الثامنة صباحاً. عاينتُ رقمي وجلستُ. على بعد مسافة محترَمة مني، جلس إلى نفس طاولتي طالبان. أحدهما إلى اليمين والآخر على يساري. المدرَّج «مدجَّج» بالأساتذة الحراس. وزعوا علينا أوراق الأسئلة وأوراقاً للتحرير بألوان مختلفة وأخرى «للوسخ».. وفي صمت جنائزيّ، بدأت اللحظات الأولى لمواجهة الحقيقة.. سؤالٌ، أسئلة، قلمٌ وورقة فارغة وبياضٌ يتحدّى.. هنا تعمل الذاكرة على «إملاء» ما خزّنته، على امتداد أيام وأشهر، على الدماغ الذي يُصْدر بدوره الأوامرَ للأصابع لتواجه الأسئلة المستفزّة. معركة حامية تندلع بين الكلمات والجمل والتراكيب حول من منها الأجدرُ بالبقاء على صفحة الورقة: ما لم يصمدْ منها يكون مصيرَه الحذفُ والتشطيب، يعقُب ذلك «الإقصاء» من الحضور في ورقة التحرير النهائي.. ثلاث ساعات كانت، في العموم، هي المدة المخصَّصة لكل اختبار على حدة. اكتفي البعض بالمكوث للحظات قبل أن يوقعوا في الورقة ويقدّموها للحراسة وينسحبوا في هدوء. يفعلون إما لأنهم لم «يقمّروا» على المادة، لأنهم لم «يعوّلوا» على نوعية الأسئلة المطروحة، أو لأنهم، ببساطة، حضروا فقط من أجل التوقيع، ولا شيء غَيرِه، ولكلٍّ سببُه.. لم تكن تُوقفني إلا صعوبة البدايات، كما عادتي، في مواجهة أي ورقة فارغة.. بعد اجتياز عَقبة البداية، كنتُ أسترسل في تدوين إجاباتي، حسب ما «بقي» في ذاكرتي من معلومات. قد تكون معلومات استوعبتُها وأستطيع، اللحظةَ، أن «أركّبها» في صياغة خاصة ووفق منهجية تحليلية أو نقدية واضحة، أو قد أكون حفظتُها «عن ظهر قلب» لا لشيء سوى لأعيدَها إلى صاحبها، أحيانا (بالنقطة والفاصلة) وفاءً للمأثورة الشائعة «بضاعتُكمْ ردَّتْ...» طولُ مدة الاختبار والحَرّ الشديدُ دفعانا إلى مغاردة أماكننا إما للشرب أو لتبليل رؤوسنا المحمومة أو تدخين سيجارة علَّ دخانَها يأتي بالفرَج.. بعضُ الطلبة يغادرون أمكنتَهم ويتوجّهون رأساً إلى المراحيض البعيدة. معظمُ هؤلاء «لا تكون نواياهم حسنة» في الغالب.. الحراسةُ اللصيقة التي تفرضها لجنةُ الحراسة تدفعها إلى «تأمين» شخص يرافق الطالبَ بمجرد ما يغادر طاولةَ الامتحان. وكان رجال «الأَواكْس» من يتكفّلون بهذه المهمة، في كثير من الأحيان.. ورغم «شطارة» الأواكسي و«حذقه» المفترَض، كان البعضُ يُفلحون في التلاعب برقابته، لمطالعة بعض «الحْروز» الخاصة التي تكون قد خُبّئت في مكان من المرحاض أو تكون، ببساطة، محشوةً في إحدى ثنايا ملابس الطالب! وفي لحظةِ غفلةٍ من الحارس «المُشَلغَم»، كان بعضُ «القافْزين» يتمكنون من إلقاء نظرة سريعةٍ لكنْ متفحّصةٍ على حروزهم و«تَلَقُّف» خيط البداية للسؤال الذي تركوه ينتظر قدومَهم داخل المدرّج أو القاعة المحروسة والحارّة.. كما كان البعض يحدّدون بينهم مواعيدَ مسبَقة في هذه المراحيض «للتداول والتشاور» حول الأسئلة وتبادل معلومات سريعة تقطعها تنبيهاتُ «الأواكسي» بأن «الكلام ممنوع إلى أن يدقّ جرسُ انتهاء الامتحان».. يتبع...