أي علاقة عندما تكون لكل منهما عوامله الخاصة. لكن عندما يتعلق الأمر بالطفل أو المراهق فإن الأمور تزداد تعقيدا. ومن الأمثلة الحية أني استقبلت منذ حوالي 18 سنة شابا عمره آنذاك 17 سنة يرافقه والداه. لقد بدأ سلوكه يتغير قبل ذلك بثلاث سنوات: يتغيب عن الدراسة بدون مبرر، يبدي التبرم وعدم الرضا باستمرار، يغضب ويتشاجر لأتفه الأسباب، يقل نومه بالليل مع مرور الوقت، يغادر أحيانا البيت يومين أو ثلاثة أيام. ومع مرور الوقت أخذ مستواه الدراسي في الانحدار. حاول والداه البحث عن سبب ذلك التغير في سلوكه. وجدت والدته ذات يوم في ملابسه قطعة من "المعجون"، فأدركت أنه يستعمل المخدرات. وهكذا بدأت مرحلة طويلة من محاولات فطمه عنها. استمرت أحوال الشاب في السوء. واستمر في التمرد على كل شيء: على الأم، على المدرسة، على النوم، على النظافة والاعتناء بنفسه. لم تقرر الأسرة استشارة طبيب نفساني إلا بعد ثلاث سنوات من رحلة طويلة من محاولات "الإصلاح" ومعاناة "التهذيب". أثناء المقابلة اعترف الشاب بأنه يدخن الحشيش يوميا، كما يشرب الكحول ويتناول الأقراص المهدئة مرتين على الأقل في الأسبوع. وبعد بحث رجح أن الأعراض التي يعاني منها هي أعراض مرض الفصام، تطورت تدريجيا مع مرور الوقت، لكنه لا يزال في بداياته. اتفقت مع الأسرة على العلاج الضروري في مثل هذه الحالة، وهو أدوية على العموم مضادة للذهان. وعلى الرغم من أن الأسرة حاولت إعطاء الأدوية للشاب إلا أنها بقيت تركز باستمرار على تناوله المخدرات. وهو محور حديثها في كل الزيارات، وفي تعاملها مع الابن. وأضحى هو الهم الأول والأخير في الصباح وفي المساء. إن السبب في هذا السلوك مزدوج: فمن جهة هناك ميل إلى إنكار المرض، على أمل أن يكون الموضوع كله مرتبطا بالمخدرات. فالمرض النفسي، وخصوصا الفصام يشكل بالنسبة للأسرة "كابوسا" لا تريد مواجهته. ومن جهة ثانية هناك اكتفاء بالتفسير السهل: تناول المخدرات، وأن الابن يمكنه اتخاذ قرار التخلص منها. ما هي نتائج هذا السلوك. أولا قلة الاعتناء بتناول أدوية المرض، وقلة التفاعل مع الطبيب المعالج بالشكل الذي يتطور به هذا العلاج. فليست هناك وصفة واحدة ومحددة ونهائية، وإنما هناك علاج يتكيف حسب حالة المريض ويتطور مع تطوره. والطبيب المعالج نفسه يكتشفه تدريجيا بالتعاون مع المريض والأسرة. فإذا كان التفاعل ضعيفا، أثر ذلك على النتائج. ثانيا التقصير في العلاج يؤدي إلى تطور الحالة نحو مزيد من السوء. وكثير من الاضطرابات النفسية تنشأ وتنمو تدريجيا وببطء. ولا تظهر في صورتها السريرية الواضحة إلا بعد شهور، أو بعد سنوات أحيانا. وفي انتظار ذلك يمكن للاضطراب أن يتقمص شكل أي اضطراب آخر، مثل الإدمان مثلا. وإذا كانت الدراسات قد أوضحت أن المشاكل الاجتماعية، مثل طلاق الوالدين والخلافات الأسرية وتأثير الوسط من رفقاء ومجموعات الصداقة والوسط الدراسي، لها تأثير على المراهقين بزيادة نسبة تعاطي المواد المسببة للإدمان، فإن الاضطراب النفسي يشكل سببا آخر يفاقم التعاطي بشكل كبير. أما بالنسبة لتأثير استعمال بعض المخدرات في ظهور المرض النفسي فإن الدراسات العلمية لا تزال قليلة. ووفقا لنتائج دراستين منفصلتين، فإن أضرار إدمان الحشيش في مرحلة المراهقة لها علاقة بزيادة خطر الإصابة بالفصام في وقت لاحق من الحياة. وتبين كذلك أن الذين تعاطوا الحشيش أكثر من 50 مرة زاد خطر تطور الفصام لديهم بأكثر من 300٪بالمقارنة مع أولئك الذين لم يتعاطوا الحشيش على الإطلاق. كما أن الخطر انخفض إلى 40٪ عند أولئك الذين استخدموا الحشيش أقل من 10 مرات. وليس من الواضح ما إذا كان الأصل هو أن هذا التعاطي يثير فقط الأعراض النفسية الموجودة سلفا لدى الشباب الذين كان لديهم استعداد للاضطراب النفسي منذ البداية، أو أنه يسرع ظهور هذا الاضطراب، أو أنه يسببه بالفعل.