كلما حاولت أن أتعامل مع الأخبار التي أطالعها كل صباح في الصحف المصرية على أنها مادة لعملي اليومي وأن القراءة عندي هي عمل واحتراف وهواية وحب ومصدر أساسي للمعرفة دون أن أتأثر بمحتوياتها لا أستطيع، حتى أصبحت مصدرا لهمّ دائم يصاحبني، لأن ما آل إليه وضع مصر من خروق أصبح أكبر بكثير من قدرة أي راقع على أن يرتقه، وما تتعرض له مصر من تخريب يفوق أي مخطط يمكن أن يعده أعدى أعدائها لأن التخريب الأكبر الذي تتعرض له هو تخريب الإنسان. والعجيب أن هذه الأزمات ظلت تتصاعد وتتكاثر وتتضاعف يوما بعد يوم حتى أصبحت تطال كل مناحي وأشكال الحياة بشكل يمكن أن يقود، في النهاية، إلى أن يصبح المصريون يوما فيجدون الحياة قد توقفت. وسوف أحاول هنا أن أرصد بعض، وليس كل، الأزمات التي يعيشها المصريون الآن والتي تتضاعف مشاكلها يوما بعد يوم حتى إنها يمكن أن تقود مصر، في النهاية، إلى مصير لا يعمله إلا الله. الأزمة الأولى هي أزمة صحة الشعب المصري والأرقام والحقائق المفزعة التي تتحدث عن تفشي الأمراض القاتلة في نسبة كبيرة من أبناء الشعب، ولاسيما أمراض الكبد والكلى والسرطانات والأوبئة القاتلة، مثل التيفود الذي هو مرض القذارة المتناهية التي أوصل إليها النظام حياة الناس، حيث يشرب الناس ويأكلون من مخلفاتهم، وهذه هي أدنى درجات الانتقام من البشر، فكل شيء أصبح ملوثا وليس هناك أي استعداد لإيقاف هذا التلوث حتى الانتخابات الرئاسية المقررة في عام 2011 كما نشرت ذلك بعض الصحف، حيث صدرت أوامر عليا بترك كل شيء على ما هو عليه من ري الأراضي الزارعية بمياه المجاري حتى إشعار آخر، ومن ثم فإن الشعب المصري يتعرض لعملية تسميم متعمدة تحت رعاية النظام حتى إشعار آخر. أما الأزمة الكبرى فهي أزمة الأخلاق والمروءة والرجولة والأمانة والصدق والعفة واحترام الآخر؛ ويكفي أن يطالع الإنسان في الصحف جرائم المحارم والأقارب ذوي الرحم ليدرك حجم المستنقع الأخلاقي الذي آل إليه مصير الإنسان المصري الذي كان يتصف بالوداعة والطيبة؛ أما الجرائم العامة وطريقة تنفيذها فإنها من أبشع ما مر به المصريون في تاريخهم حتى إن أحكام الإعدام التي أصدرتها محاكم الجنايات خلال التسعة أشهر من هذا العام (2009) بلغت حتى الآن 90 حكما بالإعدام؛ وهذا أمر غير مسبوق، حيث إن كافة أحكام الإعدام التي صدرت في العام الماضي (2008) كانت 68 حكما فقط. ومن أكبر الأزمات سقوط هيبة الدولة وتجرؤ المجرمين وذوي السوابق على القانون وعلى رجال القانون والشرطة حتى إن صحيفة رسمية مثل «الأهرام» نشرت في عددها الصادر في 26 سبتمبر الماضي تقريرا مثيرا عن بلطجة سائقي الميكروباص الذين أصبحوا مصدرا لقتل الناس في الشوارع وتخريب سياراتهم، وتقول -وهي الجريدة الرسمية- إن 90%من سائقي الميكروباص الذين يجوبون شوارع القاهرة مسجلون جنائيا، وإن ضباط المرور عاجزون عن التصدي لهم. لكن المفاجأة أن الصحيفة تنقل عن مصدر أمني قوله إن ضباط المرور يحصلون على نسبة من إدارة السرفيس لهذه السيارات بصفة شهرية، وهذا يؤكد مستوى مستنقع الفساد الذي يجعل كثيرا من هذه السيارات تجوب شوارع القاهرة دون لوحات، حيث تروع الجميع وترتكب الجرائم دون رادع لأنها تحظى برعاية بعض رجال الشرطة الذين يملكونها أو يحصلون منها على إتاوات؛ ومن ثم فإن أرخص شيء لدى هؤلاء هو الإنسان الذي يمشي على الأرض أو حتى الذي يركب سيارة. ولبيان مستوى ما وصل إليه الأمر، تنقل «الأهرام» عن محمد سامي، قاتل وكيل وزارة الإعلام الأسبق محفوظ عبد الرحمن، قوله إنه نفذ أوامر صاحب السيارة بأن يدهس المجني عليه في شارع أحمد عرابي في حي المهندسين، أحد أحياء القاهرة المفترض أنها راقية، لكن المهم هنا هو تأكيد السائق أنها لم تكن المرة الأولى التي يدهس فيها أحد المارة تنفيذا للأوامر وإنما قال: «نحن نفعل ذلك في المناطق العشوائية ولا أحد يسأل، لكن حظنا العاثر جعلنا نفعل ذلك بمنطقة راقية، والمجني عليه كان من أصحاب المناصب الرفيعة». الخطير هنا هو أزمة رجال الشرطة المرتشين الذين أشار إليهم تقرير «الأهرام» وأزمة رجال الشرطة المجرمين الذين تواطأ بعضهم -كما ذكرت الصحف المصرية- في جريمة قتل مدير مباحث السويس، بل وتنبيه القاتل عدة مرات قبل القبض عليه، حيث كان يفر قبل الهجوم على المكان الذي يختبئ فيه، مما يعني أن هناك اختراقا لصفوف الشرطة التي أولت الأمن السياسي جل اهتماماتها وأهملت أمن المجتمع، مما أدى إلى تغول المجرمين واستفحال أمرهم حتى على الشرطة نفسها إلى أن أصبحوا في بعض المناطق أكبر من الشرطة ومن الدولة وأصبحت الدولة عاجزة أمامهم كما أصبحت عاجزة عن كل شيء في المجتمع بدءا من تنظيف الشوارع من الأزبال إلى ضمان سير الناس آمنين في الشوارع أو في حياتهم. أما الأزمات الاقتصادية والبطالة وإضرابات العمال والموظفين وأساتذة الجامعات وتهديد الأطباء بالإضراب والتذمر الكبير في المجتمع من كل الطبقات فأمر يشير إلى مستقبل خطير وشر مستطير، ويقول المراقبون إن عام 2010 سيكون عام المواجهات الكبرى بين الأمن وكافة طبقات المجتمع التي ستمارس الإضرابات والاحتجاجات بمستويات مختلفة، حيث إن الأزمات تستفحل في المجتمع وعجز النظام يكبر؛ ولعل أزمة الأزبال التي غرقت فيها القاهرة وعجز الحكومة عن حلها يؤكدان إلى أي مدى وصل العجز الرسمي في كافة مناحي الحياة في مصر. هذا على مستوى الأزمات الداخلية، أما الأزمات الخارجية فهي أكبر من أن يتم حصرها، حيث يتقزم دور مصر الخارجي بسبب القائمين عليه؛ ولعل الفشل الرسمي في الحصول على المناصب الدولية، وآخرها منصب مدير اليونسكو، أو التأثير في سياسة الدول المحيطة، وأهمها قضيتا فلسطين والسودان اللذين يمثلان الامتداد الاستراتيجي لمصر، والأداء المزري والمضحك لوزير الخارجية في المنتديات الدولية وتصريحاته التي تجلب الحسرة وتكشف عن التخبط والعجز.. لعل كل ذلك يدل على كيفية اختيار الرجال الذين يديرون أمر المحروسة. أما أكبر الأزمات فهي الضبابية التي تحكم مصر ومستقبلها في ظل بقاء الرئيس ما يقرب من ثلاثة عقود دون نائب، حيث أصبح مشروع التوريث هو المشروع الذي يعمل معظم من في السلطة على ترسيخه وإتمامه، مما يجعل البلاد في مهب الريح، حيث إنها دون مستقبل سياسي واضح. ونخشى أن يخرج علينا الرئيس مبارك ليطالب بمنصب رسمي لنجله حتى يستطيع من خلاله أن ينفذ مشروعه الإصلاحي أسوة بما طالب به الرئيس القذافي الليبيين. إنه لأمر محزن ألا يصبح أحد من خبراء وحكماء بلد كبير، مثل مصر، يعرف مستقبله، حيث الضبابية هي العرف السائد، والعجز هو السلوك القائم، وانتظار المجهول هو السمة العامة حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.