"" لا يزال يجثم بثقله على أعلى كرسي بالبرلمان، يشجب، يندد، يتضامن وينقر بمطرقته الخشبية على منبره ليتردد صدى نقراته في فضائه الذي صار مكانا للقيلولة أكثر منه للتشريع، لذا يبدو الرجل من منبره ذاك كقاض من روسيا القيصرية، وهو يوزع أحكامه على المتمردين من عمال المحاجر، أو كزعيم أحمر يعتقل أتباعه في غرفة خاصة ليروج من عليائه لغة الخشب البائدة، لكن التشبيه شيء والواقع شيء آخر، فالرجل المتشبع بنفحات سهول الغرب لم يصر زعيما بعد حتى يخطب في الأنصار برامجه،وإنما أصبح رمزا يحج إلى برلمانه المعطلون والمكفوفون والمظالم من كل صوب وحدب، حتى تحول برلمانه من فضاء للبحث والتباحث وطرح المسائل وحل المشاكل إلى إسفنج يمتص صخب المحتجين وشعارات المتظاهرين وآهات المعنفين. التقريع، التعنيف والآهات، وقفات للتأمل عند عبد الواحد الراضي، حيث يعود بذاكرته للأمس القريب حين أدرج اسمه في لائحة المبحوث عنهم، فبتهمة التآمر على القصر، وإلى جانب كل من عمر بن جلون، الفقيه البصري، عبد المومن الديوري، عبد الرحمان اليوسفي، الحبيب الفرقاني وآخرين سيجد عبد الواحد الراضي نفسه مقتادا إلى غياهب معتقل درب مولاي الشريف، الذي كان فيه التأوه وجبة متكاملة عند الجلادين. قيل إن اعتقاله بمعية رفاقه من حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، جاء وفقا لمؤامرة محبوكة "فبركتها" الإدارة الأمنية آنذاك لفرملة مد اليسار الوطني، بعد أن تم انتزاع اعترافات عبد المومن الديوري، التي صنّعوها ونفخوا في ما بين سطورها لتأخذ شكل محاضر جاهزة سيوقعها عبد المومن تحت التعذيب، إثر ذلك لقي عبد الواحد الراضي نفسه وجها لوجه مع جلاديه الذين ألزموه بالإحساس واليقين بأن الموت لا يبعد عنه ورفاقه إلا بخطوة واحدة، كما تفننوا في تعذيبه بلذة وسادية. آمن هذا الشاب منذ أن اعتنق المذهب الاشتراكي أن النضال هو السبيل الأوحد لتغيير الأوضاع، لكن إيمانه لم يصل حد التآمر على الملك ليقينه أن الملكية محور تلتف حوله الأمة، وأصر على الذهاب بعيدا حتى يتوحد مصيره بمصير رفاقه، لذا عندما وجد الشاب عبد الواحد الراضي نفسه في ضيافة المحققين بمركز المعارف قرر الذهاب إلى أبعد نقطة، خصوصا أن شرطيين حاولا تهريبه وتحريره من قبضة رجال الأمن الساديين لكنه رفض. قضى ابن "سلا" أكثر من أسبوع بين حيطان معتقل درب مولاي الشريف ليتم إطلاق سراحه رفقة زملائه، والاحتفاظ بحوالي مائة وعشرين من كبار "الاتحاد الوطني" بعد خروجه من المعتقل كان متعبا ومتثاقلا يلوك أنينه بين أضلعه ولم يكن يفصله عن الدراسة آنذاك سوى ثلاثة أسابيع، قضى بشقته يومين ليعود إلى معقله الأم "فرنسا" رفقة زوجته، يقول عبد الواحد الراضي، "فقد كنت في حاجة إلى الراحة وإلى فترة نقاهة، لذلك ركبت سيارتي وبجانبي زوجتي، قطعت المسافة سائقا من بلاد درب مولاي الشريف إلى بلاد النور والحريات، لم أتوقف حتى وصلت باريس وتنفست هواء الحرية، كانت آثار التعذيب والكدمات والجروح تملأ كافة جسدي". ولد عبد الواحد الراضي سنة 1935 في ضيعة شاسعة بسلا، استمع في عامه الأول لضرب البنادق واستنشق الغبار الذي سرقته الرياح من معارك الوغى بين المقاومة وجنود الإمبريالية الفرنسية، فهو ابن عائلة متجذرة في "القصيبية" ويحتل فيها مكانة متميزة، إذ يعتبره آل الراضي الأب الروحي بعد "القايد أحمد" ذاك الذي ورد اسمه في الظهير الشريف المتعلق بالخونة الموالين لابن عرفة، حيث سيدعو الراحل محمد الخامس إلى مصادرة أملاكهم؛ بعد دراسته الإعدادية والثانوية، سيلتحق عبد الواحد الراضي بالمحظوظين من أبناء المغرب للدراسة بفرنسا، هناك سينصت إلى نبض الشعوب المضطهدة، وسينسج علاقات كثيرة مع الطلبة ليعتنق الاشتراكية، وليتنفس الهواء البارد المتسلل من أوربا الشرقية التي كساها البياض الروسي في إطار صراع القطبين (الاشتراكي الرأسمالي). بفرنسا كان عبد الواحد الراضي في احتكاك مباشر مع رموز الاتحاد الوطني لطلبة المغرب "أوطم" كما كان قريبا جدا من المناضل المهدي بن بركة المقيم وقتئذ في باريس، إلا أن الحنين كان يجذبه إلى استنشاق تربة سهول الغرب ومعانقة الأقران وتقبيل آل الراضي الذين يمسكون بزمام الأمور بمنطقة القصيبية. وخلال صيف 1961، سيعود إلى المغرب منتشيا بحيازته للإجازة مع نهاية الموسم الدراسي1960/1961، ليعود من جديد إلى فرنسا لمقابلة مسؤولي "أوطم"، ساعتها فوت مسؤلياته واختصاصاته إليهم، كما فوض مهامه إلى رفاقه ريثما يحين انعقاد المؤتمر الطلابي، غير أنه لم يفوت فرصة تسجيل نفسه بالسلك الثالث بجامعة السوربون، ومن خلال بعض حواراته فقد أنهى حينها ترتيبات تسليم غرفته لإدارة الحي الجامعي وجمع حوائجه ورتب حقيبته في سيارته، إذ لم يتوقف إلا وهو في المغرب من جديد. مواصفات الرجل تجعل المرء يكوّن حوله فكرة، كونه من طينة خاصة، وفيٌّ لتسريحة شعره الذي احتل الشيب فيه مساحة شاسعة، فهو يحفظ عن ظهر قلب (عيرتني بالشيب وهو وقار..) عريض الوجه، ويتمتع ببعد نظر خارق، خصوصا أن عينيه الضيقتين تنفلت منهما نظرات ثاقبة، لا يلازم نظارته الطبية، إلا عندما يعكف على قراءة قصاصات الجرائد أو كتاب يتحدث عن تاريخ المغرب أو فلسفة الشعوب، وما يميز وجهه المكتنز هو شنبه الرقيق المرتبط بذقنه الأشيب المقصوص بعناية فائقة، يحرص على ألا يظهر إلا داخل لباسه الرسمي الذي يناسب المهام المنوطة به كرجل دولة من عيار ثقيل. التفكير التساؤلي، التأمل والصرامة المنطقية من أكثر ما آمن به الرجل، إذ تيتم منذ ريعان شبابه، وقضى جل لياليه يفكر في "محبوبته"(فيلو- زوفيا)، إذ أنه من محبي الحكمة الأوائل في المغرب حيث سيشتغل أستاذا مساعدا في جامعة محمد الخامس التي كانت مؤسسة على الأوراق فقط، فأغلب أصدقائه الحاصلين على الإجازة اشتغلوا بوزارة المالية براتب شهري يفوق 200 ألف فرنك، في حين كان الأستاذ عبد الواحد الراضي لا يتقاضى إلا 79 ألف فرنك، إذ اختار التدريس لإيمانه بأنه لا يوجد في رحاب العلم والثقافة باطرون أو رئيس، يمكنه أن يضيق مساحة الحرية التي حلم بها منذ كان يتنفس الهواء البارد في رحاب "باريس". كان عبد الواحد الراضي المفعم آنذاك بالحيوية يأمل أن يوصل أفكاره إلى طلبته الذين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، إذ سبق له أن حاضر في بداياته بالجامعة طالب واحد، حتى أن أطرف ما واجهه هذا الرجل في مشواره كأستاذ للفلسفة (علم النفس الاجتماعي)، هو حينما طلب منه صديقه السويسري الذي أنشأ معهدا خاصا بعلم الاجتماع مساعدته في التدريس، فعندما سأله "الراضي" عن عدد الطلبة، أجابه السويسري بأن "خمسون في المائة مغاربة، والنصف الآخر أجانب"، وكم استلقى ضاحكا حينما وجد طالبين فقط، أحدهما مغربي والآخر لبناني، قبل أن يلتحق الراضي بجامعة السوربون تتلمذ على يد أساتذة بصموا مسار التعليم في المغرب بأنامل من ذهب فقد درسه مادة اللغة العربية، الأستاذ محمد بالبشير كما استمتع بمحاضرات صاحب كرسي السيميولوجيا السيميائي "رولان بارت"، كما تعرف على عميد إحدى الكليات بفرنسا شارل أندري جوليان أحد أشهر الاشتراكيين بالعالم، اعتبارا لعلاقته الشخصية مع الزعيم الروسي لينين، تأثر عبد الواحد الراضي كثيرا ب "شارل"، فقد وصفه بالشخصية الكارزمية، كما أعجب بثقافته الراقية، ويحظى بمكانة خاصة بين الوجوه التي تختزنها ذاكرته. بعد استقراره نهائيا بالمغرب سنة 1962، يكون الراضي وقتئذ قد فضل قطران البلاد على عسل باريس، مفضلا أن ينصت لنبض المغاربة الذين يعيشون آنذاك حدثا متميزا في تاريخ الدولة الحديثة، إذ صادف دخوله للمغرب تقديم مشروع الدستور للاستفتاء الشعبي، زيادة على ذلك عودة المهدي بن بركة للاستقرار من جديد بمدينة الرباط، إضافة إلى انعقاد المؤتمر الثاني لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. أسبوعية المشعل وفي سنة 1963 سيتقدم عبد الواحد الراضي للانتخابات، ليصبح نائبا برلمانيا عن حزب الاتحاد الوطني، كما أنه أحد المؤسسين لنقابة التعليم العالي، إذ اشتغل أستاذا بكلية الآداب بجامعة محمد الخامس، ثم رئيس شعبة الفلسفة بكلية الآداب، بنفس الجامعة (1974 1986). وكان سنة 1977 بشارة يمن على عبد الواحد الراضي، حيث سيرأس الفريق الاشتراكي بمجلس النواب إلى حدود 1983، وهي السنة التي سيصبح فيها رئيس المجلس الجماعي "القصيبية". من نائب برلماني ورئيس للمجلس الجماعي، سينتقل عبد الواحد الراضي سنة 1983 إلى عالم الوزارات، حيث سيعينه الراحل الحسن الثاني وزيرا مكلفا بالتعاون في حكومة محمد كريم العمراني التي راهن عليها الراحل، للخروج بالمغرب من فم الزجاجة، فسيرة الرجل المهنية غنية بالوظائف السامية، إذ سبق له أن انتخب (1958 – 1960) كاتبا عاما لفدرالية الاتحاد الوطني لطلبة المغرب بفرنسا، إضافة إلى كونه مؤسس كنفدرالية طلبة شمال إفريقيا، كما شغل مهمة الكاتب العام للنقابة الوطنية للتعليم العالي من 1968 إلى 1974، إضافة إلى انتخابه منذ سنة 1963 نائبا برلمانيا، ليعاد انتخابه خلال الولايات التشريعية 1977 ...2007، فمساره حافل بالمهام والمسؤوليات التي تتطلب من صاحبها أن يكون من معدن خاص، ففي 11 شتنبر 2006 انتخب رئيسا للجمعية البرلمانية لحوض البحر الأبيض المتوسط، أما على الصعيد المحلي، فقد تولى رئاسة المجلس الجماعي للقصيبية (جبهة الغرب الشراردة بني حسن) منذ سنة 1983 كما سبق له أن تولى المجلس الإقليمي للقنيطرة. يصفه البعض بالباطرون كونه ابتدع البطائق الالكترونية أو ما يسميها النواب البرلمانيون ببطائق "البوانتاج" بعدما لاحظ غياب النواب عن كراسي البرلمان الوثيرة، لكنه وسط تذمر البرلمانيين من هذه "البدعة" سعى عبد الواحد الراضي إلى تجنب هذه الإشكالية حسب البعض برميه للكرة في ملعب رؤساء الفرق بعدما سلمهم البطائق ليوكل إليهم مهمة إقناع النواب ب "البوانتاج". فيما يصفه أبناء الغرب ب "العراب" باعتباره واجهة يختفي خلفها آل الراضي المتحكمين في منطقة "القصيبية"، فحسب أحد أبناء المنطقة، فإن عائلة الراضي أو "الراضيون" كما يلقبهم يتحكمون في "القصيبية" بدءا من حراس الغابة، عون السلطة، الشيخ، رئيس الجماعة، رئيس الجهة، رئيس مجلس النواب، فكل هؤلاء يحملون اسم الراضي حتى أنه حسب القائل أصبحوا يشكلون دويلة على مقاسهم الخاص، فيما يتحكم الصغار في محاضر خاصة لإلزام الذين شقوا عصا الطاعة على أداء غرامة "حطب الغابة" المسروق، وحسب القائل دائما، يكفي أن تطأ قدم غريب ما منطقة القصيبية، حتى يصل ما يشبه "البروفايل" عن الزائر إلى علية القوم اعتبارا للعيون المبثوثة في محيط القصيبية. شغل عبد الواحد الراضي رئاسة مجلس النواب ولايتين تشريعيتين متتاليتين (1997 2002) و (2002 – 2007)، وقيل إن الراضي كان يقوم بحملته الانتخابية بنفسه لجمع الأصوات وليظل في أعلى كرسي بالبرلمان، فالتهامي الخياري في إحدى حواراته لجريدة الشرق الأوسط، صرح قائلا " وتفسير تصويتنا على الراضي يتمثل في أنه اتصل بي قبل غيره لدعمه، وودعناه ولم نخلف وعدنا، "ويضيف" رغم أنه أساء إلى حزبنا ..." بل لقد ذهب البعض بعيدا عن إعادة انتخاب الراضي لولاية تشريعية ثانية، إذ أن إدريس جطو دفع بثقله للتصويت لصالح الراضي. فحسب قصاصة "الشرق الأوسط" فجطو كان مرنا وترك للفرق حرية ترشيح من تريده في الجولة الأولى، لكنه شدد على مبدأ التصويت لصالح الراضي في الجولة الثانية؛ خصوصا أنه عانى من منافسة شديدة من طرف حزب الاستقلال متمثلة في عبد الحميد عواد. أتباع عبد الواحد الراضي يرون فيه مديرا من الطراز الأول، يحسن النقد ويفرض النظام على نفسه وعلى من حوله ويرسم الخطط ويسير عليها، فهم يحبون فيه مهاراته في النقاش والإقناع وحبه للمنطق الجدلي، فهو حسبهم سياسي بارع بمقاييس قيادية خارقة. أما منتقدوه فيرون فيه السياسي الذي يغمض جفنيه حينما يطلب منه فتحهما، فالراضي حسب بعضهم مخالف تماما للراضي "زمان"، كما أنه من منظورهم تخلى عن مبدأ الاشتراكية التي تنفس هواءها في باريس، ليس له مواقف حاسمة، كما أنه أصبح مجرد صورة تتآكل وتَصْفَرٌّ مع مرور الوقت. غير أن عبد الواحد الراضي المتجذر في حزب الاتحاد الاشتراكي، والذي نال عضويته سنة 1989 يظل مرجعا أسياسيا في "النضال" وأحد أهم المناهل التي تنطق فلسفة وحكمة، إلا ان صمته تجاه الغرفة الأولى التي يرأسها وعن تضخم أجور نوابها وغيابهم المستمر، يتنافى والقيم التي حلم يوما ما بغرسها في أفئدة الطلبة، كما أن تواجده في هرم الحزب ظل باهتا مقارنة بمبادئه كاشتراكي جاور كبار منظري الاشتراكية بالعاصمة الفرنسية باريس. ومهما اختلفت الآراء حوله، يبقى عبد الواحد الراضي الصارم والمتشدد في تطبيق برامجه، حملا وديعا في جلبابه الأبيض أمام ملك البلاد، الذي يراهن على "التشبيب" في الدفع بعجلة التنمية نحو غد أفضل.