كنّا في أحد مدرّجات كلية الآداب لحضور إحدى المحاضرات، ضمن شعبة التاريخ والجغرافيا. كان إلى جانبي أحد رفاق الدراسة منذ فترة الإعدادية «تورّط» بدوره في التسجيل في هذه الشعبة «الطريفة» أمام غياب خيارات أخرى تستجيب لمؤهلاته واستعداداته. كان كلّ شيء يسير بشكل اعتيادي إلى أن قرر الأستاذ المحاضر، بغتةً، أن يعكّر صفوَ مزاجي، في ذلك الصباح البعيد من مطلع التسعينيات.. قام الأستاذ وتناول مسطرة طويلة وأخذ يرسم بعض الخطوط ويحدّد بعض النقط الافتراضية على السبورة الكبيرة.. كنّا في درس «تطبيقيّ» لإحدى تفرّعات مادة الجغرافيا. عندما طلب منا الأستاذ أن نُخرج أقلامنا ومسطراتنا و«دفاتر الرسم» لنجيب على أحد أسئلته، من خلال رسم ما شرحه لنا، تبادلتُ مع صديقي نظراتٍ ذاتَ معنى. كان يعرف جيدا نفوري الكبيرَ من لغة الأرقام والتحديدات. وبينما وضع صديقي محمد مسطرته فوق الصفحة المخصَّصة للرسم في دفتره وقد أخذ الأستاذ يقترب من الطلبة ليراقب ما يفعلون، انحنيتُ على صديقي وقلتُ له هامساً: -نلتقي في ما بعدُ وأشرح لك.. سحبتُ أدواتي من على الطاولة وانسحبتُ من المدرَّج، في هدوء. صعدتُ بعض الأدراج وانسللتُ عبر باب خلفي. وقبل أن أختفي، بادلتُ صديقي بعضَ الإشارات والنظرات لأتركه مغربا بالضحك. أدرك ما أنا عازم على فعله. لم أكن أحتاج إلا إلى مثل ما وقع لأقتنع تماماً بأنني لم أُخلَقْ لشيء اسمُه تاريخ أو جغرافيا، خصوصاً إذا كانت تفوح من أحدهما رائحةُ أرقامٍ وحسابات.. قصدت مباشرة إلى قسم الشؤون الطلابية. هناك، طلبتُ ورقة لأعبّئها مضمّناً إياها طلباً بتغيير الشعبة. من حسن حظي أن الوقت كان ما يزال يسمح بذلك. في صباح اليوم الموالي، التحقتُ بقسم «الأدب العربي». قلتُ بيني وبين نفسي إن ذلك أفضل على كل حال من الشعبة التي تركتُها. فكرتُ في ذلك الزميل الذي سأجده في انتظاري في محاضرات الآداب.. سيكون أكبرَ المرحّبين بعودتي «عن غيّي». مع ذلك، وجدتُ العودةَ إلى قسم الآداب أفضلَ من إجبار نفسي على احتمال مثل تلك المحاضرة التي غادرتُها بالأمس. كان من حسن حظي أيضا أنهم وضعوني في «فوج» غير الذي أُدرجَ فيه اسم صديقي «اللصيق» الذي كان يمنّي النفسَ ربما بأنْ تجمعنا مقاعد الدراسة إلى الأبد.. وكما توقعت تماما، كانت محاضراتُ الأدب أرحمَ بي من سابقاتها في التاريخ والجغرافيا والجغرافيا «التطبيقية»!.. وعندما واجهني الصديق الذي كنت أتهرّب من التسجيل معه في نفس الشعبة عن سرّ عودتي إلى شعبة الأدب، لم أعرفْ كيف أشرح له الأمر. لم أكن أريد أن أجرح «مشاعره» وأُفصح له عن حقيقة «مناورتي» تلك.. يتبع...