إن أخسَّ مثالب الإنسان وأحطها.. نكران الجميل.. والكفران بما يُسدى إليه.. وإن أَنبل ما فيه، أن يضام، فيتجرع زُعاف ضَْْيمه في صمت.. فما ذنب الزهرة التي كان يعبقُ الجوَّ عطرُها، وينعشُ الأرواحَ.. حتى إذا ما ذَوَتْ ونفَد عطاؤُها.. كان مصيرها سلة القمامة.. وكذا البهيمة التي تقضي حياتها في خدمتنا.. متحملة كل المشاق والعناء.. دون أن تبدي شكوى أو عصيانا.. فإذا ما خارت قُواها، ولم تعد تقوى على التحمل.. يُلقى بها في ركن الإهمال.. إذا لم يكن مصيرَها العَدَم. تلك بعض صور مؤلمة.. تُطابق فئة بشرية.. هي بمثابة شموع أحرقت زَهْرة العمر في خدمة بني جِلدتها.. متفانية في تقديم كل ما في جعبتها من طاقات علمية وعملية.. حتى إذا ما حانت ساعة الإِبعاد، وأشار بَنانُ العمر إلى الستين.. أحيلت على هامش السُّلْوان، وصُنِّفت في أرشيف الفقدان.. أو ما يُدعى بالمعاش.. وكأنما هذا المخلوق أصبح عالة ثقيلة الاحتمال على الدولة.. لا فائدة من بقائه.. فيتلقى الفُتات هو ومن حوله من العيال الذين كان مصيرهم العطالة والإقصاء، بعدما قضوا سنين في الدراسة والتحصيل.. ويَتَعَيَّشُ الكل بما يجود عليهم به المعاش.. الذي «يبلع» جُلَّه وحشُ السكن.. والماء.. والكهرباء.. بالله عليكم كيف تتصورون عيش هذه الأسرة.. ومثلها كثير..؟! هذا قدر المعاشيين الهامشيين لدينا.. والذين يحيَوْن على حافة الإهمال.. مكوَّمين في ساحة الضياع.. كرُكَامات غيار صدئ لا فائدة منه.. أضحوا عملة متجاوزة، ليس لها مكان في مصارف اليوم.. ولا حتى اعتبار عند أناس كانوا بالأمس القريب يُشيدون بتفانيهم الدَّائِب.. وامتثالهم الكامل لكل ما يناط بهم من مهام.. بلا أنين ولا شكوى.. رغم ما يعانون من قبل بعض مسؤوليهم من صنوف الضغوط التعسفية.. البعيدة عن النطاق المهني.. وحتى الأخلاقي.. مما جعل جلَّهم يُحرمون التَّرقي في مَرَاتبهم، والتمكن من زيادة بعض الدريهمات في رواتبهم العَجْفاء.. مما يجعلهم يُجَمَّدُون سنوات مَرْفُوضين.. مغضوبا عليهم.. كان مصير الموظف البسيط.. بين يدي مسؤولين اثنين.. مدير المؤسسة.. ووَاهِبُ الفُتات.. السَّيّد المفتش.. مما جعل حركة الرشوة تصول وتجول في هذا الميدان.. دون رادع، أو وازع ضمير.. وكم من ضحايا ذهبوا قُربانا في سبيل اعتراضهم، ورفضهم الركوع والقبول بما يُفرض عليهم أداؤه.. فكان مصيرهم الرسوب أو التوقيف.. أو التطويحُ بهم إلى أقاصي الجهات.. تلك بعض الحالات التي تفشى داؤها زمن الستينيات والسبعينيات، واكتسح وباؤها أناسا كثرا.. آثروا المعاناة الجِزافية، على الرضوخ للابتزاز السّافر.. لقد غُبنت هذه الفئة في الكثير من مكتسباتها، وبنصوص تشريعية.. تثبت ذلك وتزكيه، كالحرمان من السلم (11) الذي كان خاصا بطبقة دون غيرها.. كما أنه إذا اتفق أن ارتقى أحدُهم ما بين السلالم الدنيا.. أطيح به من درجة إلى ما دُونها.. ليُعاود التسلق من جديد.. خلال سنتين، ثلاث.. أو أربع.. أهناك حَيْف فوق هذا؟ ناموس لا نظير له في كل أنحاء الدنيا.. ويأتي آخِرُ مُشَرِّع ليعلن في كلمات وجيزة: سنعمل على حذف هذا البند مستقبلا.. لكن.. ما ذنب أناس طُبِّق عليهم هذا القانون الجائر.. وكان بمثابة عقاب لهم.. بل كان سببا في ضياع الكثير من حقوقهم المشروعة! واليوم.. وبعد كل تلك المآسي والمعاناة التي عاشوها أيام العمل.. ها هم يسيرون في درب الإحالة على المَعاش، ليُتَّخَذَ في حقهم نهج آخر.. هو أقسى وأمَرُّ، فيُحشر من بقي منهم على قيد الحياة في سلة الإهمال، يتلقون دُريهمات نهاية كل شهر، لا يدري الواحد منهم كيف ينفقها.. أيخصصها للسكن.. أم لاستهلاك الماء والكهرباء.. أم لاقتناء خبز وشاي.. إن طال الخبْزَ والشاي! والأدهى من كل ذلك.. أنهم أصبحوا يشبهون مَنْبُوذي الهند.. يتحاشون أولئك الذين كانوا بالأمس تلامذة يَتَلَقَّون عنهم الدروس.. يتجنبون رؤيتهم، لما أصبحوا عليه من سوء حال.. وظلامية مآل..