بين الثروة والسلطة علاقة ليس مشبوهة فحسب وإنما مليئة بالألغاز والعبث بمصر وأهلها مثل كثير من الأمور التي ليس لها تفسير واضح في مصر، بدأ مسلسل عودة الهاربين بأموال الشعب المصري التي اقترضوها دون ضمانات من البنوك. يعود إلى الأضواء مرة أخرى من خلال الحوارات التلفزيونية والصحفية التي قامت بعض وسائل الإعلام المصرية، من تلفزيون وصحف، بإجرائها. الحورات أخذت أشكالا عديدة لكنها، في مجملها، أظهرت هؤلاء الذين وصفتهم نفس وسائل الإعلام هذه من قبل ب«اللصوص الهاربين بأموال الشعب»، أظهرتهم على أنهم إما أبطال أو ضحايا. كثير من هؤلاء كشفوا بعض الفضائح عن قصص هروبهم وكيف هربوا تحت سمع الدولة وبصرها، إما بجوازات سفر مزورة أو عبر البحر من خلال اليخوت التي يملكونها، وإما عن طريق أصدقاء لهم سهلوا لهم كافة الإجراءات رغم قرارات منعهم من السفر حتى أجلسوهم على مقاعدهم في الطائرات المتجهة بهم إلى أوربا، وتحديدا إلى الدول التي لا توجد بينها وبين مصر اتفاقات لتسليم المجرمين، وعلى رأسها بريطانيا، الملجأ الرئيسي لكثير منهم. ما توقفت عنده وأنا أتابع هذه القصص الهوليودية هو ما جاء بخصوص بعض المسؤولين في الحكومة، ولاسيما الوزراء، حول دورهم في ممارسة الضغوط على البنوك لمنح هؤلاء الأموال دون غطاء، أو الضغط على البنوك لعدم تسوية مديونية بعضهم، أو أشكال أخرى من أشكال التلاعب التي كانت ولا زالت قائمة بشكل أو بآخر بشكل يضر بمصالح مصر وشعبها. وقد قرأت ردا في عدد 5 سبتمبر من صحيفة «الأهرام» لرئيس الوزراء المصري الأسبق الدكتور عاطف عبيد والرئيس الحالي للمصرف العربي الدولي حول اتهامات له جاءت على لسان أحد رجال الأعمال الهاربين من مصر وهو عمرو النشرتي، المقيم في لندن، في حوار أجرته معه «الأهرام» في عدد السبت 22 غشت، وهذا هو محور موضوعي بغض النظر عما قاله الدكتور عبيد أو ما سوف يقوله غيره، فما يحدث الآن هو عملية تسوية لحسابات يمكن لرائحتها أن تزكم الأنوف بل تدمر حاسة الشم لدى المصريين، لو تم الكشف عن تفاصيل وحقيقة ما حدث فيها لأنها سوف تطال كثيرا من الرؤوس التي كان ولا يزال لها نفوذها وتأثيرها في القرار المصري، فالملف المالي للسنوات الثلاثين الماضية هو من أشد الملفات تعقيدا في المنظومة السياسية المصرية. وقد عبر لي أحد العارفين ببواطن الأمور في مصر عن الحجم المرعب للتلاعبات المالية التي وقعت في تلك الفترة بقوله: «إن حجم الفساد المالي الذي مورس في مصر خلال العقود الثلاثة الماضية أكبر من أن يتصوره عقل أو يدركه منطق، ولو علم الشعب المصري بحقيقة ما حدث ويحدث لأمواله ومقدراته لأصيب بشيء من الهذيان أو الجنون»، فقلت له: «وما تنشره الصحف المستقلة حول هذه الأمور؟»، قال: «لا يساوي شيئا من حجم الحقيقة؟ فالحقيقة أكبر من أن تتصور»؛ ثم تركني كي أتصور ما أشاء. وأذكر أني، قبل خمس سنوات، التقيت مع أحد المسؤولين العاملين في البنوك وسألته عما كان يدور من أحاديث في ذلك الوقت عن دور كبار المسؤولين في الدولة في عمليات تسهيل منح القروض بالمليارات لرجال الأعمال، سواء منهم الذين هربوا بما يقرب من 300 مليار جنيه تضاعفت قيمتها على مر السنين، أو الذين هم مدينون بمئات المليارات الأخرى ويقومون يوما بعد يوم بعمل تسويات أو ترتيبات أو إعفاءات من هنا وهناك، فقال لي: «أنا وكثير من زملائي نخشى أن نكون ضحية لكل هذا في النهاية وأن يكون مصيرنا السجن، فنحن إن رفضنا تنفيذ الأوامر دخلنا السجن، وإن نفذناها فإن مصيرنا سيكون وقت الحساب السجن أيضا». استرجعت هذه الروايات وأنا أتابع تلك الحلقة الجديدة من مسلسل عودة رجال الأعمال الهاربين بالمليارات وكل منهم يقول إنه سدد المليارات التي عليه، بل كل منهم يروي بحرية كاملة، ولوسائل إعلام مصرية رسمية، كيف هرب من مصر على يخته أو على طائرة خاصة أو من مطار القاهرة بجواز مزور أو بنفس جوازه مع تسهيلات كاملة في السفر، رغم أسمائهم المدرجة على قوائم الممنوعين، بل إن «الأهرام» نشرت في عدد 5 سبتمبر أن تعليمات صدرت من النائب العام المصري بتسهيل عودة الهاربين دون القبض عليهم في المطارات. الزميل أحمد النجار، رئيس تحرير التقرير الاقتصادي الاستراتيجي الذي تصدره مؤسسة «الأهرام»، أصدر كتابا هاما حول 25 عاما من التراجع الاقتصادي الذي حدث في عهد الرئيس مبارك، استند فيه إلى التقارير الرسمية فقط دون الخوض في المعلومات غير الرسمية. ولأن الشعب المصري لا يقرأ، فإن ما نشر في هذا الكتاب كفيل بأن يكشف عن حقائق مرعبة تشير إلى أن ما خفي كان أعظم، وأن مقدرات هذا الشعب ومقدرات مصر يُعبث بها بشكل مريع، وأن هذا الفصل الذي نشاهده جميعا من مسلسل عودة الهاربين ليس سوى صفقة من بين مئات الصفقات التي دمرت اقتصاد مصر وثروتها وقوت شعبها، وأن كل الذين ساهموا في هذه الجريمة كوفئوا بمناصب رفيعة تدر عليهم الملايين كل شهر وحماية كاملة من النظام، وجعلت علاقة التزاوج بين الثروة والسلطة علاقة ليس مشبوهة فحسب وإنما مليئة بالألغاز والعبث بمصر وأهلها؛ هذا العبث الذي لا ندري هل ستكشف تفاصيله يوما ما كما يكشف رجال الأعمال الهاربون فصولا مخزية عن قصص هروبهم وتهريبهم للمليارات خارج مصر برعاية كاملة من حلفائهم وأصدقائهم المتنفذين أم إن هذا النظام سوف يستمر من خلال التوريث إلى أجل غير معلوم لتدفن كثير من الحقائق وتستمر الحماية للصوص الذين ينهبون خيرات الشعب ومقدرات مصر. غير أن ثقتنا راسخة في أبناء مصر الشرفاء الذين يعرفون هذه الحقائق ليكشفوا عنها يوما ما ومن ثم ليمنحوا هذا الشعب حقه ليس في استرجاع ما نهب فحسب وإنما أيضا في المعرفة، معرفة ما تم نهبه وسلبه من قوته وخيرات بلاده، أما الحساب فيبدو أنه سيكون، في ظل اليأس القائم، يوم الحساب.