باستثناء محاضرات معدودة، ضبطتُ تواريخَها وداومتُ على حضورها، صرفتُ ساعات الباقي بين خزانة الكلية ومدرَّج الإمام مالك في الكلية المقابلة، حيث كان جواد وعبد الصمد2 يتابعان دراسة «علوم السياسة».. كنتُ أصل حوالي العاشرة في معظم الأيام. أسحب إحدى الروايات من خزانة الكلية وأختار لي مجلسا في إحدى زوايا المكان. ساعتان أو أكثر أمضيهما، مبحرا بين دفّتَي الكتاب، قاطعاً كل صلاتي بالعالم من حولي. إذا أعجبتْني فصولُ الكتاب واستأنست بشخوصه وفضاءاته وما يجري داخلها من أحداثٍ ووقائعَ، انعدمت الصلةُ بيني وبين «الراهن» في «الحال»!.. وفي الوقت الذي يكون «أترابي» يتسابقون على احتلال الصفوف الأمامية لحضور المحاضرات، من جهة، و«تسجيل الحضور» في ذاكرة الأستاذ المحاضر، من جهة ثانية، خصوصا إذا كانت محاضراته تندرج ضمن المواد الشفوية، بغيةَ ترسيخ «مواظبتهم» وملامح وجوههم في مخيلة الأستاذ، كنتُ، أنا وآخرين معي، كُثْراً، أطارد تفاصيلَ حكاياتٍ وشخصيات ورقية.. عند الثانية عشرة، يشهد فضاء الخزانة حركة متزايدة ً لطلبة وطالبات تخلصوا، لتوهم، من دوخة مدرَّج أو حجرة الدرس. منهم من يأتي للبحث عن صديق أو «رفيق». منهم من تأتي بناء على موعد مسبق مع «صاحب» أو عشيق. منهم من يأتي بحثاً عن «أخ» أو «أخت»، ومنهم من يأتي فقط لأن رجلَيْه قادتاه إلى المكان، دون تخطيط مسبَق.. تتعالى الأصوات وتتداخل. تصير مستحيلة مواصلة المطالعة.. كنت أنتهز الفرصة وأطلب من أحدهم أو إحداهن إمدادي بنص المحاضرة التي فاتتني للتو، حتى أستطيع «نَسخَها» في أحد دفاتري، وأجد ما أطالعه حين تقترب فترة الاستعدادات ليوم «يُعَزّ فيه المرء أو يُهان»!.. في الفترة الزوالية، كنت أتحول إلى آلة لنسخ المحاضرات. أُخرج دفتري وأشرع في «نقل» ما فاتني في الوقت نفسه الذي يكون أقراني من الطلبة «المُجِدّين» يستمعون إلى محاضرة أخرى سأضطرّ لنقلها بنفس الطريقة في موعد لاحق.. على هذه الوتيرة سارت أيامي داخل حرم الجامعة، خصوصا بعد أن اشترى لي أحد أشقائي دراجة هوائية. أضحتْ تحت تصرفي وسيلةُ نقل كنت أستغلها، بعد العودة من الجامعة، للالتحاق بالأصدقاء في بيت جواد، في «الضفة»، كما كنا نطلق على الحي الذي يسكنه الأخير، نظراً إلى قربه من وادي إسيلَ «الشهير».. هناك، اعتدنا على أن نجتمع لنلعب الورق ونُزجيَّ قسطاً وافراً من حيّز مساءات تلك التسعينيات الجميلة. وعلى إيقاع موسيقى صاخبة، كنا نتحدث عن الدراسة والفتيات وفريقنا الكروي المفضّل، ونحن ندوِّن يومياتٍ غيرَ مرئية من مسلسل «ضياعنا» الذي كان في أيامه الأولى.. يتبع...