في عموده بجريدة بيان اليوم بتاريخ 10/1/2008 تناول الأستاذ أحمد عصيد موضوعا بالغ الأهمية والحساسية ، ويتعلق بتوضح الرؤية في موضوع علاقة الأخلاق بالدين ، والخطأ الذي يقع فيه الكثيرون عن طريق الخلط بين الدين والأخلاق حسب تعبيره وإذا كان هذا الموضوع محط نقاش علمي قديم بين الفلاسفة وكذا بين علماء الفكر الإسلامي في قضية التحسين والتقبيح بالعقل ( المعتزلة والأشاعرة ) فإن ذلك لم يدفع بأي أحد منهم (حتى فلاسفة اليونان الذين يؤمنون باللاهوت ) إلى ادعاء الفصل بين الدين والأخلاق لأنهم بكل بساطة لم يفصلوا بين العقل والدين أصلا بل اعتبروهما على خلاف في التقديم والتأخير مصدرا للمعرفة يتكاملان ولا يتناقضان خاصة حين يتعلق الأمر بالعقل الخالص وليس بالإديولوجيا العقلانية التي تبالغ في تقديس العقل ، وبالدين الخالص وليس بالإديولوجيا الدينية . وبالعلمية وليس بالإديولوجيا العلمانية . وإذا كان الأستاذ عصيد قد عاب على الكثيرين وقوعهم في الخلط بين الدين والأخلاق (إذ عنون مقالة ب ( الأخلاق والإديولوجيا الدينية ) وفي بداية المقال يقول ( يقع الكثيرون في خطإ الخلط بين الدين والأخلاق ) ، فإنه سقط في ماحذر منه حين خلط بين الدين والإديولوجيا الدينية ، والعقل والإديولوجيا العلمانية ، فانعكس ذلك على المقال برمته ، حيث حمل الدين تبعات ممارسات يمكن أن تكون قد وقعت في التاريخ ، واعتبر الخلاص من نلك يكمن في حسم الاختيار ( كما صنعت الدول المتقدمة في اتجاه مسلسل العلمنة ) واستنتج من كل هذا الخلط قاعدة تقول بضرورة الفصل بين الدين والأخلاق ( لأن المنظومة الدينية - حسب رأيه- يرافقها دائما صخب وجلبة كما تقع غالبا بين أيدي الغوغائيين الذين يوظفونها في مآرب شتى ) فيكون بذلك كمن يحرم بيع السكين لأنه قد يستخدم في جريمة قتل وبعد التنبيه على هذا الخلط ، وسعيا إلى الارتقاء بالنقاش إلى مستوى أعمق ، فإننا نود أن نبدي وجهة تظرفي علاقة الدين بالأخلاق ودور العقل في ذلك حتى لا يقع الخلط مرة أخرى ويكون هناك وضوح في المواقف ، فالأخلاق والقيم في عمومها مطلقة وإنسانية وكونية بامتياز تتنفس في فضاء واسع يتجاوز الإيديولوجيات والديانات ، تستفيد منها ولا تنحصر فيها كمالا تنفصل عنها كما سيأتي بيانه ، فلا يوجد في العالم عاقل سوي لا يحب الحرية لأنها قيمة مطلقة كما لا يوجد في العالم عاقل سوي من يقدس أفعال الشواذ والمومسان لأنها مستنكرة بالعقل والفطرة - بغض النظر عن الجانب القانوني- ، مهما كانت معتقداته وقناعاته ، ولكن الدين سواء كان سماويا أو وضعيا ، وأية إيديولوجيا قد تكون علمانية أو إلحادية ، دورها الأساس أن تعطي لهذه القيم المطلقة مفهوما معينا وتحولها إلى تجليات تطبيقية في الواقع فتمدها بآليات ووسائل الانتشار والتجذر في السلوك ولذلك قال الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) الموجود بعضها بالفطرة لدى المشركين حتى وهم يعبدون الأصنام ، وإتمامها يكمن هو تحديد وتصحيح المفاهيم وإقناع الناس بها ( أي بهذه المفاهيم) أما القيمة في أصلها فموجودة رغم اختلاف المعتقد . وبذلك تتضح العلاقة الجدلية للقيم بمرجعياتها وأنها بدونها تبقى بدون معنى ولا أثر، وقد أشار الأستاذ عصيد إلى شيئ من هذا حين تحدث عن ( معاني ) الفضيلة والكرامة وماهيات الخير والشر فهو بذلك لا يتحدث عن القيمة وإنما يتحدث عن معانيها ومفاهيمها وذاك بالضبط هو دور الدين ويمكن أن يكون دور أي إيديولوجيا مادية ،، والحوار في نهاية المطاف بين مختلف الأطراف يكون في تحديد وتوضيح المفاهيم وليس في طبيعة القيم ، وذاك هو العمق الحقيقي للنقاش ( فنحن لا نناقش الحرية مثلا كقيمة بقدر ما نناقش مفهومها وهذا المفهوم تحدد المرجعية وهو ما يعني استحالة الفصل بينهما) وبذلك يتضح أن الدعوة إلى الفصل بين القيم والمرجعيات لا يعدو أن يكون هروبا إلى الإمام حين تتضح قوة مرجعية معينة وضعف مرجعية أخرى أو حين يعجز أصحاب مرجعية معينة عن تسويع رؤيتهم إنطلاقا من مرجعيتهم وإقناع الناس بها ، وبذلك تكون دعوى الأستاذ عصيد إلى تجريد القيم من مرجعيتها الدينية واعتماد خيار الإديولوجيا العلمانية هو مجرد انتقال من مرجعية إلى أخرى - ولا علاقة لذلك بدعوى الدفاع عن العقل ، فليس الحل في نظرنا في الدعوة إلى الفصل بين القيم ومرجعياتها سواء الدينية أو العلمانية وليس من العيب أن يكون الإنسان صريحا في مواقفه واختياراته أنما العيب أن تتستر الإديولوجيا الدينية بالدين وتتستر الإديولوجيا العلمانية بالعقل ، في حين أن السؤال الحقيقي الذي يحتاج إلى نقاش علمي عميق هو أي المرجعيات أقدر على ترسيخ القيم في المجتمع ومن يستطيع تحويلها إلى مشروع مجتمعي ينخرط فيه الناس ويدافعون عنه ، لكن بشرط أن تتحدد المواقف وتتمايز بدون احتماء ولا تخفي فشرط الحوا ر العلمي كما يقال وضوح المنطلقات والمرجعيات .