على الكذب اتفقنا فاختلفنا ومن أسنى خلائقك الصموت وقد كذب الذي سمى وليدا يعيش وبر من سمى: يموت أبو العلاء المعري كانت أصوات المادحين الصادحة بأشعار في مدح خير البرية طاغية على ما عداها، ولكن مع ذلك كان الحاضرون بين الفينة والأخرى يتحدثون همسا استحسانا لصوت هذا المنشد أو ذاك أو لهذا البيت من الشعر أو الآخر دون ان يغفل البعض في أوقات التوقف أو الاستراحة تبادل أطراف الحديث حول هذا الحدث أو ذاك أو حول موقف من المواقف المناقضة والكثيرة في مجتمعنا هذه الأيام عندما التفت إلى أحد الإخوة الذين اعتادوا قراءة (حديث الجمعة) والذين لهم نظرة ايجابية ومستحسنة لما يتضمنه هذا أو الركن وقد أبدى استحسانه كالعادة ولكنه أردف في نفس الوقت اقتراحا ذهب بي بعيدا فقد قال (اكتب عن الثقة) ودون ان أسأله لماذا وما هي الدوافع والأسباب التي جعلته يقترح علي الكتابة في موضوع كهذا انصرفت للاستماع لما يردده المنشدون فالليلة ليلة ذكرى والذكرى دائما هي للعبرة ولاسيما إذا كانت ذكرى ذات قيمة تاريخية ووطنية ومع ذلك فقد بقي الاقتراح الذي تقدم به ذلك الأخ يرن في أذني مصحوبا بكثير من التساؤلات حول موضوع الثقة نفسه ولماذا الثقة بالذات وهل يمكن الحديث عن الثقة مجردا و الثقة في من؟ ومن اجل من؟ ولماذا؟ وهنا بدأت ادخل في صلب الموضوع دون ان أكون قد هيأت نفسي للموضوع ومع ذلك فلا اكتم القارئ فإنني في الحين بدأت أفكر في الموضوع وكيف يمكن تناوله، وهل إثارته في هذا الوقت بالذات له مغزى معين أم لا؟؟ ولم اشعر إلا وأنا أنجذب للحديث مع نفسي في الموضوع فقلت ان الحديث عن الثقة يستوجب الحديث عن أمرين اثنين قبل ذلك وهما الصدق والكذب. نعم الصدق والكذب عنوانان بارزان في مجال الأخلاق ومجال المعاملات بين الناس منذ أقدم العصور حتى اليوم، وقد كان الأمر بالصدق واجتناب الكذب من أولويات ما كان يوصي به الآباء والمعلمون أبناءهم وتلامذتهم، وهما كذلك صفتان من الصفات المثلى والأخلاق الفاضلة التي كان ولا يزال الوعاظ والمرشدون في مختلف الديانات سماوية كانت أو وضعية يدعون إليهما ويطلبون من أتباعهم الالتزام بهما أي الالتزام بالصدق واجتناب الكذب ليتم التعامل داخل المجتمع كان مجتمعا صغيرا متسعا وكبيرا داخل الأسرة وخارج الأسرة. ولذلك كان الصدق فضيلة من الفضائل التي لا يستغنى عنها مجتمع يريد أن يبني الحياة على أسس التعاون بين أفراده ويريد كذلك لمعاملاته التجارية وغيرها ان تنجح وتحقق للناس ما يسعون إليه من التنمية في إطار من التعاون والتنسيق والانسجام. وقد أراد أحد العلماء التدليل على أهمية الصدق والكذب فاقترح تصور مجتمع من الكذبة كيف يكون أمر هذا المجتمع وكيف يدبر شؤونه وعلى العكس المجتمع المتكون من الصادقين. وعلى أي حال فالقناعة بأهمية الصدق حاصلة لدى الجميع حتى الذين لا يمارسونه وضرر الكذب يقتنع به حتى الذين يكذبون. الأخلاق وانهيار الحضارات والمجتمعات وعندما نعود إلى كتب الأخلاق نجد هذا واضحا وأساس كل التوجيهات والأمر كذلك فيما إذا عدنا إلى كتب التاريخ التي تحدثنا عن الأقوام والشعوب وعن نشوء الحضارات وازدهارها وعن أفلها وانهيارها فنجد من بين ما نجد أن انعدام الثقة بين أفراد المجتمع نتيجة لفشو الكذب أو وجود الثقة والتعاون نتيجة لروح الصدق المتجلية لدى الناس عن هذا أو ذاك يبني الكثير من المؤرخين والباحثين أحكامهم في النهوض أو السقوط ولاشك ان هذا الاستنتاج أو الاستخلاص للعبر من سلوك القادة والزعماء الذين يصدقون القول أو الذين يرسلون الكلام على عواهنه دون ان يلقوا بالا لتأثير وعودهم وكلامهم في الناس سلبا و إيجابا فالناس ينشدون القول المقرون بالفعل وعند ذلك تنشأ الثقة فيما بينهم اما إذا كان القول في واد والفعل في واد آخر فإن الناس يكون لهم رأي آخر وهذا الرأي لا يكون في صالح البناء والتشييد وإنما يضر أكثر مما ينفع. وبما ان الموضوع كان ونحن في ليلة ذكرى رجل وطني ناضل حياته كلها من أجل قيم ومبادئ ليست ذات طابع شخصي أو فردي ولكنها مبادئ عامة عاش عليها وطن وأمة ولا يزالان ثم حدث عارض تاريخي وأراد الغير ان ينال من هذه المبادئ العامة فقامت ثلة ومنها هذا الإنسان للدفاع عنها وحمايتها من الذوبان ونجح الرجل ونجح أصدقاؤه في قيادة الأمة وسوقها إلى مجال العراك في سبيل هذه المبادئ والقيم ولم تتلكأ الأمة أو تتراجع عن العمل قيد أنملة تحت قيادة هذه الثلة من الرجال ومن على شاكلتهم من القادة والموجهين، ولم يكن الاندفاع بدون ثمن وإنما كان الثمن ثمنا غاليا وفادحا ولكن الكل تحمله لان القيادة تحملته بالدرجة الأولى فهذا قائد غرب عن وطنه عقد من الزمن ولم يحد عن المبدأ أو يتراجع وهذا غرب إلى مجاهل الصحراء وحددت إقامته وذاك وراء السدود والقيود وذاك تقطعت أوصاله ولحم ذاته مُزَعًا تحت سياط الضرب والركل وما تخلف واحد أو تنكر فكانت القيادة مثالا في التضحية والبذل وكانت النتيجة ان القاعدة أو الأتباع ساروا على نفس الدرب والنهج فما تخلف احد. وكان هذا كله بفضل الثقة التي كانت متبادلة بين هؤلاء الناس فلو لم تكن الثقة بهذا الرجل وإضرابه ولو لم يثق هو نفسه بإخوانه لما كان هذا الحب وهذا التعاون وهذه التضحيات ولما كنا نحن جالسين في ذكراه فالثقة إذن هي أساس ما كان منه وما كان من إخوانه ورفاقه ومع الثقة كان هناك شيء آخر اسمه نكران الذات. وأمر الثقة عام بين كل المجتمعات والأفراد ويزيد الأمر تأكيدا أو وثوقا عندما يتربى المجتمع على مقولة (قول وفعل هو الإسلام الرفيع) ولهذا فإن المجتمعات الإسلامية اليوم تعيش أزمة كبرى هي أزمة الثقة فالمجتمعات التي ناضلت ضد الاستعمار وكان قادة حركة التحرير فيها يتسمون بالصدق في القول وفي التضحية فوجئت بما حصل بعد التحرير حيث بدأت ترى القول يخالفه الفعل وأصبح الواقع على غرار ما قيل حول ذلك الرئيس العربي حسب النكتة عندما أمر سائقه وجه الإشارة إلى اليسار وانعطف نحو اليمين) ولا عبرة بهذه النكثة فالذي تعيشه المجتمعات الإسلامية هو أن القادة والزعماء يخطبون في اتجاه ولكنهم عندما يتصرفون يتصرفون في اتجاه آخر، فهم على غرار ذلك الزوجين الذي يحكي ان الرجل غرقت زوجته في نهر فذهب المنقذون مع منحدر النهر وصعد هو نحو منبع النهر لأنه تعود منها عكس ما يطلبه، وما تقوله في تصرفاتها وهذا ما يحصل بالتمام بين الشعوب الإسلامية وقادة هذه الشعوب فهم يتحدثون عن الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير وان الصحافة مكفول لها قول ما تريد ولكنها تفاجأ بين الفينة والأخرى بالعقاب والمواخذة لأنها خرجت عن خط احمر وهمي في نظر هذا المسؤول أو ذاك دون ان تكون الصحيفة على علم بهذا الخط الذي نصب ليلا يتخطاه احد ولكنه بدون علم من أحد. والمسؤولون يتحدثون عن الديمقراطية ونزاهة الانتخابات وشفافيتها ولكن هذه الديمقراطية عندهم ديمقراطية بدون روح، وديمقراطية مبنية على خطوط حمراء وهمية كذلك لا يمكن تخطيها، والتحكم المباشر أو عن بعد هو قائم بالفعل فلا يمكن ان تكون هذه الديمقراطية خارجة عن السيطرة بل يجب ان تكون وفق ما يريد الحاكم أو المسؤول، والمسؤول هنا ليس من المفروض ان يكون في سلم معين من المسؤولية بل يكفي ان تكون لديه وظيفة ما من شأنها التأثير في العملية الديمقراطية ليتدخل ويوجه الأمور وفق ديمقراطيته الخاصة ولو لم يكن المجتمع أو الدولة قررت في أمر الإجراء الذي يرى هو انه في صالح ما ينشده لنفسه ولتوجهه الخاص وهذا من طبيعة الحال إنما يتأتى عندما يكون المسؤولون في السلاليم العليا من المسؤولية يتصرفون وفق ما يرون لا وفق ما يحدده ويرسمه القانون والضوابط المرعية لذلك فالذي يلاحظه المراقب وكل أفراد المجتمعات الإسلامية في هذه الحالة مراقبون هو أن كل الدول غير الإسلامية تمر فيها الانتخابات في مختلف المستويات والدرجات فيقبل الناس النتائج بصدر رحب وبروح رياضية كما يقال الا المجتمعات الإسلامية فالناس موطنون أنفسهم على أن المسؤولين لم يصدقوا القول معهم في هذا الذي يجري أمامهم ولذلك حتى ولو كانت الانتخابات نزيهة فإن الناس لا يثقون بنتائجها ولا بمن نجح فيها أو سقط فهم يرون ان الصدق غير موجود وبانعدامه تنعدم الثقة فعندما يرى الناس القول الجميل والفعل مغاير فان الثقة تصاب باهتزاز كبير لدى الرأي العام وما قيل عن المسؤولين عن إدارة شؤون البلاد يقال كذلك عن المسؤولين عن إدارة الهيآت الفاعلة في المجتمع من أحزاب ونقابات وحتى ما يعبر عنه بالمجتمع المدني إذ الكل متواطئ على قبول الزيف ومخالفة القول الفعل وهناك نماذج وأمثلة كثيرة لهذا الانفصام بين القاعدة والقيادة فهنا يصدق قول الشاعر: إذا قالوا قالوا فأحسنوا ولكن حسن القول خالفه الفعل الثقة والمسألة الاجتماعية وإذا كان أمر الحريات والديمقراطية على النحو الذي أشرت إليه إلا من رحم ربك وقليل ما هم فان أمر المسألة الاجتماعية اعقد من ذلك فالأمر لا يتعلق بالتصويت لصالح فلان أو فلان ولكن الأمر يتعلق بالقوت وبأرزاق الأنفس والعيال، فالأقوال التي يرسلها الحاكمون في موضوع التنمية والعدالة الاجتماعية والمساواة أقوال جيدة ومغرية ولكن واقع الناس واقع مؤلم ومزري، فالحكومات في ديار الإسلام تتصرف في الثروات الطبيعية للدولة ومردوديتها وفي مداخل الجبايات وغيرها تصرف المالك الفرد في ماله و اي الاستئثار به دون غيره ولا يراعى هنا حتى الجانب الايجابي في رعاية الإنسان لملكه بمعنى صيانته وحمايته من الضياع والتلف، فالمال العام يخضع للعبث والضياع وغير ذلك من أساليب التي هي اقرب إلى السفه منها إلى الرشد ، أما الإثراء غير المشروع من لدن الكثيرين من الناس فهو كذلك مما يقوض الثقة فيما يدعى من تنمية وتحقيق العدل والمساواة وإيصال لكل ذي حق حقه من المال العام ومن نتائج التنمية التي بمقتضاها تجبى الأموال ويقدم الناس التضحيات تلو التضحيات ولذلك تكون نتيجة هذا كله لا مبالاة من لدن أفراد المجتمع فلا يقبلون على أي أمر من الأمور التي تدعو إليها الحكومات بصدق أو حسن نية وكل ذلك لفقد الثقة بين الناس، وعدم التعاطف مع المسؤولين بسبب ما يرتكبونه من كذب ووعود زائفة وعارية عن التطبيق والتنفيذ وليس من باب الصدفة ان يكتب احد الباحثين في العلوم والسياسة والاقتصادية العالميين اليوم كتابا في موضوع الثقة واعني هنا الباحث الأمريكي من أصل ياباني (فرنسيس فاكوياما) صاحب كتاب (نهاية التاريخ)، فهذا الباحث كتب كتابا بالعنوان الثقة: الفضائل الاجتماعية ودورها في الرخاء الاقتصادي». الفضائل الاجتماعية والرخاء الاقتصادي إن هذه الفضائل الاجتماعية التي عشنا لها وعليها ردحا من الزمان ليس قليلا في المجتمعات الإسلامية عندما انطفأت شعلتها او كادت صارت مجتمعاتنا مجتمعات متخلفة اقتصاديا واجتماعيا ودينيا بالأساس فلو كان الدين لا يزال اثره في الناس مثل ما كان، لكان الصدق ديدن الناس في حياتهم وفي مختلف درجاتهم من المسؤولية ولكانت الثقة متبادلة بين الناس ولكننا عندما غادرنا الصدق غادرتنا كذلك الثقة فيما بيننا وغادرنا النمو الاقتصادي وغادرنا الرفاه الاجتماعي وغادرنا ما كان بيننا من تبادل للمنافع بين الناس وغادرنا فعل الخير للخير وليس لمنفعة مرجوة عن قرب أو عن بعد، ان الناس اليوم لا يثقون حتى في الذي يدفع الصدقات أو يصل الناس في شدة لأنهم لا يلبثون ان يجدوا هذا الذي قدم صلة أو حضر جنازة أو وليمة يطرق الباب طالما منح الثقة والتصويت في هذا الاستحقاق او ذاك ففقد الناس الثقة في العمل الخيري ذاته، فالحكومات تتنافس في مجال الانتخابات حتى إذا قدمت خدمة التي هي من أولويات واجباتها لم تلبث ان تطلب من الناس مقابلا على ذلك وهكذا انعدم الخير للخير وانعدمت الثقة ولا يمكن استرجاع الثقة إلا بالصدق ولا يمكن للصدق ان يتمكن في النفوس إلا مع التجرد ولا يمكن التجرد إلا مع نكران الذات ولا نكران للذات إلا مع الإيمان الصادق بأنه لا يضيع الخير بين الله والناس. هذه هي الخواطر التي انتابتني بعدما فارقت الصديق الذي اقترح علي تناول موضوع الثقة ولاشك ان الناس يروجون فيما بينهم شعار الثقة ولكن ليس في الناس بل في الأزمان والظروف والأحوال ومع ذلك فإن الكثير من الناس لم تعد لديهم الجرأة للمطالبة بالثقة لهم أو لما يفعلون، لأنهم لا يثقون بأنفسهم وإذا كانوا لا يثقون بأنفسهم فإن القاعدة العامة تصدق عليهم والتي هي فاقد الشيء لا يعطيه فمن فقد الثقة في نفسه لا يمكن أن يمنحها لغيره.