إثر توالي التقارير الدولية والوطنية حول فشل السياسة التعليمية ببلادنا، أو فسادها على كل المستويات، الإداري والمالي والموارد البشرية. إثر ذلك بدأ الحديث عما عرف بالبرنامج الاستعجالي، أعدته وبشرت به الوزارة الوصية، فقرأنا أرقاما عن تغيبات الأساتذة عدت بالقرون، وأرقاما عن الهدر المدرسي وانفتاح المدرسة على محيطها بهدم أسوارها... أول تحد واجه الدخول المدرسي، في إطار البرنامح الاستعجالي، هو الخصاص الملحوظ في العنصر البشري، الذي لم يجدوا ما يستعصمون به غير ضم المستويات والعمل بنظام الأقسام المشتركة سيء الذكر، والذي لن يدرك مرارته وتفاهته وعبثيته، إلا من اكتوى بالعمل وفقه ومارسه فعليا وليس نظريا، كما يقترح البعض من أبراجهم العاجية. حل آخر اعتمدوه لا يقل خطورة على التلاميذ من سابقه، هو حشر أعداد من التلاميذ في حجرة واحدة. مما يطرح أكثر من إشكال. فما عسى الأستاذ، مهما كانت قدراته المعرفية وعدته البيداغوجية، أن يفعله عندما يتجاوز عدد تلاميذه داخل الفصل أربعين أو خمسين تلميذا؟! أغرب من ذلك عندما نراهم يعتمدون، من أجل سد الخصاص، على المعطلين بدون تكوين مسبق، ليتعلموا «الحجامة فروس ليتامى»... إذا تجاوزنا ما سبق، فالسؤال العريض الطويل الذي يفرض ذاته بقوة الواقع هو إلى أي حد يمكن معالجة ملف التعليم، بمعزل عن بقية القطاعات الأخرى الاجتماعية منها والاقتصادية؟ وقبل هذا، إلى أي حد يمكن اختزال الإشكالات التعليمية برمتها في التوقيت المكيف الذي شكل الحدث خلال هذا الموسم، والذي لا تزال تداعياته تتناسل؟ علما أنه تم العمل به على عهد السيد إسماعيل العلوي لتفادي الهدر الزمني لدى التلميذ، أولا وأخيرا. ففلسفة المذكرة، باختصار، تهم راهن التلميذ ومستقبله. فبدل قضاء اليوم كله في المدرسة لسنوات طويلة، يقضي التلميذ فقط نصفه، على أن يخصص النصف الآخر للمراجعة أو الاستئناس بشغل والديه. حتى إذا ما توقف عن الدراسة في مرحلة ما لسبب ما، سهل عليه الاندماج في محيطه. فإلى أي حد يمكن اختزال المذكرة، في غياب الأساتذة حيث تم إحصاء أنفاس الأساتذة بخصوص غياباتهم المبررة وغير المبررة، واحتسابها بآلاف الساعات، مما أثار الرهبة لدى الرأي العام؟ فما علاقة التغيبات بالشرخ المهول المسجل بين ما يتلقاه المتعلم في المدرسة العمومية من مواد ومقررات، وبين متطلبات سوق الشغل، حتى يضطر المتخرج، وطبعا من يولدون وليس في أفواههم ملاعق من ذهب، إلى التكوين وإعادة التكوين وانتظار الشغل لسنوات، و«شوف تشوف»؟ أم إن الخلل يكمن أساسا في الحوافز المادية الملموسة، من قبيل التعليم المفضي إلى الشغل؟ في غياب حل هذا الإشكال، هل يمكن تصور أن تراوح نسبة الهدر المدرسي وتدني المستوى الشامل لمقومات التعليم؛ لغات ومواد علمية، مكانهما قيد أنملة؟ بأي منطق يمكن أن تقتنع الخمسة ملايين أو أكثر تحت عتبة الفقر بالحرص على تمدرس أبنائها؟ وهل عزوف الشرائح المجتمعية الفقيرة وحتى المتوسطة عن تمدرس أبنائها، يعزى إلى ما سبق ذكره، أم إلى أسباب أخرى؟ ثم هل يخفى على الجهات المسؤولة ما للأوضاع المحرجة التي يعيشها أغلب المواطنين من دور في ترتيب درجات سلم الأوليات لديها؟ بمعنى آخر، هل التعليم بالنسبة إلى هذه الشرائح المعدمة يمثل أولوية؟ أم أن الخبز وما جاوره من سكن وصحة، هي همهم الأساس؟ فبدل توجيه فوهة المدفع نحو طرف واحد، على أهميته، بالوعد والوعيد، و«تجييش» اللجان التي لا هم لها غير غياب الأساتذة، وكأننا مقبلون على حرب وكان الأولى التوجه بالسؤال إلى أسر التلاميذ المنقطعين عن الدراسة، أو الأسر التي لا تربطها بالمدرسة سوى خيوط أوهن من بيت العنكبوت، لا تلبث تتقطع مع أول فرصة عمل تجدها لأطفالها، لتلحقهم بقوافل المشتغلين على حداثة سنهم، بما في ذلك إعارتهم، بمقابل مادي، للمتسولين المحترفين. إن أي مقاربة من هذا النوع لن يكون مصيرها أحسن حالا من سابقاتها لسبب بسيط، هو أن التلاميذ ليسوا سوى جزء لا يتجزأ من المحيط المعيش. إذ لا تخفى على المتتبع البسيط جراحاته العميقة، على كل المستويات، وخاصة في ظل الزيادات الأخيرة والمرتقبة في المواد الأساسية، التي كانت إلى وقت قريب خطوطا حمراء، تحاول الحكومات المتعاقبة تجنب الاقتراب منها مباشرة، لعلمها أن المواطن قد يصبر على كل شيء، إلا على جوع بطنه وبطون من يتكفل بهم، في إطار مبدأ الجار والمجرور، صمام أمان العديد من الأسر المغربية. كان بالإمكان استساغة هذا النوع من المقاربة التجزيئية التي تمس على الخصوص البرامج التعليمية والتوقيت المعمول به وغياب وحضور الأساتذة وغيرها من القضايا، داخل سور المؤسسات التعليمية، لو تم إصلاح بقية الأعطاب المتعلقة بالضروريات المجتمعية المعروفة. أما والحال غير ذلك والتلميذ يحيى في بيئته بكل تناقضاتها وبكل سلبياتها وبكل مظاهر تخلفها، فالأمر يفترض المقاربة الشمولية، إن أريد فعلا للواقع التعليمي أن يتغير. ما المانع من تخصيص جلسات استماع للتلاميذ في الوسط القروي وفي الأوساط الخلفية للمدن الكبرى، للتعرف عن قرب على هموم التلاميذ الأساسية، ليتأكد بالملموس أنه لا فرق بينها وبين هموم آبائهم وأولياء أمورهم؟ فهم يحدثونك عن الزيادة في مادة السكر والزيت ويحدثونك عن ارتفاع فاتورة الماء والكهرباء وعن غياب الطماطم عن الموائد بسبب ارتفاع ثمنها المهول... فأغلب الآباء لم يعد لهم من هم سوى أن يدبروا أمر معدة أبنائهم. أمام ضيق ذات اليد، هل يُعتَقد أن السبب وراء انقطاع الفتيات، على الخصوص، بنسب عالية عن الدراسة، يعود إلى ما يتداول بشأن التوقيت وغياب الأساتذة... ومن ثمة إذا ما انتفت هذه الأسباب، سيتقلص الهدر المدرسي؟ أم إن السبب أشمل من ذلك، ويتعلق أساسا ببنية مجتمعية تحتاج إلى تفتيت وإعادة تركيب، وفق معايير معقولة تروم ردم الهوة، ولو نسبيا، بين الطبقات المجتمعية بشكلها الحالي والتي لا تزداد مع الوقت إلا تناقضا، حتى ليخيل للمتتبع أن لكل طبقة اجتماعية أرضها وسماءها وهواءها؟ وهل يخفى على أحد ما تعج به الطرقات مطلع كل يوم، من أعداد هائلة من الفتيات، في سن التمدرس، يستعطفن على قارعتها من يجود عليهن، بنقلهن إلى المزارع والحقول، حيث يقضين اليوم كله مقابل ثمن زهيد، مع ما يوازي ذلك من ابتزاز بكل تمظهراته المشينة؟ فهل يتصور أن أي أب معدم أو أم، يمكن أن يوثر المدرسة على مكسب مادي إذا ابتسم له؟ ألم يحن الوقت بعد لمقاربة ملف التعليم في علاقته بباقي الملفات، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أجيال، بدل اللجوء إلى أقصر الحيطان للقفز عليها، لتبقى دار لقمان على حالها؟