في سياق حساس يتسم بتنامي التهديدات الأمنية الناتجة عن التشبع بالفكر المتطرف، خرج المجلس العلمي الأعلى عن صمته لإثارة قضية شائكة، بعد حوالي ثمان سنوات من لقاء البيضاء حول حكم الشرع في دعاوى الإرهاب. أول أمس الخميس كان رؤساء وأعضاء المجالس العلمية على موعد علمي لتحليل مفهوم السلفية، الذي نظمه المجلس العلمي الأعلى بإذن من الملك محمد السادس. "المساء" تعيد رصد أبرز لحظات هذا اللقاء، الذي لم يخل من انتقاد للعلماء المغاربة. "كل المغاربة سلفيون".. هكذا خاطب أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، جمع العلماء في افتتاح أشغال الندوة الوطنية حول مفهوم "السلفية" التي حج إليها المئات من أعضاء المجالس العلمية المحلية، وبعض وجوه التيار السلفي الذين وجهت لهم الدعوة للحضور. استنفار المجلس العلمي الأعلى للعلماء جاء على خلفية ما أسمته المؤسسة "التحولات الإقليمية والدولية"، خصوصا ما تعلق منها بالجانب الديني، حيث تم توظيف الدين في صراعات ونزاعات طائفية ومذهبية جزأت الأمة وزادت من فرقتها، وجعلت أبناءها يستبيح بعضهم دماء وأموال وأعراض البعض، ويكفر ويفسق بعضهم البعض. واستباقا لأي تأويل لخلفيات تنظيم هذا اللقاء، أكد المجلس أن هذه الندوة ليست موجهة لفائدة جهة دون أخرى، بل إن المؤسسة هي للجميع وتربأ بنفسها عن ذلك، وما جعلها تمسك عن القول مدة إلا تجنبا لمثل هذا التأويل الذي لا محل له وتقديرا منها لشرط مناسبة القول. مؤسسة العلماء اعتبرت أنها "وإن كانت لا تنخرط في سجالات الرأي الخاصة أو المحدودة، إيمانا منها بهامش الحرية المتاح في هذا الاتجاه، فإنها تحرص على الحضور حيث يجب وتدعو الضرورة، حينما يتم الاقتراب من حصن الأمن الفكري والروحي الذي هو حق البلد والمواطنين جميعا". سلفية "الأقلية" في كلمته الافتتاحية التي أعقبت تدخل محمد يسف، الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى، حذر أحمد التوفيق من كون تضييق مفهوم السلفية قد يصير بدعة خطيرة لأن فيها اتهاما للأغلبية بأنها خارجة. الوزير اعتبر أن الندوة مناسبة ل"توجيه تحية إكبار لكل جماعة قائمة رشيدة مرشدة تعمل على التمسك بأركان الدين ومكارمه داخل ثوابت الأمة، وكل جماعة لا يظهر في عملها لا تشنج ولا استعلاء". وسجل التوفيق أن الأمة جمع متفاوت الأرزاق والاجتهادات، ولا يمكن تحجيمها إلى حزب أو طائفة من الطوائف. فالسلف الذين جاء من تسميتهم وصف السلفية عرفتهم الأمة على أنهم هم الجماعة، والتي تعني في تاريخ المسلمين الأغلبية التي لا تقابلها إلا الأقلية متى تجلت في فئة خارجة عن هذه الجماعة. الوزير تطرق، أيضا، إلى المظهر الخارجي، عندما قال إن ظاهرة اتخاذ لباس خاص مخالف للباس الجماعة من قبل مجموعات منتمية إلى مختلف الأديان ظاهرة معبرة إما عن الخوف من فقدان الهوية أو من وتيرة تسارع التحولات الاجتماعية لاسيما في العلاقة بين الأقليات. وأضاف التوفيق أن الشأن الديني ظل مناط اهتمام ملوك المغرب، لتنظيمه وتوجيهه الوجهة الصالحة، ودرء العدوان عنه، والمحافظة على المذهبية المغربية الأصيلة، التي تخدم الإسلام والوطن وتضمن الأمن الروحي للبلاد وتحد من غلو الغالين وتأويل المبطلين وإفساد الجاهلين. هذا الجهد البليغ، حسب الوزير، كان همه بيان الالتباس من المخالفة في الثوابت، ودحض التشنج في المفاهيم الدخيلة على أمور الدين والدنيا، تحقيقا للمقاصد الشرعية، ودرءا للمفاسد، وجلبا للمنافع الأصيلة"، حيث سجل أن المغاربة منذ قديم العصور، صاروا على مذهب السلف في الفقه والأحكام الشرعية العلمية، ومذهب العقيدة السنية الأشعرية وفي السلوك السني وفي القول بالإمامة. الإشكالات التي أضحى يطرحها تضييق مفهوم السلفية وارتباطه بالتوجهات المتطرفة توقف عندها محمد يسف في افتتاح أشغال الندوة. يسف يرى أن موضوع "السلفية" الذي كان بردا وسلاما على القلوب المؤمنة، عاد اليوم غولا مفترسا وكائنا غريبا له تشكلات وتمثلات لا يدرك كنهها ولا يحصى عددها ولا يدري أحد عاقبة أمرها. واعتبر أن هذه الفتن التي يأخذ بعضها برقاب بعض لم تحدث صدفة بل أمر مدبر، من ورائها محرك يحركها، وصناع في الخفاء يصنعونها، ثم يلقون به في بيئات صالحة لاحتضانه، فيتلقفها من أغمار الناس وسذاجهم، وممن في قلوبهم مرض يحسبونه لقطة وغنيمة، فإذا هو ثعبان مبين وشيطان مريد لا يدرون من أين يمسكونه، ولا كيف يديرونه. زحل والعلماء تمركز النقاش حول مفهوم السلفية ومختلف القضايا المرتبطة به، لم يمنع من توجيه انتقادات لكيفية تعاطي رؤساء وأعضاء المجالس العلمية الحاضرين مع الإشكالات المرتبطة بالتطرف والغلو في الدين. الشيخ محمد زحل، الذي أخذ الكلمة في الجلسة الختامية لأشغال الندوة، استغل فرصة وجوده بالمنصة إلى جانب التوفيق ويسف لتوجيه رسالة انتقاد واضحة إلى العلماء، حيث قال: "هذه الفقاقيع وهذه الطحالب نشأت من سكوتكم، ولو قمتم بواجبكم أحسن قيام لما كان ذلك". واستطرد قائلا: "لا غنى لأهل العلم والدعاة والمربين من التلاحم مع العرش، فالدين الذي تتكلمون باسمه مستهدف، ولا غنى لنا عن التعاون مع جلالة الملك المصلح سيدي محمد السادس". وعاد المتحدث ذاته ليأخذ الكلمة ويشيد بالنهج الذي سلكه المجلس العلمي الأعلى في فتح النقاش حول الموضوع، إذ سجل أن "مسلك الحوار مع المخالفين والتواضع والتنازل للخصوم وأن نخطو تجاههم خطوتين وسيخطون إلينا عشر خطوات، هو منهج خير من المنهج القائم على تكميم الأفواه وحظر الأنشطة". وهنا أوضح زحل أنه في عهد سابق على مستوى وزارتي الداخلية والأوقاف، كان المنطق السائد هو "اسكت"، رغم اعترافه بوجود من وصفهم بولاة عقلاء. وأكد أنه إذا كان المجلس والوزارة قد سلكا اليوم منهج الحوار والتواصل والتقارب، فإن المسلك الآخر كان سببا في نشوء الإرهاب. وكشف زحل أنه في أعقاب أحداث 16 ماي بمدينة الدارالبيضاء، جاءه من وصفهم ب"مسؤولين من أعلى مستوى في وزارة الداخلية والأمن" لمعرفة وجهة نظره حول ما وقع، فكان جوابه: "هذا ساهمتم فيه لأنكم، مع وزارة الأوقاف، كلما انفعل خطيب إلا وأوقفتموه وحظرتم نشاطه، وهذا الخطيب له تلاميذ ومحبون فلما غاب شيوخهم اضطروا إلى الدخول في السرية والتآمر وأن يؤصلوا ويفتوا لأنفسهم فنشأ الغلو والتطرف". بيان المفهوم مصطفى بنحمزة، رئيس المجلس العلمي المحلي لمدينة وجدة، اعتبر في مداخلته أن الانتساب إلى السلفية يعتبر أمرا جامعا وانتماء مشتركا بين جميع أهل السنة والجماعة، على قدر التساوي والتواطؤ لا على قدر التشكيك والتفاوت كما يقول المناطقة، فلا يتفاضل أهل السنة في الانتساب إلى السلفية مثلما لا يتفاضلون في الانتساب إلى جامعة أهل السنة والجماعة. وأوضح أن الأمة مرت بمرحلة لم يكتف فيها البعض بتجميع الناس على قاعدة الانتماء إلى أهل السنة والجماعة، وهي قاعدة واسعة جامعة تستقطب معظم أفراد الأمة، وإنما توجهوا إلى التضييق بالتركيز على أمر آخر هو الانتماء إلى السلف، وهو انتماء أخص من الانتماء إلى أهل السنة والجماعة. ولذا، يوضح بنحمزة، فإن البعض لم يجد حرجا في إقصاء الأشاعرة عن أهل السنة وتسميتهم جهمية على الرغم مما بينهم وبين مذهب الجهم بن صفوان من فروق جوهرية. ونبه المتحدث ذاته إلى وجوب المحافظة على وحدة الأمة الإسلامية، ونبذ التماس الفروق للحكم بتبديع الناس، بناء على قضايا ظلت موجودة في تاريخ المسلمين، وأحسنت الأمة إدارة الخلاف حولها، خصوصا بعدما تبدى حاليا مقدار التشرذم والتوزع الذي وقعت فيه الأمة الإسلامية، فوجه المسلمون حرابهم إلى صدور إخوانهم. إلى ذلك، اعتبر الدكتور الحسين آيت سعيد، في مداخلة حول السلفية وقضايا الأمن والاستقرار، أن دين الإسلام دين سماحة وعدل ووسطية واعتدال، ورأفة ورحمة بالموافق والمخالف، يترفع بتعاليمه الهادية عن الجور والظلم، والاستخفاف بالناس وقتلهم بغير حق، وغزوهم بغير مبرر وتخريب لأوطانهم بغير هدف. ويضيف أن هذا كله يتنافى مع المقاصد الكلية للشريعة، التي أصبح بعض أبناء جلدتنا لا يفهمون منها إلا التخريب والتشريد، وإيقاف عجلة التنمية. 3أ سئلة ل: – ما الذي دفع المجلس العلمي الأعلى إلى تنظيم ندوة حول مفهوم "السلفية"؟ كلنا نتابع ما يجري في بعض البلدان الإسلامية من فتن واختلالات أمنية واعتداءات وانتهاكات للحرمات وإزهاق للأرواح بدون سبب. لكن المغرب محفوظ، وأساس محافظته على أمنه واستقراره يرتبط بأمرين اثنين. أولهما هو أن له ثوابت تمسك بها المغاربة ووفوا لها ودافعوا عنها ورفضوا أي اختراق لها من أي جهة كانت، والثاني يرتبط بإمارة المؤمنين في بلادنا، التي يرجع إليها الأمر في حراسة هذا الموروث الديني العريق. فإمارة المؤمنين ممتدة امتدادا زمنيا منذ أن قامت أول دولة إسلامية في المغرب إلى الآن، ولم يحدث أي فراغ في العرش المغربي منذ عهد المولى إدريس وإلى عهد الملك محمد السادس. هذان العنصران هما اللذان كفلا وحققا للمغرب أمنه واستقراره وللمغاربة وحدتهم وتماسكهم وتعبئتهم في كل الظروف الصعبة. – ما هو دور العلماء في حراسة هذا الموروث الديني؟ دور العلماء إلى جانب إمارة المؤمنين هو حراسة هذا الموروث الديني الأمني العريق، الذي يتمثل في العقيدة الأشعرية والمذهب المالكي والتصوف السني وإمارة المؤمنين. هذا الرباعي المندمج الذي نسميه ثوابت المغرب هو التي تكون منه نموذج التدين المغربي الذي يبدو اليوم يتحرك وينتصب عملاقا قويا يثير انتباه الآخرين فيتمنوا أن يقتبسوا منه. وبحكم وظيفة العلماء وسلطتهم البيانية والتفسيرية للناس فعندما يلاحظون أن هناك شيئا يتحرك في هذه الساحة يرغبون في التأكد من هوية المتحرك الجديد الذي بدأ الناس يرددون اسمه، وإن كان يشكل خطرا على هذه الوحدة والتماسك والمنظومة من القيم الدينية والشرعية في البلاد. – وماذا عن مفهوم "السلفية" الذي فتح المجلس بشأنه النقاش؟ السلفية ليست غريبة عن المسلمين لأنها تحيل على القرون الأولى للسلف الصالح، لكن التحولات التي وقعت في المجتمع أظهرت أن هذه السلفية بدأت تفهم فهما آخرا وأنها تتحرك في اتجاه آخر معاكس تماما للاتجاه الذي صارت عليه في عهد العلماء الفضلاء الذين كانوا يعرفون حقيقة الإسلام ومقاصده وروحه المنفتحة وأنه ضد كل إرهاب أو استفزاز كيفما كان. فإزهاق روح الإنسان في نظر الإسلام موبقة كبيرة جدا لا يمكن اغتفارها. وبالتالي فلما بدأ الحديث عن هذه السلفية ظهر وكأنها تختلف عن تدين أهل المغرب، وبدأ المغاربة يتساءلون ويسألون العلماء عن معناها وإن كانت صحية أم مخالفة لتدينا. وبالتالي فرفعا لهذا الالتباس وإبعادا لهذا الشبح المخيف الذي يهدد إيمان المؤمنين في هذا البلد، طرح موضوع هذه الندوة ليقدم العلماء فيها البيانات الضرورية واللازمة ويكشفوا وجه هذه السلفية وينظروا إليها من كل الزوايا حتى تظهر واضحة أمام الناس جميعا، وتظهر علاقتها بدين الله الحق أو الاختلالات في فهمها من طرف الذين يتحدثون باسمها وما يرتكبون من أعمال التي لا يقبلها الإسلام. – هل ستخرجون بتوصيات قد تشكل خارطة طريق في التعامل مع موضوع السلفية؟ هذه البحوث والعروض التي قدمت ستطبع ونحن عازمون على أن ننظم على مستوى الجهات مناقشات موسعة مع العلماء والمفكرين والمثقفين والباحثين في هذا الموضوع، حتى ينكشف الأمر لأن القضية ترتبط بتوعية الإنسان المغربي ليحافظ على موروثه وشخصيته وأمنه ووحدته التي ضمنت له الثوابت على امتداد القرون. *محمد يسف، الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى