يمكن القول، حتى هذه اللحظة، استناداً إلى تطورات السنوات العشر الماضية، إن إيران باتت القوة الإقليمية العظمى التي تحاصر الجميع في المنطقة وتربك حسابات العالم الغربي، والولاياتالمتحدة على وجه التحديد، وتشكل تهديداً وجودياً بالنسبة إلى إسرائيل، والفضل في ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى إتقانها فن المناورة، وتطوير قدراتها العسكرية وطموحاتها النووية، ووجود قيادة تعتمد التحدي وأسلوب الصدمة وعنصر المفاجأة في تعاطيها مع القوى الإقليمية والعالمية الأخرى. في الأيام العشرة الماضية، فاجأت إيران العالم مرتين: الأولى عندما كشفت، مضطرة، عن مفاعل نووي جديد بنته وسط جبل قريب من مدينة قم، يمكن أن يستوعب ثلاثة آلاف وحدة طرد مركزي لتخصيب اليورانيوم، والثانية عندما أطلقت مجموعة من الصواريخ مختلفة الأوزان والأحجام والأبعاد في إطار مناورات عسكرية، من بينها صاروخ «شهاب 3» بعيد المدى (2000 كيلومتر) قادر على الوصول إلى أهداف في العمق الإسرائيلي. هذه المناورات وصواريخها تأتي ردا على التهديدات والمناورات الإسرائيلية، في تزامن مع قرب انعقاد الجولة الحاسمة من المفاوضات بين الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي زائد ألمانيا مع إيران لبحث برنامجها النووي، وكأن إيران تقول للثالوث الأمريكي البريطاني الفرنسي الذي يقرع طبول الحصار ضدها (وربما الحرب بعد ذلك) إنها غير عابئة بكل التهديدات، ومستعدة للمواجهة إذا ما اضطرت إليها. الولاياتالمتحدةالأمريكية تلوّح بسلاح الحصار الاقتصادي الخانق لأنها تخشى المواجهة العسكرية وتبعاتها المرعبة، أو بالأحرى لا تريد اللجوء إليها في الوقت الراهن على الأقل، ولكن هذا الحصار، ومهما كان شرساً، من الصعب أن يحقق أهدافه في إجبار القيادة الإيرانية على الرضوخ للشروط والمطالب الغربية بالتخلي عن طموحاتها النووية بشقيها السلمي والعسكري. إيران تعيش حصاراً جزئياً مفروضاً من الولاياتالمتحدةالأمريكية ودول غربية أخرى منذ سنوات، أي أنها «متعودة» على مثل هذه الحصارات وتملك خبرة طويلة في مقاومتها واختراقها، ولعل أعنفها كان أثناء الحرب العراقية الإيرانية، التي استمرت أكثر من ثماني سنوات، مضافاً إلى ذلك أن الحصار الذي فرضته الولاياتالمتحدة والغرب على نظام الرئيس صدام حسين، واستمر أكثر من ثلاثة عشر عاماً، ألحق الأذى بالشعب العراقي ولم ينجح مطلقاً في إيذاء النظام أو إطاحته. فالظروف الجغرافية الإيرانية أفضل كثيراً من نظيرتها العراقية، مما يجعل أي حصار ضد إيران محدود الأثر؛ فإيران محاطة بثلاث دول فاشلة، محكومة من قبل أنظمة لا تسيطر على حدودها، وهي أفغانستان وباكستان من الشرق، والعراق من الغرب؛ أما دول الشمال، مثل أذربيجان وتركمانستان، فهي متعاطفة إلى حد ما مع إيران، وعلينا ألا ننسى أن النفوذ الإيراني في العراق هو الأقوى من نظيره الأمريكي. صحيح أن الإدارة الأمريكية تبذل جهوداً كبيرة من أجل تشكيل تكتل دولي لإحكام الحصار الاقتصادي على إيران، وتوزع الهبات والمكافآت في هذا الصدد، مثل إقدامها على إلغاء مشروع الدرع الصاروخي في أوربا لكسب ود الاتحاد الروسي، والتلويح بحوافز اقتصادية مغرية للصين، ولكن هذا لا يعني أن الأهداف المرجوة سهلة التحقيق، وحتى لو كان الحصار محكماً وخانقاً بالفعل، فإنه لن يعطي ثماره إلا بعد سنوات، تطول أو تقصر، وعلينا أن نتذكر أن كل ما تحتاجه إيران لإنتاج أسلحتها النووية هو ثلاث سنوات فقط على أكثر تقدير. ومن المؤكد أنها تستطيع أن تتحمل الحصار وتبعاته لثلاث سنوات، إن لم تكن قد بنت حساباتها على هذا الأساس، وأخذت الاحتياطات اللازمة. الأنظمة العربية، والخليجية منها بالذات، ستجد نفسها جزءاً من التحالف الجديد ضد إيران، جنباً إلى جنب مع إسرائيل، سواء في شقه الاقتصادي أو العسكري إذا فشل الأول، وأصبح اللجوء إلى الثاني حتمياً نظراً إلى هذا الفشل. الأوربيون يتحدثون في صحفهم عن بدء كل من المملكة العربية السعودية والكويت ودولة الإمارات العربية المتحدة في استخدام سلاح العقود النفطية والصفقات العسكرية وسمات الدخول (فيزات العمل) لإغراء كل من روسيا والصين لتغيير مواقفهما المترددة بشأن الانضمام إلى جهود الحصار، والإيحاء لهما بأن مصالحهما الاقتصادية الاستراتيجية هي مع هذه الدول (دول الخليج) وليست مع إيران. فالمملكة العربية السعودية تتفاوض حالياً لعقد صفقة شراء أسلحة من روسيا تبلغ قيمتها ملياري دولار، هي الأولى والأضخم من نوعها، تطبيقاً لاتفاقية ثنائية جرى توقيعها العام الماضي، والهدف من هذه الصفقة ليس تعزيز القدرات العسكرية السعودية، لأن جميع التسليح السعودي أمريكي وغربي المصدر منذ سبعين عاماً، وإنما إقناع روسيا بعدم بيع إيران صواريخ (إس 300) المتطورة المضادة للطائرات. ومن المفارقة أن نتنياهو زار موسكو سراً من أجل الهدف نفسه قبل عشرة أيام. كما وافقت الكويت على إعادة جدولة الديون الروسية، وبدأت مفاوضات لشراء طائرات روسية حربية. أما نصيب الصين فهو مغر أيضا، فعلاوة على عروض سخية لشركاتها باستكشاف النفط، من المتوقع أن تمنح دول الخليج مجتمعة الصين أكثر من مليون فيزا لاستيعاب مليون عامل صيني في مشاريع مختلفة تنفذها شركات صينية، مما يساعد في تخفيف أزمة البطالة الطاحنة في الصين. جولة مفاوضات يوم الخميس المقبل في جنيف، بين إيران والدول العظمى الست، قد لا تختلف كثيراً عن الجولات السابقة، لأن الرئيس الإيراني أحمدي نجاد، الذي ينطق بلسان المرشد الأعلى علي خامنئي، قال إن الملف الإيراني خارج نطاق المفاوضات، ولأن القيادة الإيرانية تعلم جيداً بأن الإدارة الأمريكية، التي تواجه هزائم محققة في العراق وأفغانستان وانهيارا ماليا داخليا، تدرك جيداً أن الشعب الأمريكي غير مستعد لمساندتها في خوض حرب جديدة أكثر خطورة، وغير مضمونة النتائج. لا يخامرنا أدنى شك في أن الأسلحة الإيرانية تبدو بدائية جداً في مواجهة الأسلحة الأمريكية والإسرائيلية المتطورة جداً، و لكنها في الوقت نفسه ليست أكثر تخلفاً وبدائية من أسلحة طالبان، أو إمكانيات المقاومة العراقية المتواضعة، فبعد أكثر من ثماني سنوات من احتلال أفغانستان، وست سنوات من احتلال العراق ما زال التحالف الغربي عاجزاً عن حسم الأمور لصالحه. الأنظمة العربية تواطأت مع إدارة الرئيس بوش ودمرت العراق، فحصدت نفوذاً إيرانيا طاغياً، وتحالفت مع الغرب في الحرب على الإرهاب في أفغانستان فجنت أصولية أفغانية وعودة تنظيم «القاعدة» إلى ملاذه الآمن أكثر قوة، وفتحه فروعاً في قلب الجزيرة العربية والمغرب الإسلامي، علاوة على العراق والصومال. هذه الأنظمة عرضت مبادرة سلام مع إسرائيل التي تحتل الأقصى وباقي الأراضي الفلسطينية وتذل العرب على مدى ستين عاماً، فلماذا لا تعرض مبادرة مماثلة مع إيران الدولة المسلمة؟ الصواريخ الإيرانية بعيدة المدى لن تصل إلى باريس ولندن وواشنطن، وإنما إلى العواصم العربية الخليجية التي قد تنجر إلى هذه الحرب في حال اشتعالها، جنباً إلى جنب مع إسرائيل، وسنجد أنفسنا في مواجهة صراع مع الأمة الفارسية، دون أن نملك الأدوات اللازمة التي تؤهلنا له. أن تخشى إسرائيل من امتلاك إيران أسلحة نووية فهذا أمر مفهوم لأنها ستخسر احتكارها لها، وسيهاجر ستون في المائة من مواطنيها هلعا ورعبا إلى أماكن آمنة، حسب استطلاعات الرأي، وستجد نفسها في موقف تفاوضي أضعف في أي عملية سلمية؛ ولكن لماذا يخشى العرب أو بعضهم (السعودية والخليج) وهم ضعفاء أصلا لم يفكروا مطلقا في المستقبل؟ الأموال والقدرات الاقتصادية العربية الهائلة تستخدم فقط في مشاريع الهدم، لا البناء. هدم العراق، وتمزيق أفغانستان، وتدمير إيران بعد حصارها؛ لم نسمع مطلقا أنها استخدمت في بناء ترسانة عسكرية تحمي الأمة، أو قاعدة اقتصادية ضخمة وعصرية توفر ملايين الوظائف للعاطلين عن العمل. حتى نكون منصفين، قرأنا أخيرا عن بناء جامعة في السعودية، وكان الإنجاز عظيما إلى درجة أن سبعة زعماء وملوك وأمراء عرب وعشرات الوزراء والمسؤولين الكبار على الأقل، هرعوا لحضور حفل الافتتاح العظيم. كل هذا الرهط من أجل افتتاح جامعة في دولة لا تعترف بحرية البحث العلمي، ناهيك عن حرية التعبير!