أزمة كبيرة في بريطانيا بسبب خبر نشرته صحيفة ال«ديلي تلجراف» البريطانية يوم الخميس 7 مايو الجاري حول المبالغ التي يحصل عليها بعض أعضاء مجلس العموم البريطاني مقابل بعض بنود الإنفاق الذي يقومون به أثناء وجودهم أعضاء فيه. وسرعان ما تحول الخبر من صحيفة واحدة إلى اهتمام وسائل الإعلام البريطانية كلها، حيث أطلقت عليه صحيفة «الجارديان» البريطانية، في عددها الصادر يوم الأحد 10 مايو، مسمى «بيت العار»، متهمة كثيرا من الأعضاء والوزراء بالتهرب من أداء الضرائب واستغلال أوضاعهم للتربح وإن بمبالغ قليلة لا تتجاوز مائة وخمسين جنيها إسترلينيا في بعض الأحيان أو شراء بعض احتياجاتهم من أموال دافعي الضرائب، اختصار شديد، أبواب جهنم فتحت على أعضاء مجلس العموم البريطاني وعلى الوزراء في حكومة رئيس الوزراء جوردون براون الذي طالته الاتهامات هو الآخر وإن في مبلغ لا يزيد على ستة آلاف جنيه إسترليني تتعلق بنظافة بيته. أخذت أتابع تطورات هذه القضية على مدى ثلاثة أيام وعقدت مقارنة بسيطة بينها وبين ما يحدث في بلادنا، ولاسيما من أعضاء البرلمانات والحكومة الذين يعتبر كثير منهم أو معظمهم ألا فارق بينهم وبين مال الشعب، فهم ممثلو الشعب، ومن ثم فهم وكلاؤه في ماله ومستحقاته طالما أنه غافل عن حقوقه أو لا يطالب بها أو يكتفي بمجرد الفرجة على ما يحدث لبلاده وحقوقه ومصيره دون أن يكون عنده أدنى استعداد حتى لمؤازرة الذين يطالبون بحقوقه. قبيل نشر هذا الخبر بأيام قليلة، كنت أجلس في القاهرة مع أحد رؤساء الوزارات السابقين في مصر حينما كان هناك شيء من النزاهة والشفافية والمحاسبة، وسألته عن راتبه التقاعدي حينما كان من القلائل الذين قدموا استقالتهم إلى رئيس الدولة في وقت كانت الصحف أعلنت فيه آنذاك أنه يقوم بتشكيل الوزارة الجديدة، قال الرجل: «كان معاشي التقاعدي مائتين واثنين وثمانين جنيها مصريا فقط لا غير، وكنت رئيسا للوزراء، وكنت وقتها أسكن في شقة من شقق عمارات الأوقاف وأنا رئيس للوزراء»، ثم استطرد قائلا: «هل قرأت ما نشرته الصحف المصرية عن قصور وفيلات وشاليهات رئيس الوزراء الحالي، لقد خجلت من نفسي وأنا أطالع الصحف التي لم تنشر المعلومات فقط وإنما نشرت صورا لهذه الممتلكات، وإن شئت.. الهبات. والعجيب أنه لم يصدر أي تكذيب من طرف رئيس الوزراء أو مكتبه حول ما نشر وكأن الصحف هنا تنشر عما يحدث في دولة أخرى، وما ينطبق عليه ينطبق على غيره من كبار المسؤولين في الدولة، حيث أصبحت الوظيفة العامة وسيلة للتربح والغني الفاحش خلال سنوات معدودة، في الوقت الذي يسمي فيه الموظف العام في الغرب «الخادم المدني»، أي أنه يخدم الناس مقابل راتبه فقط ويحاسب على أنه باع بيته الذي كان يملكه حينما كان في الوظيفة ولم يؤد الضرائب عليه، مثلا، وهناك وزير أجبر على الاستقالة لأنه أخفى أنه كان يملك شقة صغيرة يلتقي فيها عشيقته، أما الآن فإن أجود الأراضي الزراعية وأجود أراضي البناء وأجود الفلل وأجود القصور هي للمسؤولين في بلادنا، فهم فقط المؤهلون للاستفادة من خير هذه البلاد حتى إن كثيرا منهم لم يعد له هم أو عمل سوى متابعة هذه الأمور والحصول على أكبر قدر من الفائدة له ولأولاده ولأحفاده ولأصدقائه ولأقاربه وأقارب أقاربه. لقد أصبح هناك فحش في السطو على مال الدولة، حتى إن أحد المسؤولين سمى لي زميلا له وأقسم لي أنه لم يعد يعرف حجم ممتلكاته ولا أين يقع بعضها، ولاسيما من الأراضي، لأن معظمها هبات من هنا وهناك، فالمسؤولون الذين لا يسألون عن شيء في بلادنا لا يحفلون بما تقوله الصحافة ولا بما يقوله أحد، فقط الاهتمام الوحيد لهم هو أن الواحد منهم خلال سنوات الوظيفة يجب أن يحصل على أكبر قدر ممكن من المال العام، وكله من دم الشعب وحقوقه، فيوم الحساب بالنسبة إلى هؤلاء لا وجود له لا في الدنيا ولا في الآخرة والعياذ بالله، ومن آن إلى آخر تسمع عن كبش فداء هنا وهناك ممن لم يراع أصول اللعبة. لعبة السلطة والمال والنفوذ والجاه والنسب والنسبة والتناسب. ما تنشره وسائل الإعلام البريطانية، منذ عدة أيام، عن نفقات رئيس الوزراء البريطاني وبعض الوزراء وأعضاء البرلمان فتح أبواب جهنم على الحكومة البريطانية وأعضاء بيت العار، حسب وصف «الجارديان»، وإن كان الأمر وصل إلى فاتورة بقيمة مائة وستين جنيها إسترلينيا فقط؛ أما في بلادنا، فإن السطو على المال العام وصل حد التباهي، حتى إن بعض السفهاء من محدثي النعمة يتباهون بالغذاء الذي يأتي إليهم في طائراتهم الخاصة من مطاعم باريس والعشاء الذي يأتي من مطاعم لندن، لأن التخمة والمال العام الذي أتى من القوانين التي تفصل لهم أو الوكالات التجارية التي توزع عليهم أو أراضي ومملكات الدولة التي تمنح لهم، دون أن تكون لأي منهم أهلية فيه ودون وجود حسيب أو رقيب، هذا الأمر قد جعلهم ينسون أن هناك يوما للحساب. ما معنى أن يظهر رجل أعمال مصري، على سبيل المثال، لم يسمع أحد عن اسمه من قبل، ثم تتحدث الصحف عن ارتباطه بفنانة أو راقصة، أو أي ما كان الأمر، ليقيم لها عرسا يكلف الملايين غير ما وهبه لها، ومثله كثيرون، في الوقت الذي لم يكونوا يمتلكون فيه، قبل سنوات معدودة، سوى ما يملكه أي مصري بسيط، كيف تهبط الثروات على الناس هكذا دون كد أو تعب أو نصب أو أهلية، فقط لأنهم دخلوا في لعبة السلطة والثروة والنسبة والتناسب، وأصبحوا يملكون المليارات من أموال الشعب ودمائه، ومن ثم ينفقونها بسفه واستفزاز، إذا كان حال هؤلاء من صغار السفهاء فما بالنا بكبار السفهاء الذين يوزعون هذه الثروات على الحاشية والأقارب والأنساب، بينما الشعب يتلظى في لهيب الفقر ونيران المرض، وكيف وصلت بهم التخمة المالية..؟ هذا لا يحدث في مصر وحدها، بل هو حال معظم الدول العربية، غير أن مصر هي أم الدنيا وما يحدث فيها يقتدي به الآخرون حتى أصبحت لعبة الثروة والسلطة والأبناء والأحفاد لا تقف عن حد الثروة، بل وصلت إلى حد الترتيب لتوريث السلطة، وسط إفلاس النخبة وإعراض الشعب واكتفائه بالفرجة وكأن مصر هذه لم تعد ملكا لأحد إلا للذين يتولون أمر السلطة والثروة فيها، هم الذين يوزعون السلطة ويقسمون المال ويمنحون صكوك الوطنية بعدما أعرض الشعب كله إلا عن البحث عن لقمة عيشه، بينما النخبة تعيش بين الإفلاس والإفساد أو اليأس. إن حجم ما ينشر عن الفساد في صحف مصر والمغرب على سبيل المثال، باعتبارهما أكثر الدول العربية في مجال حرية الصحافة، أمر يشيب له الولدان؛ لكن الغريب في الأمر أنه لا يفتح أي ملف للفاسدين، ولا تتم محاسبة أحد منهم بل، على العكس تماما، في كثير من الأحيان يزداد الفاسد قربا من الحاكم، لكن صحيفة واحدة، واحدة في بريطانيا، تهز أركان الدولة والبرلمان والقصر الملكي، أما في بلادنا، فنكتفي بالقول: «ده كلام جرايد» فمتى يأتي يوم الحساب؟!