قبل أن ندخل في حوار علمي نناقش فيه ما تضمنه مقال الأستاذ محمد خطابي، نود أن نؤكد في البدء، أن مقال التجديد لم يكن في الأصل مقالا فكريا أو أكاديميا، وإنما كان الأمر يتعلق بخبر استند على رسائل احتجاجية وردت على التجديد من مجموعة من الآباء من مدينة تطوان، وكان متن بعض الرسائل غالبا على المقال الخبري الرئيس، ومن ثمة، كانت بعض ملاحظات الأستاذ محمد خطابي النقدية وجيهة في بعض الشواهد، لكن، وجاهة هذه الملاحظات، لم تغير من جوهر المقال شيئا على اعتبار أن ما انتهى إليه الأستاذ خطابي من خلاصات لا تصدقه فصول الرواية نفسها، هذا فضلا عن محاولته المعتسفة لتلميع صورة البطل، كما ولو كان يحمل رسالة تربوية ويمثل نموذجا صالحا للاقتداء (سلوك قويم) في الوقت الذي تطفح فيه الرواية بالعديد من المشاهد والمواقف التي تنسف مثل هذه الخلاصات. وانسجاما مع المتطلبات المنهجية، سنحاول أن نقسم ملاحظاتنا النقدية على مقال الأستاذ محمد خطابي إلى ثلاثة أقسام: 1 في نقض متجه القراءة: ونقصد بها الخلاصة التي انتهى إليها المقال، ذهب فيها الأستاذ خطابي إلى أن بطل الرواية ذو سلوك قويم طوال أحد عشر فصلا، واستند في إثبات هذه الخلاصة على جملة من المواقف منها: أن الأمريكي لم يستطع أن يقنعه بشرب الخمر، ولم يتمكن من إقناعه بأكل لحم الخنزير، وأنه كان يمتنع عن التدخين نزولا عند نصائح أمه، وأنه رؤوف بأمه لا يريد أن يغضبها ولا يرفض لها أمرا ولو تعلق الأمر بالزواج، ويسلم لوالديه مدخوله اليومي على قلته، يقضي ليله في الطواف على أماكن لم يختر ارتيادها لولا البحث عن لقمة العيش، لا يظلم أحدا ولا يحب الظالمين، متشبث بإسلامه الذي حرم عليه شرب الخمر وأكل لحم الخنزير، يرغب عن ممارسة الجنس خارج مؤسسة الزواج، ولذا وافق على اقتراح أمه بالزواج من فيطونة. حميد يقاوم الانحراف بشراسة ولم يستسلم إلا في الفصل الأخير من الرواية، وأنه ظل على اقتناعاته طوال أحد عشر فصلا لكن التأمل بعمق في فصول الرواية يؤكد أن ما ذهب إليه الأستاذ محمد خطابي ليس بدقيق، فليس صحيحا أن بطل الرواية حميد لم يستسلم إلا في الفصل الأخير، بدليل أنه تعرف على المومس غنو في الفصل العاشر، ومارس معها العملية الجنسية كما تحكي ذلك بالتفصيل الصفحة 81 استعاد ثقته بنفسه، تمدد بجانبها، انتظرها ماذا تفعل، وهي مغمضة العينين، أخذت تنزع ثيابها عنها وتلقيها على الأرض، فعل مثلها بدون خوف....، بل إن الفصل التاسع يشهد على التحول النفسي والفكري الذي بدأ يعيشه بطل الرواية حميد مع تقدم سنه، إذ ورد في المقطع الآتي ما نصه: - قال أحد أصدقائه: - ستتزوج وأنت لم تر من الدنيا شيئا، هل سكرت يوما؟ هل نمت مع أمريكية؟ هل أنفقت عليك امرأة تبيت الليل كله تشتغل في ملهى ليلي من أجلك؟ - إن أمي أرادت ذلك، ثم هل الزواج يمنعني من أن أمارس كل تلك الأشياء. هل تعتقد أن امرأة واحدة تكفيني؟ بل إن هذا التحول النفسي الذي يؤشرعلى بداية الانحراف عن نموذج التعفف التربوي بدأ مبكرا في الفصل الخامس، إذ يحكي السارد في الصفحة 43 على بعد أمتار، رأى عائلة من الأجانب تدخل المقهى. كانت مع العائلة فتاة في سنه شبه عارية، جميلة جدا، تقف وتضحك مع صبي صغير يبدو أنه أخوها. تشهاها حميد لنفسه. وقف خلفها ينظر إليها. هذه ثلاث شواهد تضعف قراءة الأستاذ محمد خطابي، وتؤكد في المقابل التطور النفسي والفكري الذي يعيشه بطل الرواية، بدءا من الالتزام التقليدي الذي تختلط فيه القناعة الدينية بالأفكار الخرافية بمتطلبات طاعة الأم وعدم كسر خاطرها، إلى بداية الوعي بالذات، والبحث عن تمثلات حول مجموعة من القضايا إلى اتخاذ مواقف وسلوكات مخالفة للقناعات التي نشأ عليها. ويؤكد هذا ما ورد في الفصل 11 من شهادة أم البطل فيه لم تفهم أمه شيئا في هذا التغيير الذي حصل لحميد، لم يعد يخشاها، في السابق لم يكن يرد عليها. دائما كان يقول نعم، اذهب إلى الجحيم الآن اشنق نفسك نعم الآن، اسكت، نعم، لا تأكل، نعم، لكنه الآن تغير، هذه امرأة ملعونة شك هي التي فعلت به ذلك ص85 ففي المرحلة الأولى، يمكن أن نودر العديد من مواقف حميد مثل موقفه من الخمر، ومن التدخين وأكل لحم الخنزير ، والتي عبر فيها إما عن التزام قناعات دينية كما في مقطع المشهد الذي رد فيه على الأمريكي الذي دعاه إلى شرب الخمر، فأجابه بلا وعلل رفضه بكونه مسلم أو حين صرخ في وجه طفلين مشردين التقطا سندويش من لحم الخنزير قائلا لهما كما في ص 38 إنه حرام، إنه لحم حلوف لا تأكلاه، وإما عن استجابة لرغبة الأم كما في موقفه من التدخين وذلك حين رد على من دعاه إل التدخين قائلا: لا يمكن أن أدخن، إني اسمع قول الوالدة. أما في المرحلة الثانية، أي بداية التحول النفسي والفكري، وبداية الوعي بالذات، فقد قطعت مع المرحلة الأولى تدريجيا، وإن كانت لم تقطع معها كليا، بحيث سجلت فصول الرواية على مستوى المثلات الفكرية بداية طرح السؤال حول قناعاته الدينية والأساس الذي تستند عليه الأحكام في التعليل كما هو الشأن في أكل لحم الخنزير كما يوضح المشهد الذي كان يتصارع فيه الأمريكيان. قال حميد: إنها معركة حقيقية. رد زميله: إن الأمريكيين ليسوا أقوياء. يقال إن في لحم الخنزير دودة تنخر القوة الموجودة في الجسم. خ ولكني رأيت كثيرا من الناس يأكلونه.- إذا تشاجرت معهم تستطيع أن تغلبهم وهنا يتدخل السادر، لا ليحل التيه الفكري الذي بدا حميد يتحسسه، ولكن ليزيد من تعميقه، بلغة فيها قدر غير يسير من السخرية، يقول انفلت أحد الأمريكيين من أكلة الخنزير وشاربي الخمر، لعنهم الله، - انظر صيغة الدعاء واطرح سؤال الجدوى منها هنا- وضرب الطباخ على قفاه بلكمة ألقت به أرضا خ رغم أنه يأكل الخنزير- ص54 (انظر كيف يبطل التعليل الخرافي ويفسح مجالا أوسع للتيه الفكري بخصوص على تحريم الخنزير). ويزداد الأمر وضوحا في مثال شرب الخمر، والذي عللت الرواية بعد بطلها عنه بمسألة مرارته كما أثبت ذلك الفصل الأول، حيث قال السادر لقد سبق لحميد أن ذاقه، لكنه لم يستسغه، فهو مر، شديد المرارة ص ,6 ثم انتهى مع التحول، وليس مع الاستسلام لضغط الواقع كما انتهى إلى ذلك الأستاذ محمد خطابي، إلى شرب الخمر، بعد أن تبخرت فكرة حرمته: ثم هل الزواج يمنعني من أن أمارس كل تلك الأشياء؟ جوابا على أحد أصدقائه الذي قال له:ستتزوج وأنت لم تر من الدنيا شيئا، هل سكرت يوما؟ هل نمت مع أمريكية؟ ص ,70 ليختار في عرسه أن يشرب الخمر قبل أن يعرف عدم عذرية فيطونة كاننت بعض الكؤوس التي شربها قد بدأ مفعولها يتبخر ثم ينتهي إلى اخيتار سلوكي دائم لم يبدأ عند الصدمة كما ذهب إلى ذلك الأستاذ محمد خطابي ولكنه بدأ قبل ذلك كما في الفصل 11 في الغرفة كانت هناك دائما زجاجات نبيذ وأنصاف زجاجات، ولكثرة ما تعود حميد على رؤيتها ورؤية غنو وهي تشرب، حاول أن يبدأ، في النهاية بدا بكأس مر، ثم كأسين أق مرارة..ثم ...ألخ ص84 بدا حميد يشعر أنه شخص آخر، يشرب كل مساء، وينتظر غنو في نهاية الصباح ص 87 وهكذا صار شرب الخمر اختيارا سلوكيا ختمت به الرواية نهايتها مع ما ترمز له هذه النهاية من دلالة تربوية :فكر أن يسكر هذه الليلة، وكل الليالي القادمة.....سوف يشرب ويشرب.. ص,94 قبل أن نختم هذا القسم، نود أن نعقد مقارنة بين كلام رئيس حميد الذي وجهه إليه، والذي أوله الأستاذ محمد خطابي تأويلا بعيدا، وبين النهاية التي انتهى إليها بطل الرواية، فقد قال رئيسه كما هو مثبت في الفصل الثاني ص22إذا لم تكن قد تعلمت هذه الأشياء، فالطريق أمامك مفتوحة، ستعرف كل أصناف البشر، اللصوص، الموظفين، الجنود الأمريكان، المومسات، إنه عالم غريب ينتظرك، ستحتك به بعد حين ورغم أن المرحلة السنية التي سمع فيها بطل الرواية هذا الكلام لم تكن تسمح له بتصور كل مكونات هذا العالم، إذ لم يغره وقتها سوى الجنود الأمريكان وما يتبع ذلك من إمكانية حصوله منهم على ساعات أمريكية أو دولارات، فإن التحول النفسي والتغيير الذي حصل لبطل الرواية قاده فقط إلى الاحتكاك بالمومسات والخمر، بعد أن فشل في الاحتكاك مع الأمريكيين والحصول منهم على شيء. وهو اختيار لا يخلو من قصد كما سنوضح ذلك في القسم الثاني من ملاحظاتنا النقدية.