لا بد من التنويه بمبادرة جريدة "التجديد" بفتح النقاش حول جانب من جوانب ما يدرَّس في المؤسسات التعليمية. وجميعنا يعلم أن إعمال التشريح في هذا الاتجاه أمر محمود. ولا بد كذلك من الانطلاق من أن ما كُتِب بخصوص موضوعنا ينطلق من الغيرة على النشء، ومن سبل ذلك إسداء النصح بحثاً عن الأفضل. وكذا لا بد من التنويه بمبادرة جريدة "الاتحاد الاشتراكي" بفتح صفحاتها للإسهام في النقاش. في يوم 25 شتنبر 2009 ورد في جريدة «التجديد» عنوانان: الأول «استنكار اعتماد «رواية» لاأخلاقية لتلاميذ السنة التاسعة»، والثاني «تدور مجمل أحداثها في الحانات والبارات.. حياد اتجاه تعاطي الخمر والتدخين والزنا وعقوق الوالدين.. رغم الشكاوى، الرواية تدرّس للسنة الثالثة». أما متن المقال فينقسم إلى أربعة أقسام: صمتُ الوزارة الوصية «رغم احتجاج عدد من آباء وأولياء التلاميذ الذين رفعوا شكاوى في الموضوع». انتقاد »رئيس المركز المغربي للدراسات والأبحاث التربوية" انتقاداً شديداً لما وصفه بالانتهاكات الخطيرة للقيم الواردة في الرواية التي تدرّس للمتعلمين في فترة المراهقة. ثم استغرابه لتجاوز «مرصد القيم» عن هذه الانتهاكات. من خلال ما تقدم يتضح أن هناك طرفين أحدهما يتهِم (الآباء والأولياء، ورئيس المركز، والجريدة) الطرفَ الثاني (الوزارة ومرصد القيم)؛ أما التهمة فهي إفساد أخلاق النشء، ووسيلةُ الإفساد تدريس رواية «محاولة عيش» من تأليف أديب مغربي اسمه محمد زفزاف رحمه الله. هذا عن القسمين الأول والثاني. القسم الثالث تفصيلٌ من قبل كاتب المقال لما وردَ مجملاً في التهمة وتنويع عليه. وقد سلك المفصّل سبيلاً تعبيرياً يتعامل مع الرواية كما لو أنها بيان صاغه دعاةٌ إلى إفساد أخلاق النشء عن سبق إصرار وترصّد. ويتجلى هذا في العبارات الآتية: «تحتوي الرواية على مقاطع اعتمدت الحياد الإيجابي إزاء ظواهر شرب الخمر والاعتداء على الوالدين»؛ و«ضرب الأمهات»؛ و «طفحت الرواية بعبارات سوقية تعطي صورة سيئة للعلاقة بين الزوجين» و «كرست الرواية صورة سيئة للمرأة المغربية»؛ و «تضمنت الرواية نصوصاً تغري الشباب بتعلم التدخين»؛ و «وردت في الرواية مقاطع كثيرة تشكك في الحكمة من حرمة أكل لحم الخنزير»؛ و «تدور عدد من أحداث هذه الرواية في الحانات والبارات»؛ و «تتضمن مقاطع محايدة إزاء واقع الخيانة الزوجية وشرب الخمر (...) وتعتبر ذلك سلوكاً عادياً»؛ و «تشجع النشء في مشهد آخر على اقتراف الخمر وممارسة الزنا قبل الزواج». القسم الأخير «تلخيص» للرواية بعبارتي «تدور أحداث الرواية»؛ أو «تدور معظم أحداث الرواية» و «تصور الرواية». إن الطريقة التي عولج بها الموضوع أقرب إلى مرافعات «النيابة العامة» وهي تبسط صك الاتهام وترفعه في وجه المتهم، والنتيجة إصدار حكم بالإدانة بفعل ما اقترفه من الجرائم. هذه التهم كفيلة بالزج بالرواية في السجن عقوداً !! لديّ مؤاخذتان على محرر المقال: الأولى طريقة المعالجة (المحاكمة) وقد نبهنا إلى ذلك؛ والثانية اعتماد "أقوال" وردت على لسان شخصيات في الرواية وسيلة للاتهام بعد بترها من السياقات التي وردت فيها. وهذا بيانه: عن الحياد الإيجابي إزاء شرب الخمر: ورد ما استشهد به كاتب المقال في سياق حوار بين "سي ادريس" المسئول عن مكتب توزيع الصحف و«حميد» على النحو الآتي: «-كم عمرك./ - ست عشرة سنة./- آه إنها السن المناسبة، هذه مهنة المستقبل، عليك أن تكون جاداً إذا أردت أن تموّل عائلتك، هل تدخن؟/- لا./- مزيان./ -هل تسكر./ -لا./ - مزيان أيضاً، لكن هذا غريب عن الحثالة من أمثالك يكونون قد تعلموا هذه الأشياء قبل بلوغ سن العاشرة. لا علينا. إذا لم تكن قد تعلمت هذه الأشياء فالطريق أمامك مفتوحة. ستعرف كل أصناف البشر، اللصوص، الموظفين، الجنود الأمريكان، المومسات، إنه عالم كبير ينتظرك، ستحتك به بعد حين». يتضمن هذا المقطع نظرة دونية - ممن هم أعلى- لأمثال حميد من الفقراء الساعين إلى "محاولة العيش"، وذلك بنعتهم بالحثالة، والحكم بأنهم فاسدون أصلاً لا يرجى منهم خير... إنه مقطع يعبر عن موقف موجود حتى اليوم مليئ بالأحكام السلبية المسبقة على شريحة من المجتمع كل ذنبها أنها وُلدت وترعرعت في مكان لم تختره. هذا علاوة على "أصناف البشر" الذين ورد ذكرهم في المقطع يصادفهم "جميد" في الأماكن التي يرتادها لبيع الصحف. وربما كان الغرض تعميق مأساة "حميد" لأن ما سيحصله من دريهمات مغموس بالعذاب والإهانات المتكررة رغم أنفه، وهذا ما تنضح به الرواية. حميد لا يدخّن ولا يسكر؛ أمّا ما ورد على لسان "الرئيس" فيبرز تصوره لمن هم على شاكلة حميد، علاوة على ما تقدم. عن ضرب الأمهات: ورد في سياق تزويد "حميد" أبويه بحصيلة يوم من العمل الشاق المهين كما يلي: "أخرج حميد تلك القطع النقدية الصفراء والبيضاء، بسطها بكل أمانة أوّل الأمر، لم ينفق منها شيئاً خفية كما سيفعل فيما بعد. الأب يحصي القطع النقدية والأم تتظاهر بعدم الاهتمام (...) انتهى الأب من العد، ظهر في عينيه بريق، ابتسم حتى ظهرت أسنانه القذرة والسوداء من كثرة التدخين، كأسياخ الحديد، رأت الزوجة ذلك فنقلت بصرها بين حميد وبين أبيه، قالت: -الله ! شيء خير من لا شيء./ - في هذا خير وبركة، قال الزوج. وقالت الأم: -قلها لنفسك. لو أنك تفعل مثل أسيادك؛ تستيقظ مبكراً وتذهب إلى الميناء، تأخذ مكانك بين الحمّالين وتعود في المساء بثروة./ - أنت لا تعرفين الميناء، لا يصلك الدور إلا بالرشوة أو إلا إذا كنت قوية كجمل./ - انظر إلى كتفيك إنهما مثل كتفي بغل./ - يا بنت الناس ما عندي صحة. ثم إننا لا نريد أن نتشاجر الليلة، اهتمي بتهيئة شايك". بُعيْد هذا الحوار يقول السارد: "لم يتدخل حميد، لأنه لا يمكن له أن يتدخل، وعندما يتدخل في مشادات كلامية مثل هذه، ينهالان عليه ضرباً، هو ليس مثل أصدقائه من أبناء الحي الذين يضربون أمهاتهم حتى يسيل الدم من أنوفهن. كان يعتقد أن ذلك عيب ولا يرضي الله. لم يكن يحب المغامرة. أولئك عندما كانوا يرتكبون مثل تلك الفضائح يستطيعون أن يتغيبوا مدة شهر عن عائلاتهم (...) حميد لم يكن من ذلك النوع. لم تقع له أبداً مشادة كال فيها لأمه ضرباً. وإن كان، في العمق، يريد أن يفعل ذلك. لكن هناك أشياء تمنعه من فعل ذلك". ما أوردناه بخط بارز هو ما استشهد به كاتب المقال، أما ما تحته خط فهو ما حذفه ليستقيم له "الاتهام". ضرب الأم في عرف حميد "عيب ولا يرضي الله" وحتى حين يرغب في ذلك "هناك أشياء تمنعه من فعل ذلك". أما من فعلوا ف"يظلون يعيشون من مزابل المدينة وينامون في الحدائق العمومية وتحت أبواب العمارات، حتى تلتقطهم في نهاية المطاف سيارات الشرطة أو تطاردهم أثناء حملة تنظيف المدينة من أمثالهم. إذ ذاك يعودون، وتكون الأم قد نسيت ما وقع لها...". هل هذا هو الحياد الإيجابي؟ على افتراض أن على الرواية أن تتبنى موقفاً معلناً ?على رؤوس الأشهاد- من الأحداث والوقائع التي ترد فيها. عن العبارات السوقية التي "تعطي صورة سيئة للعلاقة بين الزوجين، مثل مناداة الزوجة لزوجها بالبغل والحمار" : لا علاقة بين هدا والعلاقة بين الزوجين، وإنما هو كلام كان الوالدان يخاطبان به ابنهما حميد قبل أن "يعمل". وقد ورد قبل ذلك ما يلي: "جرّت الأم الصينية، توقفت عن مناوشة الزوج، أخذت تصب الشاي في الكؤوس. قطع الأب الخبزة إلى عدة كسر أمامه، جرّ طبق الزيتون. وهذه المرة دون أن ينظر نظرة شرسة إلى حميد. قدم له الخبز والشاي كما يقدمه لضيفٍ صديق. في السابق، كان حميد يلعن تلك اللحظة التي سيتناول فيها الطعام". لقد تغير سلوك الوالدين إزاء حميد لأنه أصبح "يعمل" ويقدم لهما عرق جبينه اعترافاً بأفضالهما وبراً بهما. الكلام الذي يلي، وهو ما استشهد به كاتب المقال دليلا على الصورة السيئة للعلاقة بين الزوجين، كان الوالدان "يشنفان" به أسماع حميد "في السابق"، كما جاء في قول السارد، أي قبل أن يصبح له "دخل". ولذا ورد بعد ما وصف به الوالدان حميد ما يلي: "أحياناً، عندما كان حميد يسمع مثل هذا الكلام يفضل ألا يأكل بتاتاً. (...) الركل والصفع من إنسان أجنبي فيه بطولة، خصوصاً إذا كان رجل سلطة، وهو خير من ذلك الشتم الذي يسمعه من أمه وأبيه. الآن يأكل حميد دون أن يشعر بمرارة ما سيأكل، لقد أدى الثمن. تلك النقود المعدنية البيضاء والصفراء استطاعت أن تحميه". نستنتج مما تقدم أن المقطع لا علاقة له بالصورة السيئة للعلاقة بين الزوجين. ونعتقد أن سوء الفهم ناتج عن التسرع في الحكم، وعدم العناية بالمؤشرات الزمنية في السرد. عن تكريس صورة سيئة للمرأة المغربية: لا يمكن فهم هذا الذي استشهد به إلا في سياق الشخصيات التي يصدر منها؛ وهي مغلوبة على أمرها تردد أمثالاً شائعة مازالت تكرّر في حياتنا اليومية، للأسف. عن إغراء الشباب بالتدخين: ورد المستشهد به في سياق حوار بين حميد وزميله-صديقه الضاوي على الشكل الآتي: "أخرج الضاوي سيجارة، أشعلها وهو يلوك قطعة العلك. جذب أنفاساً عميقة منها ثم مدها لحميد: - هل تدخن؟/ - متى رأيتني أدخن؟ هل تمزح؟/ -دخن. هل ستظل مثل عذراء طاهرة./ - لا يمكن أن أدخن. إني أسمع كلام الوالدة./ -يلعن أبوك... لقد كانت أمي دائماً تقول لي إذا دخنت فإني سأدعو الله أن يدخلك إلى الجحيم. أنا أريد أن أدخل إلى الجحيم مع بريجيت باردو ومارلين مونرو. هل تعرفهما؟/ - لا./ -يجب أن ترى كم هما جميلتان في السينما إنهما من الكفار الذين يدخلون جهنم./ - إنك كافر. وهذا عار عليك." تعليقنا على هذا الحوار هو أنه ليس دعوة تغري الشباب بتعلم التدخين هكذا على الإطلاق، وإنما هي دعوة من أحد شخصيات الرواية لشخصية أخرى تعرض عليها المشاركة في التدخين، ولكنها رفضت ذلك رفضاً قاطعاً؛ هذا علاوة على الحكم الذي أصدرته في حق كلام الضاوي عن رغبته في دخول جهنم. وهو ما أسقطه كاتب المقال من الحوار. لماذا؟ الله أعلم بالنيات. وعلى الجملة نرى في المقطع توازناً بين مقبل على التدخين وراغب عنه لاقتناعات محددة. هل كان على الروائي أن يذيّل الحوار الدائر بتحذير القارئ من التدخين لأنه يقتل؟ في هذه الحالة ستصبح الرواية علبة سجائر !! عن ورود مقاطع كثيرة في الرواية تشكك في الحكمة من حرمة أكل لحم الخنزير: يقول كاتب المقال "وفي الحوار الذي جرى بين الأمريكي وحميد بطل الرواية "- هل تريد هذا (يقصد سندويتش من لحم خنزير)/ ?لا آكله./ - لا يهمك، كلْه حتى تصبح سميناً مثلي، وبلغته (لقد حشوا رؤوسهم بأفكار فارغة، يجب أن تأكل حتى لا تظل نحيفاً مثل معزى)". أما سياق الكلام فهو الآتي: "كان أمام الأمريكي (سندويتش) من لحم الخنزير. قضم منه شيئاً. وترك بعضه فوق الفاصل الخشبي. أخذ حميد ينظر إلى بقايا (السندويتش). قال لحميد: -ألم تأكل؟ هل تريد هذا؟/ - قال حميد: -هل هو لحم الحلوف؟/ -نعم./ لا آكله./ -لا يهمك. كلْه حتى تصبح سميناً مثلي. وبلغته: -(لقد حشوا رؤوسكم بأفكار فارغة. يجب أن تأكل حتى لا تظل نحيفاً مثل معزى). أمسك الأمريكي (السندويتش) وحاول أن يدسّه في جيب حميد بالقوة وهو يضحك. ?يجب أن تأكل./ -طيب سآكله عندما أخرج./ - لا، كلْه الآن أمامي./ تناوله حميد، وعضّ منه قطعة صغيرة. أخذ يلوكها أمام الأمريكي. ضرب هذا الأخير على كتفيه: - فيري كود! يجب أن تأكل، سوف تصبح قوياً ورجلاً في بضعة أيام". ثم يروي السارد ما حدث بعد ذلك: "عندما غادر حميد (البار)، بصق ما في داخل فمه بتقزز، وطوّح (بالسندويتش) في الساحة الصغيرة أمامه. انفصلت شرائح اللحم عن الخبز وتشتت، ورأى طفلين مشردين، يركضان، يتخاطفان (السندويتش) من الأرض. أخذا يلتهمانه بنهم وصرخ فيهما حميد: - إنه حرام. إنه لحم الحلوف. لا تأكلاه". وتأسيساً على ما تقدم يتضح أن الواقعة شارك فيها ثلاثة أطراف الأمريكي (النصراني، كما وصفه حميد) الذي يأكل لحم الخنزير، وحميد المسلم [وقد شدد على ذلك في حوار آخر سابق دار بينه والأمريكي وهو يدعوه إلى تناول الخمر : "أشار حميد برأسه أن لا. لكن الأمريكي خاطبه بالعربية: -لا تريد؟/ -لا./ -لماذا؟/ -أنا مسلم/ -قل أنا صغير"] الذي لا يأكل لحم الخنزير مقاوماً إغراء الأمريكي؛ والمتشردون الذين أكلوه لأن بطونهم فارغة تئن من شدة الجوع (أليس الجوع كافراً؟ في عرف المغاربة) لا حباً في لحم الخنزير؛ وقد حاول حميد ثنيهم عن ذلك لأنه حرام. وهنا أيضا رؤيتان تصارعتا فخرج حميد منتصراً بحكم القيم الدينية التي يؤمن بها. فعن أي تشكيك في الحكمة من حرمة لحم الخنزير يتحدث كاتب المقال. إنما هو فصل الكلام عن سياقه. عن تضمن الرواية مقاطع محايدة إزاء الخيانة الزوجية وشرب الخمر: ورد في المقال ما يلي شاهداً على التهمة:"-لا شك أنك تشاجرت معها. تعال فرّج عن نفسك. / أخرج [أحدهم سماه السارد "شبح رجل تعرف عليه الزوج"]من تحت سترته زجاجتي نبيذ رخيص./ -تعال إن معي امرأة./ -قال الحسن: لا أرغب في ذلك. أريد أن أنام./ -ذاك شغلك.ثم اختفى في الظلام". هذا الحوار سياقه مغادرة الزوج البيت غضبان من اقتراح زوجته بناء "براكة" في الحوش استعداداً لتزويج حميد؛ وفي أثناء ذلك لمح شبح رجل... هنا أيضاً موقفان: رافض للزنى وشرب الخمر وموقف مقبل عليهما معاً. وفي جميع الأحوال لسنا ندري ما الذي أوحى لكاتب المقال بحدوث الخيانة الزوجية. اللهم إن كان على علم بما حدث أو سيحدث، أي شاهداً عاين الواقعة !! وفي هذه الحالة نقترح عليه كتابة "استدراك على ما فات الروائي". وقس على هذا ما تبقى من الاستشهادات التي ساقها "للبرهنة" على "الجرائم" التي ارتكبها الروائي. القسم الأخير من المقال قلنا "ملخص" للرواية، أو قل ما اعتبره كاتب المقال ملخصاً. أما بعد، فالرواية تتألف من اثني عشر فصلاً، ومجموع صفحاتها خمس وثمانون من القطع المتوسط (منشورات وزارة الشؤون الثقافية 1999؛ محمد زفزاف، الأعمال الكاملة؛ الجزء الثاني: الروايات (ص.ص. 81-165). ومن المجحف، في رأينا، إصدار حكم الإعدام عليها اعتماداً على جمل مبتورة من سياقاتها من ناحية؛ ومعاملتها من ناحية ثانية معاملة بيان أصدره دعاةٌ إلى الرذيلة. والحقيقة أن الرواية مليئة بالأحداث والوقائع القابلة للاستثمار في الفصل الدراسي نذكر منها: السكن غير اللائق وتأثيره في العلاقات بين الأولاد وآبائهم، وبين المقيمين في "الكاريان" عامة، وعواقب ذلك من الزوايا الاجتماعية والنفسية والأخلاقية...؛ الأصول الاجتماعية لشخصيات الرواية وعلاقة ذلك بمصائرهم؛ سبب وجود القاعدة الجوية الأمريكية حيث هي وتأثير ذلك في القاطنين بجوارها، وتاريخ قيامها وتفكيكها؛ علاقة الرشوة بتوسع السكن غير اللائق وانتشاره؛ الشطط في استعمال السلطة وعواقبه الوخيمة؛ القيم الاجتماعية وتحولاتها وأسباب ذلك؛ الهجرة القسرية من البوادي إلى الحواضر وأسبابها ونتائجها؛ النفاق الاجتماعي وتجلياته في سلوك الأفراد والمؤسسات؛ لغة الرواية (أو لغاتها) بحكم تعدد خلفيات الشخصيات وتنوعها؛ ما هي اللغة السوقية؟ وهل هي مجانية في الرواية أم تراها لازمة لشخصياتها؟ هل هي من اختيار الأفراد أم هي متصلة بقساوة عيشهم وإحساسهم اليومي بالظلم والاحتقار والعيش على هامش الهامش؟ ألشخصيات الرواية أحلام؟ ما هي؟ هل هي قابلة للتحقق في ظل الظروف التي يحيونها؛ الصفات والنعوت التي نعت بها حميد من قبل عدد من شخصيات الرواية بدءاً من الفصل الأول حتى الأخير، لماذا؟ علامَ ينمّ ذلك؟ الصفات التي وصف بها السارد مسكن أسرة حميد وملابسها وفراشها وأكلها...ما دلالة ذلك؟ أعتقد أن الأساتذة الذين يدرّسون هذه الرواية بإمكانهم مساعدة التلاميذ على تتبع القضايا الجوهرية المطروقة في الرواية ومساءلة الشخصيات وأوضاعها، والاهتمام بأساليب الحكي وأصنافه وباقي مظاهر السرد. ونحن على يقين من أن الكثرة منهم تفعل. وفي ذلك حوار حقيقي بين التلاميذ ومجتمعهم البشري الذي لا يخلو من الظواهر المسرودة في هذا العمل الروائي. وعلى من يظن أن تلاميذنا يتميزون بهشاشة لا نظير لها أن يفتح أمامهم فرصة التعبير عن آرائهم، وعند ذاك سوف يكتشف أنهم مسكونون بأسئلة غالباً ما يُختزل الجواب عنها بقول بليد "ملّي تكبر غا تعرف". وأخيراً، لست أدري ما الذي أغضب كاتب المقال من الرواية، والحال أن بطلها ذو سلوك قويم طوال أحد عشر فصلاً؛ وهذا بيانه: لم يتمكن الأمريكي من إقناعه بشرب الخمر؛ لم يتمكن الأمريكي من إقناعه بأكل لحم الخنزير؛ يمتنع عن التدخين نزولاً عند نصائح أمه؛ لا يعرف مارلين مونرو ولا بريجيت باردو، ولا يعرف السينما؛ رؤوف بأمه لا يغضبها ولا يرفض لها أمراً، ولو تعلّق بالزواج؛ يسلم لوالديه مدخوله اليومي على قلّته؛ يقضي ليله في الطواف على أماكن لم يختر ارتيادها لولا البحث عن لقمة العيش؛ لا يظلم أحداً ولا يحب الظالمين؛ متشبث بإسلامه الذي حرم عليه شرب الخمر وأكل لحم الخنزير؛ يرغب عن ممارسة الجنس خارج مؤسسة الزواج، ولذا وافق على اقتراح أمه بالزواج من "فيطونة". حميد يقاوم الانحراف بشراسة ولم يستسلم إلا في الفصل الأخير من الرواية، أي أنه ظل على اقتناعاته طوال أحد عشر فصلاً يناضل ويقاوم من أجل غاية واحدة هي "محاولة العيش" بكرامة؛ ولكن الظروف أقوى وأعتى من سنِّه وخبرته. مازال فتى بدأ معركة الحياة مرغماً من السادسة عشرة من عمره وانهار في الثامنة عشرة بعد أن تكالبت عليه المحن من كل جانب. ولذا رفقاً بحميد لأنه علاوة على ذلك شخصية من ورق، بالمعنى الأدبي للكلمة. والله أعلم. حرره العبد الفقير إلى ربه محمد خطابي يوم 28 شتنبر 2009 بأكادير المحروسة حاشية: ختاماً، وعوداً على بدء، كلّي شوق إلى قراءة الجزء الثاني المستدرك به على الرواية؛ وليكن العنوان - هو اقتراح ليس إلا-«محاولة عيش، مزيدة ومنقّحة» طبعة 2009. ولله الأمر من قبل ومن بعد.