وعت المقاومة الوطنية بالمخطط الاستعماري لتجهيل المغاربة، فقامت بمحاربة التجذر السياسي والثقافي الفرنسي نواصل ابتداء من حلقة اليوم نشر مذكرات الأستاذ المجاهد محمد بلبشير الحسيني، فنقف معه عند بعض الأحداث التي طبعها، قبيل الاستقلال ثم بعده، بجهده من خلال مسؤوليته بوزارة التربية الوطنية، ووقوفه وراء تأسيس الإجازة المغربية المعربة، وطريقة تعامله من موقع المسؤِولية مع الاستعمار الفرنسي الذي هب آنذاك لمضايقة ذلك التوجه نحو مغربة التعليم، وكيف قاوم الأستاذ ذلك. ويكشف لنا الأستاذ بلبشير في سياق مقارنته بين اهتمامات شباب الأمس وشباب اليوم عن دور الأول في العمل الوطني وكيف كان الأستاذ بلبشير وزملائه يتحدون" الجيش الفرنسي" فكانوا يكتبون عدة نسخ من وثيقة المطالبة بالاستقلال ويقومون بتوزيعها سرا، ... س الأستاذ بلبشير لكن لاشك آثار واضحة في مسيرة كلية الآداب بالرباط، ومن خلالها على مسار التعليم العالي بالمغرب بماذا تحدثنا في هذا الموضوع؟ ج في سنة 1957 أنشأت الإجازة المغربية وانفصلت الكلية عن جامعة بوردو، ومع أننا شرعنا في تطبيق هذه الإجازة منذ سنة 1957، فإن القانون المنظم لها لم يخرج إلا في سنة 1959، وبدأت تطبيقه آنذاك بصفة رجعية. وبعد حصول المغرب على استقلاله واستدعاء فرنسا لأساتذتها العاملين بالمغرب، وما سيخلف ذلك من فراغ بالنسبة لي وأنا مسؤول عن كلية الآداب بالرباط آنذاك، قمت في المقابل باستدعاء عدد من الأساتذة أغلبهم من المشرق. فمثلا في التاريخ كان عندنا ثلاثة أساتذة منهم الأستاذ الناضوري في التاريخ القديم والدكتور العبادي في التاريخ الوسيط وآخر في التاريخ المعاصر وآخرون في الجغرافية وفي غيرها من التخصصات كالعربية والفلسفة. ومن الأمور التي أتذكرها أننا قمنا باستدعاء عدد من الشخصيات لإلقاء محاضرات على طلبة الكلية منهم الدكتور طه حسين. ومنذ أن أحدثت هذه الإجازة المغربية المعربة خشيت من المضايقات الفرنسية التي قد تصحب ذلك، فكانت لدي صلات وطيدة ومكثفة مع المسؤول الثقافي بالسفارة الفرنسية بالمغرب، وحين شعرت يوما فعلا بهذه المضايقات تحدثت إليه بشكل مباشر وصريح، ولك أن تتصور حالتي آنذاك وأنا شاب في الثلاثين من العمر وأعيش نشوة الاستقلال، فقلت له: إما أن تتركونا وشأننا في الاهتمام باللغة العربية من حيث القيام بجميع ما تقتضيه مظاهر الاهتمام بها، فهي لغتنا الوطنية، ولكم من موقعكم أن تنشروا ثقافتكم ولا نمانع في ذلك، - وقلت هذا لأننا نستفيد من ذلك أولا، وثانيا لأننا نعتبر اللغة الفرنسية واسطة بيننا وبين أوروبا-. لكن إن شعرنا بأدنى مضايقة منكم في عملنا على نشر اللغة العربية والاهتمام بها، فثق بي حين أقول لك إن الشعب المغربي لن يرضى بذلك، ولن يسكت عنه، ولن تستطيعوا حينها نشر ثقافتكم. س وماذا كان رده؟ ج كان رده أن قال لي نحن معكم ومستعدون للتعاون معكم في كل ما تطلبونه منا، ولن نضايقكم في شيء إطلاقا. وفعلا منذ أن أنشأت الإجازة المعربة في 1957، وكانت في العربية ثم في التاريخ ثم في الفلسفة وفي الجغرافية، ثم عممت بعد ذلك على جميع الشعب. س ولماذا تأخر تطبيق الإجازة المغربية المعربة سنتين؟ ج كان مرد ذلك التأخر في الأجرأة إلى أننا كنا جميعا في ذلك الوقت نريد أن نفوز بذلك الاستحقاق في أسرع وقت متيسر، وبأحسن ما يمكن. ولذلك لم أستسغ أن نبقى تابعين في إجازتنا الجامعية لفرنسا وقد حصلنا على الاستقلال ومعه استقلال الجامعة المغربية. فعجلنا حينها بإجراءات الفصل عن جامعة بوردو، وكانت الإمكانيات المادية متوفرة مما ساعدنا على استقدام عدد هام من الأساتذة من المشرق العربي وخاصة من مصر. فشرعنا في التطبيق منذ ذلك العام، إلا أن صدور القرار المنظم لها هو الذي تأخر إلى ما بعد. س وكيف فكرتم في إحداث هذه الإجازة المعربة وأنتم في بداية الاستقلال؟ ج حصل ذلك لأنني كنت أؤمن بأن الاستقلال السياسي معناه تمتين وتحصين البلاد من الناحية الثقافية وهذا ما كان يمكن وقوعه دون الإحساس بأن لنا جامعات مستقلة منسجمة مع خصوصياتنا وتابعة لنظامنا السياسي والتعليمي. ومعلوم أن الأمر آنذاك لم يقتصر على كلية الآداب، بل تعدى الأمر ذلك إلى كلية العلوم، وكان كل ذلك بتنسيق مع وزير التربية الوطنية آنذاك السيد محمد الفاسي. وأحب أن أشير هنا إلى أن إنشاء الإجازة المغربية المعربة لم يعن إطلاقا انقطاع التعاون الجامعي بيننا وبين فرنسا، والدليل على ذلك أن أستاذ التاريخ المعاصر الفرنسي "Miege" وله دكتوراه في هذا التخصص في ثلاثة أو أربعة أجزاء حول تاريخ المغرب الحديث وهي رسالة مهمة جدا، بالإضافة إلى أساتذة فرنسيين آخرين في تخصصات أخرى منها الجغرافيا مثلا. بالإضافة طبعا إلى الطلبة المغاربة الذين واصلوا تكوينهم الجامعي بفرنسا، كل هؤلاء بقوا عندنا بالمغرب ودرسوا في جامعاتنا حتى بعد أن أصبح انتماؤهم رسميا للجامعات الفرنسية. س عايشتم جيل المقاومة وأدركتم حقيقة اهتماماته كيف تقارنون ذلك باهتمامات شباب اليوم. ج مادمت تطرقت للعلاقة بين الشباب والمقاومة لدى جيل الاستقلال، أحب أن أقف لحظة أسترجع فيها لحظات طيبة قضيتها في طفولتي بين أحضان المقاومة والمطالبة بالاستقلال. ذلك أنه بعد أن انتقلت في طفولتي من المسيد ثم مدرسة جسوس ثم إلى ثانوية مولاي إدريس بفاس في ما بعد، أذكر أنه في سنة 1944 تاريخ تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال كان كل التلاميذ بثانوية مولاي ادريس بمن فيهم تلاميذ القرويين يتعاملون ويتعاونون في إطار حلقات وطنية، وشاركوا في الإضراب، وهو الأمر الذي قابلته السلطات الفرنسية بتثنية السنة الدراسية وتكرارها لدى كل التلاميذ. وإلى حدود الآن، أتذكر تلك الظروف وما طبعها من عمل نضالي وطني، وأذكر أن كل التلاميذ الذين كانوا في مستواي، والذين كانوا معي في القسم آنذاك كنا جميعا مجندين من طرف الحزب الوطني لكتابة وثيقة المطالبة بالاستقلال. وهنا أشير إلى أن الآلات الكاتبة كانت نادرة، ولأنها كانت كذلك، فقد كان بإمكان الفرنسيين معرفة مكان كتابة الوثيقة، ولذلك كنا نكتبها ليلا بأيدينا.وفي سياق ذلك أذكر أن ليلة 11 يناير 1944 قضيناها جميعا ونحن تلاميذ في القسم الرابعة ثانوي يقظين مستيقظين ولم ننم إطلاقا، فكنا جميعا مجتمعين عند تلميذ صديق لنا هو مولاي علي الصقلي، وكنا نكتب الواحدة تلو الأخرى. كما أذكر أن جماعة منا تكلفت بالكتابة على الحيطان العبارات التي تطالب الاستعمار الفرنسي بالرحيل لتحقيق استقلال المغرب. وهذه فعلا من المراحل التي أتذكرها الآن باعتزاز. س كم كان عمركم آنذاك؟ ج في تلك الفترة لم أكن أتجاوز الستة عشر عاما أو السبعة عشر عاما. وكان الحزب الوطني آنذاك يوجهنا ويرعانا لأننا أطفال. ولئن كان الجيش الفرنسي آنذاك يمنع التجول في الأزقة والدروب بمدينة فاس، فإننا بحكم صغر سننا كنا نتجول ولا يمنعنا أحد، اللهم إلا في النادر، وكان شغلنا آنذاك هو نقل الأخبار والمناشير وكل ما يجري للقيادات الوطنية التي انتدبتنا لذلك، على أنه في بعض الأحيان كان الجيش الفرنسي يحتجز كل المارة، وأحيانا أخرى يحتجز من يشك فيه فقط. س نرجع إلى سؤال المقارنة بين شباب الأمس وشباب اليوم. ج ما أقوله في هذا الإطار هو أن الاستعمار الفرنسي كان يستغل بعض الطرق الصوفية والفرق المنحرفة لإبقاء المغرب في تخلف وجهالة، وكان أن وعت المقاومة الوطنية بذلك المخطط الاستعماري لتجهيل المغاربة فقامت بما كان ينبغي القيام به، وهو محاربة هذا التجذر السياسي والثقافي الفرنسي. ولما رأت الحركة الوطنية آنذاك بما تحويه من طاقات شابة السلطات الفرنسيةَ تتجه نحو دعم هذه الطرق الصوفية، عملت في مقابل ذلك على التمكين للسلفية، فقامت تحارب كل مظاهر الانحراف من شعوذة وخرافة وما شابه ذلك من آثار التخلف الاجتماعي. س وما سر اهتمامكم بالعربية وتطوير دراستها وأيضا الدراسات الإسلامية وقد درستم عند مستشرقين كبارا، وكان الأمر يكون معقولا لو تخرجتم من القرويين مثلا؟ ج الأمر بسيط، فلما غادرت المغرب في اتجاه بوردو لإتمام دراستي العليا، سافرت وفي نفسي ووجداني تأثير الحركة الوطنية، وتأثير التربية الدينية التي تلقيتها، وهما عنصران كافيان يجعلاني أناصر الثقافة العربية والإسلامية وأعمل من أجلهما. وكانت عندي بالموازاة رغبة أكيدة في أن تتوسع معارفي حول المنهج وطرق استثماره ومن خلاله تطوير مناهج الدراسات الأدبية والإسلامية، وهو الأمر الذي كان يعتمده المنهج الاستشراقي بشكل أو بآخر. ومن موقعنا، كان رفع التحدي في وجه اللغة الفرنسية ثابتا بحيث تبقى اللغة العربية قائمة بذاتها إلى جانبها، وكان في ذلك خير. وهنا أحكي جزئية صغيرة وقعت لي عندما كنت رئيسا لشعبة اللغة العربية في نقاش مع زملائي في الشعبة آنذاك وهي طريقة أو كيفية العناية بأسلوب تدريس الأدب العربي، ومفاد الأمر هو لماذا يتم التركيز في دراسة الأدب العربي شعرا أو نثرا على الجانب المرتبط بالوجدان والمشاعر فقط في حين الجانب المرتبط بالفكر لا وجود له، في حين أن الأدب الفرنسي يكون الاهتمام فيه بالجانب الفكري حاضرا بما يصحب ذلك من جانب فني، وتستخرج منه العبر والحكم والدلالات بينما يغيب كل هذا من دراستنا لأدبنا العربي، فقلت حينها لابد من الاهتمام بهذا الأسلوب في دراسة الأدب العربي الجامع بين دراسة الجانب العاطفي فيه إلى جانب التركيز على الجانب الفكري فيه. وبهذه المناسبة أفتح قوسا يتعلق بالنظام المزدوج الذي كان معتمدا أو معمولا به في النظام التعليمي الفرنسي وكذلك المستوى العلمي في حياتنا الدراسية، فأشير إلى أن النظام المزدوج أعطى نتائج طيبة، فرغم التخصص الأدبي تم تكويننا تكوينا علميا جيدا خلال السنوات السبع في المواد العلمية (الفيزياء و الرياضيات، والعلوم الطبيعية). ولما عدت إلى المغرب وجدت في معهد الدراسات العليا الذي أصبح في ما بعد كلية الآداب والعلوم الإنسانية أكدال الرباط المستشرقَ اليهودي علوش وكان ذلك قبل أن أعين نائبا للعميد. قلت كان علوش مديرا لكلية الآداب، لكن بعد ذلك عين Charle sandres Julien المؤرخ الفرنسي المشهور على رأس الكلية وعينت أنا نائبا له. وقبل ذلك كان الوزير الأستاذ محمد الفاسي قد عين نائبا لعلوش كان موضع مضايقة من لدن هذا الأخير. عبد الرحمن الخالدي