يحكي الأستاذ المجاهد في هذه الحلقة محنته مع الكلية عندما قررت السلطات الفرنسية استدعاء مواطنيها من الأساتذة الذين يباشرون مهامهم بالجامعة المغربية. ويروي للقراء عبر جريدة التجديد كيف تمكن الأستاذ بلبشير وهو حينها عميد كلية الآداب من تجاوز مشكلة الفراغ الذي خلفه هذا القرار. ويقدم رأيه كمفكر إسلامي في العلاقة بين السياسي والمثقف وأيهما الأكثر تأثيرا. كاشفا في الوقت نفسه عن أهم الأساتذة الذين كان لهم شأن في العملية التربوية بالمغرب، وعن إسهامه في كتابة التاريخ المغربي.
وماذا عن الأستاذ بلبشير بعد عودته من فرنسا ودخوله أرض الوطن؟ بعد عودتي من فرنسا ودخولي أرض الوطن، شاركت في أجهزة حزب الاستقلال، وحضرت في عدة مؤتمرات، وكنت داخل اللجنة التنفيذية فضلا عن المجلس الوطني . ولما طُلب مني في المؤتمر الأخير للحزب ترشيح نفسي للجنة التنفيذية رفضت ذلك لأنني أومن بضرورة توزيع الأدوار داخل قيادة الحزب بين المجال السياسي والمجال الثقافي والمجال الاجتماعي. فكان اهتمامي أكثر بالمجال الثقافي، وكنت أعتبر دائما، ومازلت، أن العمل الثقافي والتفوق فيه هو حصانة العمل السياسي، وهو الذي يضمن له السير على هدى ودون انحراف. وكنت آتي أيضا بالحجة والبرهان على أن ما أقوم به من عمل تربوي وعمل ثقافي بصفة عامة، يزيد من توسيع دائرة الثقافة الإسلامية، ويوسع دائرة العمل السياسي. وقد كانت المجالات التي أشتغل بها واسعة جدا نظرا لندرة الأطر المغربية في تلك اللحظة. وعموما أنهيت في 1953 دراستي الأولى فحصلت على الإجازة والدراسات العليا. وبعد عودتي من فرنسا سنتي 1955 و 1956 وقد حصلت على شهادة التبريز، رجعت إلى المغرب وقد حصل على استقلاله فعينت أنذاك مديرا بثانوية يعقوب المنصوربالرباط. وهنا أحب أن أقف عند ملاحظة أراها مهمة وهي أنه لما كلفت بإدارة هذه الثانوية فكرت في أمر جاء الآن في الميثاق الوطني للتربية والتكوين وهو تخصيص قسم للمتفوقين حسب معايير محددة، وفعلا تم ذلك وأعطى نتائج جد طيبة، ومن التلاميذ الذين كانوا في هذا القسم وتخرجوا منه عميد كلية العلوم بالقنيطرة سابقا. وخلال السنوات الأولى من الاستقلال، كانت الأطر المتوفرة قليلة، بحيث إن أستاذي بلاشير الذي سبق له أن درس في هذه الكلية لما زارني بنيابتها وطلب مني التسجيل في الدكتوراه وألح علي في ذلك رغم اعتذاري الشديد نظرا للمهام الكثيرة التي كنت أتولى مسؤوليتها ومنها إدارة الحي الجامعي بالرباط آنذاك، والتدريس بالكلية ونيابة العميد وغير ذلك.. قلت لما طلب مني بلاشير ذلك ذهبت إلى الحاج أحمد بلا فريج وكان آنذاك وزيرَ خارجية المغرب فاستشرته في الأمر وكان أن قال لي: أنتم الآن قلة من الأطر، وعلى عاتقكم مهام كبيرة ومسؤوليات عظيمة وأنتم جيل التضحية فاترك جانبا قضية الدكتورة. وبقيت إثر ذلك في الكلية ولم أسافر إلى فرنسا. س:لا شك عايشتم خلال الفترة الأولى من عودتكم إلى أرض الوطن عدة أحداث تريدون التعليق عليها. ج: عند رجوعي كنت أستاذا للغة العربية في ثانوية فرنسية في الرباط، تسمى ب " لسيي غورو" في تلك الفترة، وبدأت القيام بعمل مفتش للغة العربية إلى جانب مفتش فرنسي لمدة سنة خلال عام 1955، وعينت بعد ذلك سنة 1956 مديرا لمدرسة ثانوية يعقوب المنصور في حسان، وبدأت في تطبيق بعض ما تقرر في اللجنة الملكية لإصلاح التعليم التي كنت مقررا لها، وهنا بالتحديد جزئية حاولت تطبيقها وهي مقررة الآن في الميثاق الجديد و كان ذلك في سنة 1956 . هذه الجزئية تتمثل في اختيار نخبة من التلاميذ الذين نجحوا بتفوق في امتحان الشهادة الابتدائية، ثم نوفر لهم تكوينا خاصا لمدة سنة وذلك لتكوين نخبة نتتبعها ونتعهدها بالرعاية الكافية حتى البكالوريا لنخرج منها أطرا تضاهي الأطر الأجنبية. ومن محاسن القدر، أن أحد الأطفال الذين خضعوا لذلك التكوين خلال تلك الفترة، ابن عمي السيد علي بلبشير الأستاذ بكلية العلوم، والذي تقلد منصب عميد كلية العلوم في القنيطرة. س: يعني أن هذه الطريقة في تعهد النوابغ أعطت نتيجة؟ ج: نعم بالتأكيد، والجزئية الثانية هي أنه تم تعييني من مدير مدرسة ثانوية يعقوب المنصور لمدة تقل عن عام إلى نائب لعميد كلية الآداب بالرباط ، وكان العميد أنذاك هو المؤرخ الفرنسي المعروف" charles Andere julien " وكان كثير التنقل فكنت أتحمل جل المهام ، ثم استلمت عمادة الكلية بعده ، وفي هذه الفترة صادفتني مشكلة كبيرة تمثلت في كون السلطات الفرنسية استدعت الأساتذة الذين هم من فرنسا ويمارسون مهنة التدريس في جامعاتنا، وهو ما سيخلف فراغا قويا ومؤثرا بشكل سلبي على مسار الدراسة ، وقيل لهم من طرف دولتهم، مع أنهم لم تكن لهم في غالبهم الدكتوراه بل شهادة التبريز، والتي كانت هي المعمول بها في ذلك الوقت:" إن المغرب قد استقل، فإن أردتم التدريس في الجامعات الفرنسية فعليكم الالتحاق بها لتهيؤوا رسائلكم في الدكتوراه " وكنت باعتباري مسؤولا عن الكلية، لا يمكن أن أسمح بهذا الفراغ من الأساتذة فجأة، فقمت بإتمام اتفاقية مع السفارة الفرنسية، وبالخصوص مع المستشار الثقافي في ذلك الحين، على أساس أن يلتحق هؤلاء الأساتذة بالجامعات الفرنسية لكن على أن يأتوا أيضا سنويا للمغرب لفترة شهرين أو ثلاثة أشهر للمحافظة على استمرارية التدريس، في انتظار أن نأتي بأساتذة آخرين لتعويضهم. وفعلا، قد أتيت بعدد ضخم من الأساتذة في الأدب العربي واللغة العربية والتاريخ والجغرافيا وغيرها من الشعب، وكلهم ذوو مستوى رفيع، ومما استوقفني ونحن في بداية الاستقلال ضرورة كتابة التاريخ المغربي، خصوصا وقد كانت لنا أجهزة تمكننا من ذلك أذكر منها مصلحتين مهمتين تابعتين للكلية هما مصلحة الآثار التاريخية ومصلحة الآثار القديمة، أي ما قبل الإسلامية، وبالخصوص الرومانية والفينيقية، والتي تقوم بالبحث التاريخي والحفريات ، بالإضافة إلى الخزانة العامة كذلك، ولها في باريس مركز مهم جدا للوثائق، وفيه المصادرغير المتداولة حول تاريخ المغرب. وخلال تولي لمنصب نائب عميد ثم عميد، وذلك ما بين 1957 حتى آخر 1961 ، استدعتني فرنسا لزيارة بعض من جامعاتها، فزرت جامعة ستراسبورغ، وباريس، والسوريون، و إيكس برفانس، ثم بوردو باعتباري طالبا سابقا فيها، اطلعت على الجذاذية المهمة لديهم حول تاريخ شمال إفريقيا، وجميع ما نشر حول الموضوع، وطلبت منهم نسخة منها، فأتيت بها إلى المغرب، تسهيلا للباحثين حول تاريخ المغرب، وقد بلغني أيضا أن مكتبة مهمة لباحث فرنسي ستعرض للبيع، واتصلت بالسفارة الفرنسية في شخص المستشار الثقافي ، فطلبت من هذه الأخيرة وأقصد السفارة الفرنسية في ذلك الوقت أن تقتني هذه المكتبة ثم تهديها للكلية بالرباط، وهذا بالضبط ما حصل، وكل هذا في سبيل الهدف الأول الذي هو تدوين تاريخ المغرب. ثم اشتركنا في المجلات المرتبطة بالموضوع، وأتيت ببعض الأساتذة المتخصصين في التاريخ ليهتموا خصيصا بهذا الموضوع، من بينهم أستاذة جزائرية وآخر كان متخصصا في خزانة الكتب حيث كان محافظا لمكتبة الكلية ثم بعد ذهابه إلى الجزائر أصبح محافظ المكتبة الوطنية الجزائرية لسنين طويلة، وهناك أيضا باحث فرنسي أراد أن يسجل رسالة الدكتوراه حول موضوع تاريخ المغرب، وبالخصوص إنتاج السكر بالمغرب خلال القرن السادس عشر، وذهب إلى مناطق الإنتاج وقام بحفريات في عين المكان، وبعض الأدوات التي حصل عليها في إنتاج السكر كأحد القوالب مثلا ، وغيره من الأدوات المستعملة ، تم وضعها في الكلية، وهذه قضية أسجلها بكل اعتزاز، لكني وفي المقابل أتأسف لكون مشروع كتابة تاريخ المغرب لم يتم إنجازه. وكان لدينا أستاذ مشهور ومهتم بالمخطوطات هو جرمان عياش، كما واصلنا إصدار مجلة أسبيريس وكذا مجلة تطوان. وجمعنا المجلتين "أسبيريس و تامودة" في واحدة هي أسبيريس تامودة. وأضيف أنه في 1975 حيث كانت قضية الصحراء المغربية ملتهبة، أثبتُ بالوثائق التي اعتمدت على بعض البحوث التي جاءت في مجلة أسبيريس ضمن الأعداد العشرة منها انتماء الصحراء للملكة المغربية. يضاف إلى ما سبق أننا يسرنا بعض الأبحاث في تاريخ المغرب، وعززنا الطاقم الجامعي بأساتذة أكفاء، وكنا نقوم باجتماع شهري نتناقش فيه بعض المعطيات لبحوث الأساتذة في الموضوع ، وكانت هذه سنة حميدة . وعموما فقد كان اهتمامي بتاريخ المغرب يعتمد على : - وجود مصلحتي بحث هما مصلحة الآثار التاريخية ومصلحة الآثار القديمة، أي ما قبل الإسلامية. -وجود الخزانة العامة والمركز التابع لها فب باريز حول المخطوطات غير المنشورة. - الحصول على جذاذية إكس بروفانس وعلى المكتية التي اقتنيناها عن طريق السفارة الفرنسية. - تعزيز الطاقم الجامعي بأساتذة متخصصين في التاريخ كان منهم الأستاذ مييج والأستاذ جرمان عياش، ومنهم من استقدمناهم من الخارج . - تيسير سبل البحث بالاشتراك في المجلات المتخصصة وبالبحث في المخطوطات المغربية الموجودة في شمال المملكة خاصة. أجرى المقابلة: عبد الرحمان الخالدي