في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، بدأت الدول العربية تدرك أهمية إنشاء هيئة عربية مشتركة وتسعى إلى إحداث مرجعية في الطيران المدني. بعد أربع سنوات من الاجتماعات الماراطونية، تمكنت الدول العربية من إنشاء هذه المنظمة، وكان الدور المغربي محوريا وأساسيا في ظهورها. فالمغرب احتضن مؤتمرين أساسيين أوائل التسعينيات من القرن الماضي، وأصر على احتضان مقر المنظمة، غير أن مصر أصرت هي الأخرى على أن تحتضن المقر. إلا أن تحركات الدبلوماسية المغربية وديناميتها ودينامية بعض أطر وزارة النقل، مكنت المغرب من أن يحظى بثقة الدول العربية جميعها باستثناء مصر، خلال الاجتماع التأسيسي للمنظمة الذي عقد في عام 1996. و«كان ذلك نصرا للمغرب» كما تقول بعض المصادر التي تحدثت ل«المساء». اختير المهندس السعودي عبد الله مجلد أول مدير عام للمنظمة من قبل الجمعية العامة، التي تعد بمثابة المشرع والمخطط لعمل المنظمة، والتي تجتمع مرة كل عامين. وهذه الجمعية العامة تنتخب مجلسا تنفيذيا من خمسة أعضاء، وهذا المجلس ينتخب رئيسا له، وكان هو الإطار المغربي الراحل عبد الجواد الداودي، الذي شغل، في السابق، مناصب رفيعة، منها كاتب عام وزارة النقل. دور رئيس المجلس التنفيذي هو السهر على احترام قرارات الجمعية العامة وخططها. وكان منصب المدير العام يقع تراتبيا تحت مراقبة رئيس المجلس التنفيذي، غير أن صاحب الصلاحية وصاحب التسيير الإداري كان هو المدير العام. ويؤدي المدير العام للمنظمة بمجرد تعيينه، على غرار باقي المنظمات العربية المتخصصة، القسم أمام الأمين العام للجامعة العربية، ونفس القسم يؤديه الموظفون الآخرون العاملون بالمنظمة، بحضور المدير العام أو من يفوضه لذلك. وهذا هو نص القسم: «أقسم بالله العظيم أن أكون مخلصا لجامعة الدول العربية وميثاقها وللمنظمة وأهدافها وأن أحترم اتفاقيتها وأنظمتها وأن أؤدي واجبات وظيفتي بدقة وأمانة». بعد انتهاء ولاية المهندس السعودي، تولى الداودي منصب المدير العام. قد لعب عبد الجواد الداودي دورا محوريا في إنشاء المنظمة، وساهم في وضع أسسها منذ إنشائها. ولما تولى إدارة المنظمة، عرفت هذه الأخيرة تطورا مهما. تقول بعض المصادر «إذا كان المهندس السعودي قد أرسى أسس المنظمة، فإن عبد الجواد الداودي، الذي كان خبيرا دوليا مشهودا له بالكفاءة في مجال الطيران المدني، لعب دورا مهما في إعطاء إشعاع المنظمة عندما تولى إدارتها». وتقدم تلك المصادر كدليل على ذلك أنه في عهد عبد الجواد الداودي أصبح للمنظمة العربية للطيران المدني إشعاع دولي، إذ أصبحت مفاوضا مفضلا بالنسبة لدول الاتحاد الأوربي. وفي عهده أيضا طلبت كل من إيران وباكستان وتركيا الانضمام إلى هذا التجمع الإقليمي. «لقد استطاعت في هذا الوقت القصير تحقيق العديد من المكاسب والمنجزات التي تعتبر كبيرة إذا قيست بعمرها الوجيز، لعل أولها هو حصول الدول العربية على جرعة هامة من الثقة خلال مشاركتها، كمجموعة، في الاجتماعات الدولية المتنوعة مثل المؤتمر الدولي لنظم الملاحة الجوية، والمؤتمر الوزاري رفيع المستوى لأمن الطيران، والمؤتمر العالمي للسلامة، والمؤتمر العالمي للنقل الجوي، والمؤتمر العالمي للنظم الاقتصادية للمطارات، ناهيك عن الاجتماعات الإقليمية». غير أن المدير العام عبد الجواد الداودي مرض وتوفي في شهر دجنبر من العام 2005، بعدها تولى أسامة الكتاني إدارة المنظمة بالنيابة لمدة أربعة أشهر، لكنه ترك المكان للوافد الجديد على إدارة المنظمة محمد العلج. تراجع الأداء في البداية كان اسم أسامة الكتاني هو الاسم المتداول لخلافة المغربي عبد الجواد الداودي المتوفى، غير أنه في آخر لحظة قدم اسم محمد العلج «رسميا» لكي يتولى إدارة المنظمة في شهر 2005. محمد العلج، الذي ازداد سنة 1942 بوجدة، هو مهندس وخريج المدرسة الوطنية للطيران المدني بباريس، وحاصل أيضا على ماجستير في النقل، مدرسة بوليتكنيك بمونتريال بكندا. تولى مناصب رفيعة داخل الإدارة المغربية، منها تعيينه مديرا عاما للجمارك سنة 2004، ومديرا عاما للقرض العقاري والسياحي سنة 2001، ومديرا عاما للمكتب الوطني للسكك الحديدية سنة 1994. خلال مساره المهني، شكل محمد العلج شبكة علاقات وثيقة مع شخصيات وازنة في الدولة المغربية، وقد ساهمت إحداها في اقتراح اسمه لتولي إدارة المنظمة العربية للطيران المدني. «إن أول ما بدأ به مديرها العام الجديد عند تولي منصبه سنة 2005 هو القيام بجولة على الدول الأعضاء وبدلا من الاستفسار عن مشاكل المنظمة الحقيقية المالية والتنظيمية والفنية وسبل التغلب عليها، بدأ يردد عدم مصداقية الهيئة وقصورها والطعن في أعمالها...ثم تجاوز ذلك إلى السعي لدى الدول التي لها موظفون بالهيئة وطلب منها سحبهم واستبدالهم، محاولا ذلك مرات عديدة، مبررا توجهه هذا بأن الأسلوب السليم لتطوير المنظمة يكمن أساسا في تغيير سائر موظفيها وبدء نشاطها من الصفر. وهذا هو نفس الأسلوب الذي سلكه في المؤسسات الوطنية الأخرى التي تقلد مسؤوليتها»، يقول أحد المصادر من داخل الهيئة. قام محمد العلج بإبعاد أربعة موظفين رئيسيين بالمنظمة، وهم الليبي ميلود صقر مدير أمن الطيران، والسوري عبد اللطيف جبور مدير السلامة الجوية، والمغربيان أسامة الكتاني مدير النقل الجوي، وعبد اللطيف لهبوبي. واعتبر المعنيون بالأمر أن القرار كان مشوبا بانعدام الشرعية. في وثيقة اصدرتها الجامعة العربية في 2006، تحت عنوان «رأي إدارة الشؤون القانونية بالأمانة العامة لجامعة الدول العربية في الإجراءات التي اتخذتها الإدارة العامة للهيئة العربية للطيران المدني في مجال الشؤون الإدارية وشؤون الموظفين»، انصب الاهتمام على «عدم قانونية إنهاء خدمة» موظفي الهيئة أسامة الشريف الكتاني وعبد اللطيف لهبوبي، لعدم صدور قرار بانتهاء خدمتهما وفقا لأحكام المادة 45 من النظام الأساسي للموظفين. غير أن محمد العلج بعث في شهر أبريل من عام 2007 برسالة إلى كاتب عام وزارة النقل والتجهيز محمد المركاوي يخبره فيها بجعل كل من أسامة الشريف الكتاني وعبد اللطيف لهبوبي رهن إشارة الكاتب العام لوزارة النقل ابتداء من 11 أبريل 2007. ثم بعث مراسلة ثانية يوم 12 أبريل من نفس العام إلى عدد من الدول يخبرها فيها بإنهاء إلحاق أسامة الشريف الكتاني وعبد اللطيف لهبوبي. ومما جاء في المراسلة أن القرار جاء تطبيقا لقرار الوزير الأول للمملكة المغربية، الذي كان حينئذ يشغله إدريس جطو. وانعكست هذه القرارات على أداء المنظمة، وهو الأمر الذي يشير إليه تقرير اللجنة المكلفة بدراسة أوضاع الهيئة العربية للطيران المدني المنعقد بالرباط يوم عاشر أكتوبر 2007. ويشير التقرير صراحة إلى أن أداء الهيئة لمهامها يعيقه «إلى حد كبير الوضع الإداري الوظيفي الحالي في الهيئة» نفسها، وهو الأمر الذي «نتج عنه شبه توقف في تنفيذ أنشطة الهيئة، مما يستدعي التحرك العاجل لتصحيح هذه الأوضاع وإيجاد الحلول المناسبة لهذه المشاكل وفقا للأنظمة واللوائح». هذا الوضع انتقدته أيضا رسالة موقعة من طرف الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى إلى وزير التجارة الجزائري الذي كان يرأس الدورة ال80 العادية للمجلس الاقتصادي الاجتماعي، مؤرخة ب 14 يناير 2008. في هذه الرسالة يذكر عمرو موسى بقرار تشكيل لجنة مشكلة من مدير إدارة الشؤون القانونية ورئيس قسم المنظمات العربية المتخصصة بالأمانة العامة والمراقب المالي للمنظمة العربية للتنمية الإدارية بهدف دراسة الأوضاع المالية والإدارية والنظام الهيكلي للهيئة العربية للطيران المدني. ووصفت اللجنة في تقريرها، الذي أعدته بشأن تنفيذ الهيئة العربية للطيران المدني لبرامجها وأنشطتها ب«المتدني»، إذ لم تصل إلا إلى 7 في المائة من ميزانية المنظمة. والمهم في هذا التقرير هو تفسيره لهذا التدني، إذ اعتبر أن ذلك ناتج بشكل مباشر عن «الوضع الإداري وعدم الاستقرار فيما يتعلق بالموظفين المسؤولين عن الأنشطة والبرامج، وانعكاسه سلبا على سير العمل». وأضاف التقرير قائلا «إن الموازنة المعتمدة تضمنت مبلغ 200 ألف دولار مخططة كعائد من برامج التمويل الذاتي، إلا أنه لم يتم تنفيذ أي برامج في هذا الصدد، وبالتالي فإن نسبة المحقق هي 0 في المائة». بل إن التقرير انتقد قطع أجور موظفين رئيسيين بالمنظمة، بالرغم من أنهم موظفون ويمارسون مهامهم، وتم تكليفهم بأعمال رسمية. والمثير في الأمر أن الأمين العام للجامعة العربية أو تقرير اللجنة لم يتحدثا عن المسؤول عن هذه القرارات. ومقابل توقيف موظفين، تم تعيين خبراء جدد مكانهم و«ترتب عن هذا الوضع وجود موظفين معينين على الملاك يشغلون وظائف معينة ممولة وتعيين خبراء جدد لنفس المهام والوظائف، مما تسبب في توقف نشاط الهيئة تقريبا». وختم عمرو موسى رسالته قائلا: «وقد رأيت من واجبي ومن منطلق مسؤولياتي كأمين عام للجامعة العربية وكأمين عام للجامعة مخاطبة معاليكم (رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي) في هذا الشأن تمهيدا لعرض الموضوع على الدورة القادمة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي من أجل النظر في اتخاذ القرار المناسب لتصحيح الأوضاع في الهيئة العربية للطيران المدني». لجأ المدير العام للمنظمة إلى تبرير الإجراءات التي اتخذها في حق الموظفين الرئيسيين بكون الهيئة لم تكن في السابق هيكلا تنظيميا لم يتم إقراره إلا في عام 2006. غير أن تقرير لجنة تسوية أوضاع العاملين بالهيئة العربية للطيران المدني، الذي أعدته في أبريل 2008، اعتبر أن «الغرض من وراء هذا القول هو أن يستنتج منه أن تعيين هؤلاء الموظفين لم يكن صحيحا ومن ثم فإنهم لا يشغلون وظيفة دائمة في الملاك الوظيفي للهيئة وما يترتب عن الأخذ بهذا القول من آثار قانونية تمس وضعهم الوظيفي والمالي إزاء الهيئة». بل استند التقرير على دراسة أعدها المدير العام نفسه تحت عنوان «دراسة تقييم مسيرة الهيئة وخطة تطوير عملها», في الصفحة 45 يقول فيها ما يلي: «وبالتالي يقتضي ذلك توسيع الهيكل التنظيمي الحالي الذي لم يطرأ عليه أي تغيير منذ تأسيس الهيئة...» ورأى التقرير في هذا القول بأنه «اعتراف صريح بوجود هيكل تنظيمي للهيئة منذ إنشائها». وأضاف التقرير بأن «القول بإنكار وجود هيكل تنظيمي للهيئة قبل عام 2006 يوقعنا في مشاكل لعل أهمها بطلان عمل الهيئة طوال السنوات التي خلت منذ إنشائها حتى عام 2006، وعدم مشروعية تعيين مدير عام للهيئة, سواء السابق أو الحالي، ومن ثم بطلان قراراتهما لأن ما بني على باطل فهو باطل، واعتبار جميع القرارات الصادرة عن أجهزة الهيئة وعن المجلس الاقتصادي والاجتماعي والمتعلقة بالهيئة كأنها لم تكن». اقترحت على الموظفين تسوية اختيارية بضمان حقوقهم المالية كاملة على أن يترك الموظف العمل بشكل اختياري وحبي، أو الاتفاق والتراضي بين الموظفين وإدارة الهيئة على التعاون مع بعضهم. غير أن الموظفين أصروا على مواصلة العمل داخل الهيئة. ومازال الموضوع حاليا معروضا على المحكمة الإدارية لجامعة الدول العربية التي لها الصلاحية للنظر في النزاعات بين الهيئة وموظفيها، وستصدر قريبا قرارها الحاسم. الجانب المالي للهيئة لم تعش المنظمة منذ إنشائها في 1996 في بحبوحة مالية، وكان الخصاص المالي شعارا دائما لها، وكانت الأزمة المالية حاضرة تقريبا في كل أشغال واجتماعات المنظمة، سواء على مستوى الجمعية العامة أو المجلس الاقتصادي والاجتماعي أو المجلس التنفيذي. و تنص المادة 14 من الاتفاقية المؤسسة للهيئة العربية للطيران المدني على أن المنظمة لها موازنة مستقلة, وتقر الجمعية العامة مشروع الموازنة ويتم اعتمادها من قبل المجلس الاقتصادي والاجتماعي. وتتكون موارد الهيئة من مساهمات الدول الأعضاء, وتدفع هذه المساهمات في الحساب الموحد لدى صندوق النقد العربي، ومن دخل الهيئة من خدماتها وأنشطتها كبيت خبرة عربي متخصص، ومن الهبات والوصايات والتبرعات والمساعدات التي تقرر الجمعية العامة قبولها. وتنص نفس المادة على أن الميزانية تخضع للرقابة المالية للجامعة العربية. وفي الاجتماع الرابع والثلاثين للمجلس التنفيذي المنعقد بالرباط يومي 30 و31 مارس 2009، صادق المجلس التنفيذي على توزيع مخصصات موازنة العامين 2009 و2010 على عدد من الأبواب والبنود، وهي نفقات الأفراد العاملين، ومصروفات السفر والتنقلات، والمستلزمات الخدمية، والمستلزمات السلعية والصيانة، والمصروفات الرأسمالية، ونفقات اجتماع المجالس الرئيسية، والأنشطة والبرامج (انظر الجدول المخصص لميزانية 2009 و2010). وبالرغم من أن الاتفاقية نوعت من الموارد المالية للمنظمة، فإن وضعيتها المالية كانت دائمة صعبة وتعاني من عجز مثلما يصوره التقرير الذي صدر في سنة 2007 الذي دق ناقوس الخطر حول الأزمة الدائمة المزمنة للمنظمة. ومما جاء في التقرير « قرر المجلس الاقتصادي والاجتماعي (لتجاوز الأزمة المالية) مناشدة الدول العربية الأعضاء على تسديد مساهمتها المالية لإخراج الهيئة من أزمتها المالية، وتفويض رئيس المجلس التنفيذي ودعوة كافة الدول الأعضاء للمشاركة في اجتماع لجنة التنسيق والمتابعة المنبثقة عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي، لطرح الموضوع على اجتماع اللجنة ودعم متطلبات الهيئة بشأنه, تكليف الإدارة العامة لتقديم دراسة أو مقترحات عن كيفية عمل الهيئة كبيت خبرة عربي من خلال تقديم خدماتها بمقابل للمساهمة في تمويل بعض الأنشطة والبرامج». ويحدد جدول الرواتب والعلاوات والبدلات الخاصة بموظفي العربية المتخصصة الصادر في 2009 أجور المدراء والموظفين العاملين بالمنظمة. وينقسم الأجر إلى الراتب الأصلي وتعويض عن غلاء المعيشة وبدل التمثيل وبدل المعيشة. ويصل أجر المدير العام للمنظمة العربية للطيران المدني إلى 7068 دولارا في الشهر. ويصنف جدول الرواتب دول العالم إلى خمس مناطق، حسب مستوى غلاء المعيشة، ووضع المغرب ضمن المنطقة الثالثة التي تضم كلا من الأردن وتونس والجزائر والسودان وسوريا والعراق واليمن ومصر وفلسطين. هيئة أم منظمة؟ غالبا ما يحصل خلط بين المنظمة والهيئة. فأحيانا يتم استعمال الهيئة العربية للطيران المدني، وأحيانا المنظمة العربية للطيران المدني. والحال أن الأمر يتعلق بتسميتين لمسمى واحد. وينبع هذا الخلط من كون المنظمة عند تأسيسها أطلقت عليها الجامعة العربية اسم الهئية العربية للطيران المدني. غير أنه في الاجتماع الاستثنائي للمجلس التنفيذي الذي انعقد بالعاصمة المغربية الرباط يوم عاشر يونيو 2006، صادق المجلس على تعديل المادة الثانية من اتفاقية الهيئة باستبدال مسمى «العربية للطيران المدني» ليصبح «المنظمة العربية للطيران المدني».