كنا حوالَي ألف من الطلبة في شعبة الآداب، منقسمين على عدة أفواج. إضافةً إلى ثانويات مراكش التي «تُفرغ» السوادَ الأعظم من تلامذتها بين جدران الجامعة، كان هناك أيضاً طلبة قادمون من مدن مجاورة كبني ملال، القلعة وآسفي.. في بعض المحاضرات، كنا نلتقي جميعاً في «مدرَّج» واحد. خلقٌ كثير يهجمون على الكراسي الطويلة التي تؤثّث المدرّجات. تلك «العصابة» الملتحمة التي كنا نشكّلها، خلال مرحلة الثانوية، ذابت وسط الكتلة البشرية الكثيفة التي استقبلتها كلية الداوديات. قليلون منا أسعفهم الحظُّ في تجنُّب تجربة «لافاكْ La Fac»، كعبد اللطيف الذي التحق بمركز تكوين المعلمين في الرباط. وحتى مَن وجدوا أنفسَهم يخوضون هذه التجربة، في ظل غياب بديل وليس لسبب آخر، فرّقتْهُم التوجّهاتُ والشُّعَب التي اختاروها.. هكذا اختار عبد الإله التاريخَ والجغرافيا، قبل أن يلتحق، في ما بعدُ، بسلك الشرطة، فيما اختار عبد الصمد2 وجواد كليةَ الحقوق. ولأننا كنا نشكل مجموعةً متجانسة حتى خارج فصول الدراسة وقامت بيننا علاقاتُ صداقةٍ متينة، فلم نكنْ نستطيع أن نصبر على الابتعاد عن بعضنا البعض كثيراً.. عندما كنتُ أحد نفسي غيرَ قادر على متابعة واحدة من المحاضرات، كنت أنسلُّ، بهدوء، وأذهب للبحث عن عبد الإله في مدرج «التاريخ والجغرافيا».. أقتلعه من مجلسه ونتوجّه، سويةً، إلى المبنى المقابل: كلية العلوم السياسية والاقتصادية، حيث جواد وعبد الصمد2. مدرَّجاتُ كلية الحقوق أكبرُ من نظيراتها في الآداب. كنا نلج المدرَّجَ من باب علويّ. نتسمّر قربَ الباب ونمسح بأعيننا المسرحَ الكبيرَ: مئاتٌ من الطلبة. لم تكنْ مهمّةُ تحديد مكان الشخصين بالأمر الهيّن. لكننا كنا ننتهي، دائماً، إلى إيجادهما. نقصدهما ونتدبّر مكاناً نجلس فيه إلى جانبهما، لنخوضَ في أحاديثَ جانبية، كما هو حال الغالبية من الطلبة والطالبات. كان المدرّج يشهد لغَطاً وصخباً صارخَيْن، خصوصاً في صفوفه الخلفية. محاضراتُ الحقوق طويلة ومعقّدة تتطلب قسطاً وافراً من التركيز لفهم شروحات وإيضاحات الأستاذ المحاضر، وإنْ كانت، في مجملها، مطبوعةً في كتب ومقرّرات تباع في المكتبات والأكشاك المحيطة بالكلية. في أحيان أخرى، كثيرةٍ، كنتُ أقصد خزانة الكلية، حيث مجموعةٌ من الكتب والمَراجع التي يتطلّب الحصول على إحداها تركَ بطاقة الطالب لدى القيّمين على المكان، مكان لم تكنْ تُحترَم، على الإطلاق، خصوصيتُه التي تستوجب قدراً أكبرَ من الهدوء. بين الفينة والأخرى، كانت تقع بعضُ الاحتجاجات على الضجيج الذي يعُمّ المكان. احتجاجاتٌ كان يقودها البعضُ ممن يريدون التركيز في ما يطالعون، ضدّ صنف آخرَ من الطلبة يُفضِّل عقدَ «اجتماعات» وإدارةَ نقاشات، قد تصل حدود الصّخَب، في المكان غير المناسب لذلك، في الخزانة.. يتبع...