«هل تسكر؟ لا. إن الحثالة من أمثالك يكونون قد تعلموا هذه الأشياء قبل بلوغ العاشرة. لا علينا. إذا لم تكن قد تعلمت هذه الأشياء فالطريق أمامك مفتوحة. ابتعد الأمريكي جهة «البار»، وضع زجاجة البيرة المملوءة قليلا، نظر إليه حميد وهو يتمايل... تبعه جهة «الفليبير» حيث كانت امرأة أجنبية تحرك عجيزتها وراء الآلة، قال الرجل الضخم لحميد: هل تريد أن تلعب مع هذه الفرنسية؟ إنها تحب العرب الصغار والكبار. أ لحمار.. أ لكلب. المرأة ذات العجيزة والأمريكي الضخم يتعانقان الآن ويتدافعان عند «البار». لا أحد ينتبه إليهما، لأن هناك رجالاً آخرين ونساء أخريات يفعلون الشيء نفسه. الناس يلتهمون الذرة التركية وأجساد الحلزونات الطرية. أجانب ومغاربة وأجنبيات. المغربيات لا يجلسن على الإفريز، يوجدن داخل البار يشربن أو يبتززن بعض الزبائن. يع، تفو، ستتزوج وأنت لم تر من الدنيا شيئاً. هل سكرت يوما ً؟ هل نمت مع أمريكية؟ هل أنفقت عليك امرأة تبيت الليل كله تشتغل في ملهى ليلي من أجلك؟ تشجع واندفع نحوها. خاف أن تزجره، لم يجرب كثيراً هذه الأمور. جلس بخوف وتوجس عند حافة السرير الذي تمتد عليه «غنو». لم تتأفف، لم تنتفض، لم تجزره. إنما تزحزحت قليلاً وتنهدت ثم أفسحت له مكاناً بجانبها. أخذت تنزع ثيابها عنها وتلقيها على الأرض». ضع نفسك مكان أب جاءت إليه ابنته البالغة من العمر أربع عشرة سنة وطلبت منه أن يساعدها في إنجاز تحليل لمضمون هذا النص واستخراج فكرته الرئيسية. ماذا تراك ستفعل؟ هل ستطلب منها إعادة قراءة النص بتأن من أجل فهم عباراته واستيعاب معاينها أم إنك ستطلب منها أن تجمع أوراقها؟ هذا نموذج من النصوص التي يطلب بعض الأساتذة من تلاميذهم، الذين لا تتجاوز أعمارهم 14 سنة، إنجاز تحليل حوله بمساعدة آبائهم في البيت. والنص مستخلص من رواية «محاولة عيش» للراحل محمد خصال المشهور أكثر بلقب محمد زفزاف، والتي تمت برمجتها في حصة المؤلفات لتلاميذ السنة التاسعة من التعليم الإعدادي. آباء كثيرون يجدون حرجا كبيرا في مساعدة بناتهم وأبنائهم على تحليل نصوص هذه الرواية. والسبب هو احتواؤها على كلمات نابية وعبارات مخلة بالحياء تصف أعضاء جنسية وفصول تصوّر، لغويا، مشاهد جنسية. المدافعون عن اختيار رواية «محاولة عيش» لتلاميذ في بداية مراهقتهم، يرون أن بطل الرواية يحمل رسالة تربوية عبر نقل التلاميذ إلى الواقع المعيش للطبقات المسحوقة، من أجل التعرف على العوالم السرية لكائنات هذه الطبقات وطريقة حديثها وردود أفعالها؛ وقد حملت جريدة «الاتحاد الاشتراكي» لواء هذا الخندق المدافع عن الرواية. وهذا مفهوم، فالرواية برمجتها لجنة اختيار النصوص والمؤلفات بوزارة التربية والتعليم سنة 2006 على عهد الوزير الاتحادي الحبيب المالكي، مما يعني أن الحزب يتحمل المسؤولية «الأخلاقية» في برمجة هذه الرواية. أما المعارضون لاختيار الرواية فيرون أنها تصلح للتدريس في الجامعات لأن اللغة الجريئة التي كتبت بها يمكن أن تؤثر على المتلقي سلبا، خصوصا إذا كان تلميذا في بداية مراهقته. وأصحاب هذا الطرح هم، في الغالب الأعم، بعض آباء وأولياء التلاميذ الذين استنكروا فرض وزارة التربية الوطنية رواية «محاولة عيش» على أطفالهم القاصرين، مع معرفتها المسبقة باحتوائها على ما يتعارض تربويا مع سن هؤلاء الأطفال ودرجة وعيهم بمضامينها ومراميها الفكرية والأدبية والسياسية. شخصيا، أرى أنه ليست هناك وزارة تعليم في العالم بأسره تجرؤ على برمجة رواية مثل رواية «محاولة عيش» لتلاميذ في الرابعة عشرة من أعمارهم. ببساطة لأن هذه الرواية، مثلها مثل روايات محمد شكري، يجب أن يطالعها البالغون فقط، لأن بعض فصولها تشبه تماما تلك اللقطات التي بسببها تجبر الرقابة في التلفزيون والسينما أصحاب هذه الأفلام على وضع عبارة «للبالغين فقط». لا يوجد مبرر واحد لمنع كتاب من الصدور، كيفما كانت قناعات صاحبه وكيفما كان نوع الأفكار التي يدعو إليها، فالرد الوحيد على الكتب التي نختلف معها هو إصدار كتب لمواجهتها فكريا، لا حجزها ومنعها أو إحراقها كما كان يحدث في عصور الانحطاط. لكن فرض مؤسسة عمومية كوزارة التربية والتعليم (ولاحظوا أن التربية تأتي قبل التعليم) روايات مكتوبة بلغة عارية، عنيفة، جريئة، وإباحية، على تلاميذ في سن المراهقة أمر غير مقبول في كل بلدان العالم التي تضع تربية وأخلاق النشء ضمن أولوياتها. لا أحد سيمنع الناس من اقتناء هذه الروايات وقراءتها إن أحبوا. فهذا سيكون فعلا إراديا مبنيا على قناعة ذاتية. أما أن يتم فرض هذه الروايات على القاصرين والمراهقين في الإعداديات والثانويات، ضمن حصص مخصصة أصلا لدراسة مؤلفات أدبية تساهم في بناء الهوية الوطنية والأخلاقية والدينية للتلميذ، فهذا أمر يدعو البرلمان إلى مطالبة لجنة المصادقة على المناهج والبرامج في وزارة التربية والتعليم بالقدوم أمام ممثلي الشعب والإدلاء بتوضيحات حول أسباب اختيارهم لهذه المؤلفات بالضبط، فربما يكون لديهم سبب وجيه غاب عنا إدراكه. شخصيا، تعرفت على الراحل محمد زفزاف في بيته المتواضع بحي المعاريف، وأجريت معه حوارا صحافيا سنة 2000، أشهرا قليلة قبل أن يموت في مستشفاه الباريسي. وعندما اشتغلت في القناة الثانية، أنجزت حوله حلقة من برنامج «نوستالجيا» تعرف بمؤلفاته ومساره الإبداعي. بمعنى أنني لا أحمل أي كره للرجل أو لمؤلفاته التي أحتفظ بمجلدات أعمالها الكاملة في رفوف مكتبتي. وزفزاف مثل شكري وقلة قليلة من الروائيين المغاربة الآخرين لا يكتبون انطلاقا من مكاتبهم الوثيرة في فيلاتهم المتاخمة للبحر، بل إنهم تعودوا الكتابة فوق موائد الحانات والخمارات والمباغي. وهم يفتخرون بذلك ويعتبرون أدبهم انعكاسا لتجاربهم الحياتية الواقعية. ولعل الشيء المهم الذي فات لجنة المناهج والبرامج الانتباه إليه في مؤلفات زفزاف، هو صورة المرأة في رواياته. فالمرأة في هاته الرواية المبرمجة، كما في معظم رواياته الأخرى، تحضر دائما إما كعاهرة أو «بارميطة» أو متشردة أو كمقابل طبيعي للجنس، وهذا ما يفسر ربما العلاقة الملتبسة للأديب الراحل بالمرأة كموضوع أدبي وككائن مادي. الظاهر أن هناك بالمغرب اليوم توجها واضحا نحو التطبيع مع ثقافة الانحدار اللغوي والأخلاقي. وخلال الأسبوع الماضي، شنف أحد المحللين النفسيين أسماع المواطنين على أمواج راديو «شذى.إف.إم» بحصة منتقاة بعناية من معجم جنسي مائع لا يمكن أن تسمعه سوى في جلسات البارات الرخيصة، ردا على سؤال إحدى المستمعات تحت ذريعة تسمية الأشياء بمسمياتها. وفي بعض مناطق المغرب المحافظة، أصر المركز السينمائي المغربي على إيصال نصيب ساكنة هذه المناطق من الكلام النابي إلى غاية قراهم ومدنهم عندما عرض في الساحات العامة فيلم «كازانيغرا» لكي يشاهده الجميع بدون تمييز بين الأعمار كما هو معمول به في كل الدول التي تحترم الشرائح المستهدفة بالأفلام السينمائية. وطيلة شهر رمضان، عرض التلفزيون العمومي مسلسلات فجة استعملت فيها حوارات تفتقر لغتها إلى ذلك الأدب و«الصواب» الذي تميزت به المسلسلات الإذاعية والتلفزيونية التي اختفت وحل محلها جيل جديد من الممثلين والمخرجين وكتاب السيناريو يمكن أن نطلق عليهم «جيل قيمش ما يحشم ما يريمش». إن أخطر ما في هذا التوجه الجديد هو أنه يستهدف عنصرا حساسا في المجتمع، هو الأطفال والمراهقون. وهذه الشريحة الاجتماعية عندما تفقد البوصلة الأخلاقية والدينية في هذه السن المبكرة، فإننا سنجد أنفسنا بعد سنوات قليلة أمام جيل مفكك الهوية، فاقد لحس الانتماء إلى الوطن، ومستعد لاعتناق أي فكر لقيط يخترق مناعته الهشة. في فرنسا، تأخذ الكتب المبرمجة في حصة المؤلفات منحى أخلاقيا وتتخذ مقاربة زمنية في العلاقة ببرنامج التاريخ: النصوص القديمة في الصف السادس (والتي تشابه السنة الأولى في المدرسة الثانوية عندنا) مثل الإنجيل، الأوديسة، الإلياذة،...إلخ، والنصوص التي تعود إلى العصور الوسطى في الصفين الرابع والخامس (والتي تشابه الصفين الثاني والثالث في المدرسة الثانوية عندنا). أما في الولاياتالمتحدةالأمريكية، فتلعب الأخلاق دورا محوريا أيضا، فأسس النظام التعليمي في أمريكا مبنية على القيم التي تمكن الطالب من إتمام رحلته التعليمية في المدرسة، وبعد ذلك في المؤسسة الأكاديمية؛ وهذه القيم هي الكرامة البشرية، الحرية، العدل، المساواة والأخلاق. ونحن نتكلم هنا عن أخلاق المعتقد التي تمتد إلى الدافع الأخلاقي الذي هو أصل العمل. فهل سيكون نظامنا التعليمي في المغرب أكثر عبقرية من نظامي التعليم الفرنسي والأمريكي؟