نقف في هذا المقال عند بعض السلوكات التعليمية التربوية التي يعتبرها الكاتب والمفكر الأمريكي ليوفيليس بوسكا جيليا، أستاذ سابق في جامعة التربية بكاليفورنيا بالولاياتالمتحدةالأمريكية، نماذج ناجحة من شأنها أن تعد تلاميذ وطلاب اليوم ليكونوا فعلا رجال الغد بما تلقوه من تربية وتعليم وبما تعلموه من مناهج البحث واستشراف الآفاق المستقبلية للعالم. تجربة شخصية فريدة يؤكد العالم الفذ ليوفيليس بوسكا جيليا في كتاب له بعنوان الحب: أول دراسة عالمية لأهم ظاهرة إنسانية نشرته مكتبة التراث الإسلامي، وعربه فؤاد شاكر أن العملية التعليمية ينبغي أن تتوجه لإعداد رجال لغير زماننا، وأن تأخذ بعين الاعتبار وجهة نظر الفئة المستهدفة بعيدا عن صيغ التلقين المبالغ فيه التي تزخر بها مناهجنا التعليمية، مشيرا في الوقت نفسه، عبر هذا النص المقتطف من كتابه سابق الذكر، إلى أن العملية التعليمية لا يمكن أن تنجح ما لم يتوافر شرط الحب بين المعلم والمتعلم، مقدما في ذلك نماذج وقصصا نوردها للاعتبار. يقول ليوفيليس بوسكا جيليا في كتابه الحب: أول دراسة عالمية لأهم ظاهرة إنسانية: اسمحوا لي أن أتحدث عن تجربة فريدة شخصية أيام طفولتي. لقد ولدت في مدينة لوس أنجلوس في أسرة كبيرة هاجرت من إيطاليا، من أب وأم كانت تجمعهما علاقة حب وثيقة رائعة. قدما من قرية صغيرة تقع على الحدود الإيطالية السويسرية. إن كل فرد في تلك القرية يعرف جيدا كل واحد من سكانها بالإسم. يعرف اسم كل شارع ورقم كل بيت، وأسماء الكلاب! ولن يتلاشى من ذاكرتي ولا من مشاعري حفلات الأعياد التي كنا نشترك فيها جميعا، نبتهج ونمرح، الكبار والصغار وحتى رجل الدين، وهي من أجمل ما سعدت به في حياتي، وساعد في ترسيخ شعور الود عندي نحو هؤلاء القوم. ولكن.. في سن الخامسة، أخذوني إلى المدرسة العامة بعد الهجرة إلى لوس أنجلوس، حيث استقبلني شخص تبدو عليه الصرامة والتجهم، أجرى لي اختبارا لمعرفة قدراتي، وعلمت نتيجته حين ألحقوني في اليوم التالي بفصل المتخلفين عقليا! لقد كنت أتكلم اللغة الإيطالية بطلاقة، وباللهجات المحلية، وهذا أمر طبيعي، كما كنت أستطيع الكلام على نحو ما بالإسبانية، والفرنسية. أما اللغة الإنجليزية أو الأمريكية السائدة في مدينة لوس أنجلوس، فكنت متعثرا في نطقها لحداثة عهدي بالمدينة. ولهذا السبب وحده وضعوني في فصل المتخلفين عقليا!! (أظن أنهم الآن يطلقون عليه تعبير: الضعاف ثقافيا). والذي حدث، أنني لم أشهد في حياتي تجربة تعليمية مؤلمة ورائعة معا مثل التي حدثت لي في هذا الفصل! والسبب: معلمة الفصل الآنسة هنت، بما تملك من دفء العاطفة، وصدق الحب، ونبض المودة. وإنني على يقين من أنها كانت الشخص الوحيد في المدرسة، القادر على تعليم هؤلاء المتخلفين الصغار! كانت مستديرة الوجه. وشعرت أنها تحبني وتقبل علي حتى ولو كانت رائحتي مثل رائحة الثوم؟ أذكرها جيدا وهي تحنو علي برفق. لقد كنت أجتهد في دروسي وأبذل كل طاقتي في أداء واجباتي المدرسية من أجل هذه المعلمة فقط، إنني كنت أحبها. وذات يوم، ارتكبت خطأ فاحشا.. كتبت موضوعا في صحيفة الفصل عن الرومان.. كما لو كنت من حاشية القياصرة! ووصفت، في إسهاب، زي المصارعين، ومظهرهم، مما دفع إدارة المدرسة إلى إعادة اختباري، ثم نقلوني إلى فصل آخر، تجرعت فيه مرارة التعليم الصارم، وقد لازمتني تلك المرارة طول مراحل الدراسة! فقد راق للتلاميذ في الفصل الجديد أن يعرفوني بلقب مستمد من الفصل الذي قدمت عليهم منه، فلم يجدوا إلا كلمة الأبله في التعبير الشعبي وليس اللغوي. لم أفهم الكلمة في البداية، وسألت والدي: ما معنى هذه الكلمة التي يناديني بها التلاميذ؟ وكان أبي جادا وعظيما ولم يزل أجابي: لا تعبأ، إنهم لا يعرفون شيئا عنك. إنها كلمة تافهة لا معنى لها. الناس دائما يستخدمون كلمات لا يعبأون بدلالاتها، لا تشغل نفسك بمثل هذه الكلمات. لكن الكلمة شغلتني بالفعل.. وأقلقتني.. فقد وضعت مسافات بيني وبين زملائي.. طرحتني عنهم جانبا.. علقت فوق رأسي لافتة.. جعلتني أشعر بالأسى، لأن هؤلاء التلاميذ أطلقوها علي وهم لا يعرفون شيئا عني، ويزعمون أنهم يعرفون، وإلا لما اختاروا تلك الكلمة. ما الجديد الذي تعلمته اليوم؟ لقد وضعوني في المرتبة التي قدروها، وأعجبتهم هم، فابتهجوا! لم يعلموا، ولم يحاولوا قط أن يعلموا، أن أمي كانت فنانة، وأبي رجل مكافح، ظل يعمل ليل نهار في بداية الهجرة بأحد الفنادق لكي يهيئ لنا معيشة مرضية. لم يعلموا، ولم يحاولوا أن يعلموا، أن أمي كانت تقضي معظم الليل والنهار وحيدة بمفردها، لانشغال أبي، ولا تكاد تستريح من خدمتنا نحن الأبناء الأحد عشر! لكنها كانت تجمعنا كل مساء، وتغني لنا، ونغني معها أشهر الأوبرات، مثل أوبرا عايدة، والفراشة (بترفلاي). وبالمناسبة، أذكر أنهم كانوا يعتبرونني أجمل فراشة بالأسرة..ومازالوا! وعندما اكتشفتني دار أوبرا المترو بليتان، وضعتني في أعلى مستوى مناسب لكفاءتي رغم صغر سني. كنا نحفظ أشهر الأوبرات عن ظهر قلب، أنا وإخوتي جميعا، ونعزفها، ونؤدي أدوارها. ولكن هؤلاء التلاميذ الصغار تجاهلوا كل ذلك، واكتفوا بلصق بطاقة الأبله داخل صدري!! وأيضا.. لم يعرفوا كيف كانت معاملة أبي لنا، وأسلوبه مثلا على مائدة الطعام. لقد عودنا قبل أن نغادر المائدة أن يحدثه كل منا عن شيء جديد تعلمه في يومه. كنا أحيانا نضيق نحن الصغار بتلك العادة، مثلما يزداد ضيقنا وتدافعنا على استخدام قطعة الصابون لنغسل أيدينا بعد الفراغ من الطعام. كنا نستعد قبيل الطعام لأسئلة الوالد المعتادة. فكنا نسرع إلى الموسوعة (الانسيكلوبيديا) ليستخرج كل منا الإخوة والأخوات الأحد عشر كلمة، أو عبارة، أو معلومة، أيا كانت.. لإرضاء أبي. لم يكف أبي مرة واحدة عن إلقاء السؤال يوجهه إلينا فردا فردا. وعندما يأتي دوري ينادي ويقول: فيليس.. ما الجديد الذي تعلمته اليوم؟ فأقول على الفور ما استخرجته من الموسوعة، مثلا: تعداد السكان في إيران كذا مليونا... لم يكن أبي يستصغر شأن أي كلمة، أو معلومة. إذ بعد أن أجيبه، يشد نفسا عميقا من سيجارته، ثم يلتفت نحو أمي ويقول: روزا.. هل كنت تعرفين ذلك؟. فتقول في دهشة الاستحسان: لا. لم أكن أعرف، هذا حقا مدهش. أما نحن الصغار، فكثيرا ما كنا نتهامس في ضيق مكتوم: ما هذا الهوس!... هل أكشف لكم سرا؟ حتى هذه اللحظة، وبعد عشرات وعشرات السنين، ما من ليلة آويت فيها إلى فراشي، مهما كنت مجهدا مرهقا كما هو حالي دائما، إلا وسألت نفسي ذلك السؤال: فيليس.. أيها الولد الكبير.. ما الجديد الذي تعلمته اليوم؟..! فإذا لم أجد إجابة على السؤال، مددت ذراعي المتراخية لألتقط أي كتاب على مقربة، فأقلب صفحاته بسرعة لأستخرج شيئا منه، مهما كان بسيطا، حتى أستطيع أن أنام! ربما كان هذا هو الهدف النهائي من العملية التعليمية. إلا أن زملائي التلاميذ الصغار، لم يدركوا ذلك يومها، حين أصروا على مناداتي بلقب الأبله! إذا كانت البطاقات واللافتات المحفوظة توسع المسافات بين الناس، وتمزق الروابط الطيبة، وتحول دون الإدراك السليم السديد، فلماذا تستخدمها إذن؟ دعها فورا، ولا تسمح لغيرك باستعمالها. إن أي كلمة مهما كان تأثيرها إذا توقف تداولها على الألسنة، ذوت، وانكمشت، ثم خمدت. والشخص المحب، لا يستخدم البطاقات، ولا يطلق الكلمات العشوائية، أو المؤذية. إن كل إنسان، أيا كان، يحمل معه أشياء كثيرة طيبة، وجميلة، ورائعة، تستحق أن نستخرج منها اسما أو لقبا نطلقه عليه، أو صفة نعرفه بها، يكفينا منه ذلك، ولندع ما يتبقى جانبا! ثم إن هذا الإنسان المحب، لا بد وأن يكون واحدا من الذين يقدرون المسؤولية. ليست هناك مسؤولية في هذا العالم، أعظم من أن تكون فردا في الجماعة الإنسانية. وقد لا تصدقني! إن الإنسان الذي يعرف كيف يحب، يشمئز من الضياع: ضياع الوقت، وضياع الجهد الإنساني كم من وقت نضيع؟ كأننا سنعيش إلى أبد الدهر! وهنا يحسن أن أروي لكم تلك القصة، لأنها إحدى الخبرات الكبرى التي اكتسبتها في حياتي إلى الآن: في المدرسة التعليمية التي كنت أعمل بها، كانت معنا سيدة معلمة، تملك في تقديري صلاحيات تؤهلها لكي تكون واحدة من أكفإ المدرسات على الإطلاق. كان لها تأثير نفسي هائل آسر. وكانت تحب الأطفال الصغار، لدرجة أنها غيرت مجرى حياتها التعليمية والوظيفية، فدرست التربية لكي تظل دائما في صحبة الأطفال وتعلمهم. ولما انتهت من دراساتها التربوية وحصلت على الشهادات المطلوبة، تقدمت لإحدى مدارس الصغار، فقبلت على الفور، لأنها كانت جميلة، ورائعة: نفسيا، وعقليا، وكل شيء!...، أعطوها فصلا لتلاميذ السنة الأولى والذي حدث وسوف أرويه، عاصرته بنفسي، إذ كنت شاهدا عليه منذ البداية. نعلم أطفالا لا أشياء صماء! حينما تسلمت الفصل المدرسي، وتفحصت المنهج التعليمي المقرر، أو دليل المعلم وهو ما زال متبعا إلى الآن وجدت أن موضوع الدرس الأول: المتجر أو السوق التجارية (السوبر ماركت). فكرت قليلا ثم سألت نفسها: هل هذا معقول؟ نحن الآن في عام 1980 بالولاياتالمتحدة. وهؤلاء الصغار نشأوا وكأنهم ولدوا في السوبر ماركت. ما أكثر ما تجولوا فيه، وحملوا مع آبائهم وأمهاتهم الأوعية، وشاركوهم في دفع العربات التي يضعون فيها المشتريات، وربما شاركوا في انتقائها من فوق الرفوف. كم مرة جروا في السوق التجارية (السوبر ماركت) نحو قسم الحلوى، وكم مرة وقعت منهم علب اللبن؟! إنهم يعرفون جيدا كل شيء عن (السوبر ماركت)، فماذا أضيف إليهم لكي يتعلموه في الفصل حول هذا الموضوع؟. ومع ذلك، فهذا هو المدرج في دليل المعلم. بعد تفكير طويل قالت في نفسها: حسن! ربما كان هناك قسم من أقسام السوق التجارية (السوبر ماركت) فيه من الإثارة للأطفال، ما يعين على تعلم شيء جديد. وفي اليوم الأول من الدراسة، جلست على الأرض المفروشة بالسجاد الناعم وحولها الأطفال، ثم قالت بحماس شديد، وكأنها تستثير فضولهم: يا بنات.. يا أولاد.. ماذا تحبون أن تتعلموه اليوم؟ السوق التجارية (السوبر ماركت)؟؟ فصاح الجميع معا: سخيف.. سيء!. لم يعد الأطفال اليوم في سذاجة أو جهل أطفال الأمس. إن خبير الإعلام الكندي الشهير ماكلوهان بين في إحصاءاته، أن الطفل في الشمال الأمريكي (الولاياتالمتحدة وكندا) غالبا ما يشاهد نحو خمسة آلاف ساعة من برامج التليفزيون قبل أن يلتحق بمرحلة الحضانة المدرسية؟ إن الأطفال في هذه السن المبكرة، شاهدوا جرائم القتل، والسرقة، والاختطاف. شاهدوا قصص الغرام ومشاكل الحب، استمعوا إلى الموسيقى، وانتقلوا من خلال التليفزيون إلى باريس، وروما. شاهدوا شعوبا من كل الأجناس، وأحداثا عنيفة يموت فيها الناس. ثم نأتي بهم إلى المدرسة لكي يتعلموا شيئا عن السوق السوبر ماركت! أو نعطيهم كتابا لكي يقرءوا فيه مرة تلو المرة: توم يقول.. ياه! ياه! ميري تقول. ياه! ياه! الجدة تقول.. ياه! ياه فقالت القطة.. ياه! ياه!..يا لا للهول!! لقد حان الوقت لكي نكتشف أننا نعلم أطفالا، لا أشياء صماء جامدة! يجب أن نسأل أنفسنا: من هو الطفل الجديد الذي نعلمه؟ وما هي احتياجاته؟ وإلا، كيف سينمو ليعيش في عالم الغد؟! ولأن تلك السيدة، كانت حقا معلمة، قالت للتلاميذ: إذن.. ماذا تريدون أن نتعلمه؟. قالت فتاة صغيرة، واسعة العينين لدرجة ملفتة: إن أبي يعمل في مركز لصناعة محركات الدفع النفاثة. وأستطيع أن أحضر لكم نموذج سفينة صاروخية، نضعها في الفصل، ونتعلم أشياء عنها، ونركبها لتطير بنا إلى القمر!! فصرخ التلاميذ في صوت واحد: هيه... عظيم.. رائع! فقالت المعلمة: حسن! هيا نفعل ذلك. في اليوم التالي حضر والد التلميذة الصغيرة، يحمل معه نموذجا لسفينة فضائية. وجلس مع الأولاد أرضا بجوار المدرسة، وأخذ يشرح لهم كيف تعمل السفينة، وكيف تطير بقوة دفع الصواريخ، ولكم أن تتخيلوا جو الفصل المدرسي حينذاك وحالة انشراح التلاميذ. لقد تحدثوا في علم الفضاء، وتفهموا ببساطة بعض النظريات الرياضية. وأثروا مفرداتهم اللغوية بكلمات، ليست من جنس ياه.. ياه! وإنما هي كلمات عن مكونات سفينة الفضاء، والصواريخ، والفضاء، والمجرة.. كلمات ومفردات عصرية ومستقبلية ذات معنى ومغزى! على هذا النحو، مضت أيام الدراسة، إلى أن جاء يوم أقبلت فيه السيدة المفتشة، وكانت تتجول بين الفصول. ودخلت هذا الفصل واستمعت قليلا إلى ما يجري فيه، وحوار التلاميذ الصغار حول النموذج، عن الفضاء وسفن الفضاء. تلفتت السيدة المفتشة يمينا ويسارا كأنها ذعرت، ثم قالت للمعلمة في حدة: أين سوقك التجارية (السوبر ماركت)؟. فانتحت المعلمة بها جانبا، وقالت لها بصوت خفيض: انظري، لقد تحدثنا في موضوع السوق، لكن الأولاد كانوا في شوق إلى السفر نحو القمر، وأرادوا أن يعرفوا أشياء عنه. وهذه قائمة الكلمات الجديدة التي تعلموها بإجادة، وهذه كراساتهم وما كتبوه فيها أو رسموه. وفضلا عن ذلك، فقد اتفقنا مع خبير في صناعة سفن الفضاء، لكي يحضر إليهم ويعلمهم صنع نماذج... وهنا كان الغيظ قد بلغ أشده، فانفجرت المفتشة تقول مقاطعة لها: إيه هذا لا يعنيني، إن المنهج كما في دليل المعلم يفرض عليك موضوع السوق (السوبر ماركت).. ولابد أن تعلمي تلاميذك هذا الموضوع. (وضغطت بشدة على تلك الكلمات).. هل ترفضين ذلك يا عزيزتي؟!.جاءتني المعلمة وهي تكاد تبكي، وتقول: ما هذا الهراء الذي كنت تملأ به رأسي عن الابتكار والتجديد في التعليم؟ لقد جعلني كلامك كأني أنتفخ وأطير، أحلق في الفضاء، ثم ها أنذا بعد أن حاولت، أسقط مهمشة على الأرض! أليس مضيعة للوقت والجهد أن أقضي خمسة أو ستة أسابيع في صنع نماذج من الصلصال مع التلاميذ للموز والبرتقال كما تريد المفتشة من السوق (السوبر ماركت)؟... هل تدرون ما صنعت تلك الأستاذة المسكينة بعد ذلك؟ لقد جلست مع صغارها التلاميذ في الفصل وسألتهم: يا أطفالي.. هل تريدونني أن أكون معكم في المدرسة هنا في العام القادم؟ فقالوا جميعا بحماس: ضروري طبعا! قالت: إذن، يجب علينا أن نصنع سويا نموذج متجر السوق التجارية (السوبر ماركت). فقالوا: لا مانع، وإنما بشرط أن ننتهي منه سريعا لنصنع سفينة الفضاء..وبالفعل.. صنعوا من الصلصال كل ما هو مطلوب للسوبر ماركت في يومين اثنين. تصوروا: في يومين بدلا من ستة! واحضروا صناديق وضعوا فيها الأشياء، ورتبوها على رف مثل ما يحدث في المتجر. وأقبلت المفتشة، فبادرها الأولاد الصغار من تلقاء أنفسهم قائلين: هل تريدين شراء شيء من (السوبر ماركت)؟. لقد صنعناه وأعددناه جيدا. وابتسمت المفتشة ابتسامة عريضة تدل على الارتياح.. والنجاح! وما إن خرجت من الفصل، حتى أسرع التلاميذ الأذكياء الظرفاء وجمعوا تلك الأشياء، وألقوها في صندوق وضعوه بجوار صندوق النفايات، ثم قالوا للمعلمة في حماس: والآن... هيا بنا إلى القمر!!! ضياع... ضياع... ضياع ونفاق! ألا يكفي أن نعيش ونتعلم لليوم؟ يجب علينا بل إنه من المحتم أن نحلم ونتخيل كيف سيكون شكل العالم بعد خمسين سنة، وأن نتعلم ما يبلغنا في المستقبل مائة سنة، وأن نفكر في شأن العالم لألف سنة. إن العالم اليوم وهذا يحدث لأول مرة في التاريخ ليس هو العالم منذ ثلاثين سنة مضت. انظر كيف تغيرت أشياء كثيرة بهذه السرعة. لا عجب أننا أحيانا ندهش، ونضيق، ونختنق، ونتوتر، لأننا لم نعد أنفسنا كما يجب لعالمنا المتغير الذي نعيش فيه. إنه يتحرك بسرعة مذهلة، ولا وقت لديه لأشياء مثل: جدتي قالت: ياه.. ياه!! إعداد: عبد الرحيم اليوسفي