يقال إن وراء كل رجل عظيم امرأة. لكن هذه القولة تصدق في حق رجال مستقيمين، نقلوا بلدانهم من البؤس والحروب إلى الرخاء والأمن، وساهموا في تعميق المسار الديمقراطي، وكانت زوجاتهم بمثابة الساهر الأخلاقي على توجهاتهم السياسية اليومية. ولما تتعاطى هؤلاء الزوجات السياسة، يعملن بسخاء وبتجرد في الحقل الخيري وفي مجال الرعاية لجمعيات أو منظمات غير حكومية. لكن حصل أن كانت وراء الرجال نساء من حديد، يتورطن ولا يتورعن عن تحريك الخيوط من مواقعهن الاستنفاذية داخل آلة السلطة، للإطاحة بخصم وتنصيب قريب على رأس مؤسسة أو هيئة بنكية، أو تفويت مشاريع لصالحه. وهذا النوع من الممارسة خاصية من خاصيات السيدات الأوليات لبعض البلدان الديكتاتورية. في الدول الديمقراطية، عالجت العديد من الدراسات والتحقيقات الأدوار الاستبدادية-البهلوانية لهؤلاء السيدات الأوليات. أما في العالم العربي، ولأسباب سياسية، لم تحظ عقيلات رؤساء الدول والملوك، إلا فيما ندر، بدراسات أو سير نقدية. ولربما يعتبر التحقيق الذي خصه كل من نيكولا بو وكاترين غراسيي، للسيدة الأولى التونسية، «ليلى الطرابلسي»، عقيلة الرئيس زين العابدين بن علي، فتحا في الموضوع، تغرف ريشة نيكولا بو Nicolas Beau من اليأس والمرارة. وفي مشواره الصحافي، حيث عمل صحافيا بأسبوعية «لوكانار أنشيني»، الساخرة، نهل من أسلوب التنقيب الذي أصبحت فيه، الأسبوعية رائدة في فضح وإسقاط رؤوس السلطة أو على الأقل التنكيل بها. كتب عن العالم العربي، وخاصة المغاربي، لفضح المحسوبية، الرشوة، الصفقات السريالية والسرية بين فرنسا وديكتاتوريات راسخة. من بين كتبه السجالية: «باريس العربي»، «صديقنا بن علي»، بتوقيع مشترك مع جان-بيار تيكوا، الصحافي في جريدة لوموند. أصدر عام 2006 بتوقيع مع كاترين غراسيي، مؤلف «لما يصبح المغرب إسلاميا»، وهو عبارة عن تخمين إسقاطي تقاسمته العديد من الأقلام الصحفية الفرنسية لما «تنبأت»، خطأ، بوصول الإسلاميين المغاربة إلى الحكم. «الرئيسة» ليلى حاكمة قرطاج وفي أفق الانتخابات الرئاسية التي ستنظم في تونس بالخامس والعشرين من شهر أكتوبر، يصدر هذا الأسبوع تحقيق، حتى وإن كانت الكلمة مبالغ فيها نسبيا، مخصص ل«الرئيسة»، ليلى الطرابلسي، عقيلة الرئيس زين العابدين بن علي، بعنوان «حاكمة قرطاج. يد مبسوطة على تونس»، من 178 صفحة عن منشورات لاديكوفيرت، بثمن 14 أورو. إن كان نظام العشائر منتشر في بعض السلطنات ومملكات الخليج، فإن انبثاقه في تونس، البلد الحداثي، يبدو أمرا غريبا بل شاذا. ومع ذلك، فإنه بمجيء الجنرال زين العابدين بن علي إلى سدة الحكم، أصبح القوام والعمود الفقري لنظام الحكم في البلد ونظام العشيرة لا يحتمل انبثاق أصوات أخرى غير صوت الحاكم الوحيد الأوحد الذي يقول لسان حاله: أنا رئيسكم الأعلى. قد تنطبق هذه الوصفة على الرئيس بن علي الذي لا يتردد نظامه في الإقفال على خصومه، أو تنحيتهم مثل ما حدث للدكتور مصطفى بن جعفر، أحد وجوه المعارضة العلمانية، المؤسس والنائب العام للمنتدى الديمقراطي من أجل العمل والحريات، الذي نحي من ترشيح الرئاسة القادمة من طرف المجلس الدستوري يوم الأحد 27 سبتمبر الماضي. وقد سبق أن شطب على ترشيح نجيب الشابي، «لأن القانون الانتخابي -يذكر الكاتبان- فصل بغاية سد الأبواب أمام وجه المرشحين المستقلين».وإن كانت المرة الخامسة التي يتقدم فيها بن علي للرئاسة، فإنه في هذا الباب ليس بحالة يتيمة. فبلدان إفريقيا، العالم العربي، أمريكا اللاتينية وكل الأنظمة الديكتاتورية، تمدد في عمر فخامة رؤسائها، بالتحايل على الدستور، وتنحو بشكل متستر إلى تحويل نظام الحكم إلى نظام ملكي قبل أن يقف المحققان عند شخصية ليلى الطرابلسي، التي تم وصفها ب«المغتصبة» أو «السارقة»، يستعرضان الإنجاز الذي حققه الحبيب بورقيبة في ميدان الدفاع عن حريات المرأة بسنه قانون الأحوال الشخصية الذي يعترف للمرأة بحقوقها المدنية الكاملة. الحبيب بورقيبة المدافع عن حرية المرأة كان مسعى «المجاهد الأعظم» إدماج الديني في السياسي، مع تهميش للعلماء، وإدارة ظهره للمحاكم الدينية، في أفق حذف جامعة الزيتونة، وريثة الباي ورمز إعادة النخبة التقليدية. كان النص المؤسس يحمل في طياته ثورة حقيقية: إلغاء تعدد الزوجات، إلغاء سلطة الوصي، إقرار الطلاق القانوني والشرعي، تشريع تربية الأطفال. وقد حافظت المرأة التونسية على هذا التقليد. ويمثل النساء اليوم ربع السكان النشيطين. الثلث منهن محاميات والثلثان يعملن في الصيدلة. وقد كانت تونس رائدة في هذا المجال ومتقدمة بأشواط على فرنسا، وبخاصة في مسألة الإجهاض مثلا...غير أن بورقيبة لم يتمكن من إنهاء مشروعه، حيث اضطر إلى القيام ببعض التنازلات لصالح بعض القوى المحافظة. وهكذا أعلن خلال المؤتمر السادس لاتحاد نساء تونس عام 1976 بأنه «ليس من الضروري أن تعمل المرأة خارج بيتها للحصول على راتب». ولما تقلد الجنرال زين العابدين بن علي زمام الأمور، ولأسباب تكتيكية لم يراجع هذا الموروث أو «الاستثناء التونسي»، ولما قام بالانقلاب الطبي على بورقيبة، عزز بالعكس مكانة المرأة». بنعلي يزكي لأسباب تكتيكية حقوق المرأة لكن عدم المساس بقانون المرأة لم يكن رغبة في تحريرها، بل جعل من هذا القانون درعا ضد الهجمات التي قد تصدر عن أصدقائه وحلفائه الغربيين. وهذا ما أكده منذ أول خطاب له لما أعلن أنه لن يمس بحقوق المرأة. عام 1993 قام بعدة إجراءات لتحسين وضعيتها. دون الحديث عن عدم تدخل النظام في مسألة الميراث أو الأب كسلطة عائلية وحيدة. وعليه يتساءل المحققان كيف يمكن للأوروبيين التصدي لرجل دولة يدعو إلى قانون استثنائي للمرأة؟ أليست محاربة الحجاب أهم بكثير من الحديث عن التعذيب والرشوة والتعسف؟ نجاعة هذا الموقف دفعت بمدير مجلة «ليكسبريس» حينها إلى طرح الصياغة التالية: «بن علي ضد بن لادن». غير أن «نسوية الدولة»، تشكل إطارا مثاليا لترك الفرصة أمام انبثاق شخصيات نسائية قوية وطموحة. المهم أنه في تونس، لعبت النساء، وخاصة عقيلة الرئيس الحبيب بورقيبة، وزوجة الرئيس بن علي، أدوارا نافذة. كانت الأولى أقرب إلى إيفا بيرون، أما الثانية فهي عبارة عن إيلينا شاوسيسكو. ولم تكن للنساء في العالم العربي ولا في إفريقيا نفس الشفافية التي كانت لهاتين السيدتين. ويتساءل المؤلفان: «ألم تكن قضية المرأة في تونس مجرد ذريعة لتمتين سلطة غامضة؟ ألم يلعبن دور الرهائن حسب ما أشارت إليه الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات لتبرير ولإضفاء الشرعية على نظام استبدادي؟» مقاومة النظام تقودها النساء ويشير الكاتبان في معرض تقديمهما إلى أن «مقاومة النظام التونسي تقودها أيضا نساء، وعلى رأسهن «كابوس النظام»، راضية نصراوي، والحقوقية سهام بن سدرين، رمز المقاومة. ويميز الكاتبان بين الدور الذي لعبته وسيلة بن عمار إلى جانب «المجاهد الأكبر»، وهو دور نفوذ ومساندة، وليلى الطرابلسي التي أصبحت طرفا في السلطة. ألم تصبح عائلة هذه الأخيرة اليوم أقوى حزب في البلد؟ يتساءل المحققان. تدريجيا بسطت ليلى وأفراد عائلتها أيديهم على الاقتصاد. تذكرنا الطرق العنيفة المستعملة بحكومة الأب أوبو وليس بسلطة حديثة. وعليه تستعد تونس مع الانتخابات القادمة التي ستقام في 25 من أكتوبر لأن تعيش تجربة انتقال غريبة تعرف نتائجها مسبقا بمعدلات نجاح سوفياتية، كما هو جار به العمل. وقد قررت ليلى أن تلعب دورا حاسما في خلافة زوجها المريض والمتآكل بسبب سنه. وقد نجحت هذه المرأة الطموح بتوظيفها لكل الأسلحة التي وجدتها في المتناول، فهي رئيسة لعشيرتها وفي نفس الوقت زوجة وفية لقضية زوجها. وعليه تبقى شخصية ليلى شخصية مزدوجة، لأنها تجسد تناقضات مجتمع ممزق بين التقليد والحداثة. ويشير الكاتبان إلى أن ثمة تعايشا أنشئ بين بن علي وحلف ليلى: يهتم الأول بقضايا الأمن والملفات الديبلوماسية الحساسة والتحكيم الأخير، فيما يهتم الثاني بالعقود والصفقات وبسط الهيمنة على كل المشاريع. نكتة متنقلة بإحكام قبضة الرئيس بن علي على البلد، تعيش تونس فراغا سياسيا مخيفا، ربما قد يتحول مع الزمن إلى أرضية خصبة للأفكار الأصولية. في هذا الإطار أضحى المال السهل ومظاهر الاستعراض الذي تجسده ليلى وعائلتها النموذجين المرجعيين. ويشبه عالم عائلة الطرابلسي، على أكثر من صعيد، عالم بيرلوسكوني. وهي في عامها ال52، توجد ليلى في صحة جيدة وهذا عامل رئيسي في السباق إلى السلطة. كما أنها نسجت بفضل عشيرتها شبكة من الولاءات والنفوذ. إذ بوصول الجنرال إلى الحكم، ظهرت إلى جانبه منذ البداية وكأنها ظله الملازم. لا تفسر ولا تبرر صعودها إلى هرم السلطة الدراسات التي قامت بها ولا المهن المتواضعة التي مارستها، بل كانت لها ميزات أخرى: الصبر، الحدس. كما أن ليلى لها دراية كبرى بتزويج النساء وخاصة المقربات منها. وفي غياب صحافة حرة، انفلتت الألسن لتحول عقيلة الرئيس إلى نكتة متنقلة عبر ربوع تونس. وقد أصبحت الإشاعة جزءا من سيرتها الذاتية. شراهة عائلة الطرابلسي في السنوات التي تلت وصول بن علي إلى الحكم، كدس المقربون من النظام ثروات هائلة، لكن لا أحد بسط هيمنته كلية على هذه الثروات. غير أن المواجهة ما لبثت أن اندلعت بين كمال لطايف، الذي عارض زواج بن علي بليلى الطرابلسي، وبينه. غير أن هذه الأخيرة نجحت في إلحاق الهزيمة بكمال لطايف. وابتداء من 1996 أينعت شراهة عشيرة ليلى الطرابلسي، إذ استحوذ أخوها الأكبر، بلحسن، على شركة الطيران، التي ستصبح «كارتاجو-آيرلينز»، والتي حولها إلى محور تجاري للعائلة. ما من أحد من أقارب ليلى إلا استحوذ على قطاع من قطاعات اقتصاد البلاد. إذ يستعرض الكتاب شراهة حلف الطرابلسي، واغتناء الإخوة، والأخوات، السريع، والفضائح التي تسبب فيها البعض مثل عماد طرابلسي، الذي سرق يختا بقيمة 1,5 مليون أورو من ميناء بونيفاسيو بكورسيكا. أمام شراهة عائلة ليلى، حاول بن علي أن يلعب دور الحكم المغلوب على أمره. غير أن زوجته تملك سلطة أقوى من سلطة الوزير الأول ويمكنها أن تقلب الحكومة، تعين وتسرح السفراء والمدراء العامين كيفما يحلو لها. ضربت شبكة أقربائها والمقربين منها خيوطا عنكبوتية حول كل القطاعات: الهاتف الخلوي، الأبناك، التعليم الحر،...ويشير المحققان إلى أن الطبقة الوسطى بدأت تشعر بالإنهاك وبأن الرياح بدأت تدور في اتجاه غير الذي يشتهيه نظام بن علي. حاكمة بفضل عشيرتها وصمت فرنسا ولدت ليلى عام 1957 في أحضان عائلة بسيطة. كان والدها بائعا للخضر والفواكه الطازجة. لما حصلت على الشهادة الابتدائية، التحقت بمدرسة الحلاقة. التقت رجل أعمال يدعى خليل معاوي، وهي في سن الثامنة عشرة، وتزوجت منه قبل أن تطلق منه 3 سنوات فيما بعد. وبفضل معارف زوجها بدأت في مخالطة عالم رجال الأعمال. ويشير المحققان إلى أن ليلى كانت تتعاطى المتاجرة في بعض السلع بين تونس وإيطاليا. وفي أحد الأيام ألقي عليها القبض وسحب منها جواز سفرها. حينها طلبت من أحد معارفها، الجنرال طاهر مقراني، التدخل لاسترجاع الجواز. وليس من المستبعد أن يكون بن علي، الذي كان آنذاك مديرا للأمن، قد تعرف عليها في تلك الفترة. ولما أبعد بن علي إلى بولونيا سفيرا لتونس، بعد أحداث قفصة، تعرفت ليلى على فريد مختار، وكان لقاء حاسما في حياتها. كان الرجل مثقفا، عاشقا للفن، ومنشطا للنادي الإفريقي لكرة القدم لتونس. وكان صهرا لمحمد مزالي، الوزير الأول آنذاك. وبفضل فريد مختار تم تشغيل ليلى سكرتيرة في إدارة شركة باطيمات، أحد فروع الشركة التونسية للأبناك. سياسيا بدأت العلاقات في التوتر بين حلف محمد مزالي وحلف بن علي الذي كانت تسانده مجموعة من أقربائه، وخاصة صلاح الدين لطايف. وباستقواء حلف بن علي، سقطت أول ضحية، فريد مختار، حيث دبرت له حادثة سير نقل على إثرها إلى مستشفى أمراض التنفس قبل أن يموت.