عرف المغاربة عبد الله ابراهيم كرئيس لأول حكومة وطنية بعد الاستقلال، لم تدم سوى سنة واحدة، من 1959 إلى 1960، لكنها رغم ذلك تعد أشهر حكومة في تاريخ المغرب السياسي. ورغم اعتزاله العمل السياسي، فإنه ظل وفيا لمبادئه الوطنية الصادقة ومتتبعا لما يجري من حوله من قضايا وأحداث فكرية وسياسية، لكن كل هذه الانشغالات لم تبعده عن أبنائه، سواء من صلبه أو من طلبته، ولم تنسه حبه الموسيقى الكلاسيكية والغربية، ولم تقتل بداخله روح الدعابة إلى درجة أنه ظل حتى آخر أيام حياته لا يتوانى عن إضحاك من هم حوله. الحوار التالي مع ابنه طارق عبد الله ابراهيم يكشف لنا بعض المحطات من مسار رجل وطني، وبعض التفاصيل المجهولة في حياته. - قضى والدكم عبد الله ابراهيم فترة شبابه الأولى في مراكش من حيث يتحدر. هل كان يحدثكم عن طفولته ونشاطه السياسي المبكر؟ > كان الوالد يحدثنا باستمرار عن بداياته في العمل السياسي، وروى لنا كيف تم اعتقاله 24 ساعة في كوميسارية جامع الفنا، عندما كان عمره لا يتجاوز إحدى عشر سنة من طرف كولونيل فرنسي. وفي الثانية عشرة من عمره بدأ يكتب مقالات لا زلنا نحتفظ بها إلى غاية اليوم، ولم يسبق له أن نشرها، كما لم يطلب منا عدم نشرها. لذلك ارتأيت أن أنشرها في سيرته الذاتية. قصة زواجه - كيف كان لقاؤه بالسيدة الوالدة؟ > التقيا أثناء قيامهما ببعض الأنشطة في مجال محو الأمية، وبحكم أن والدها كان كذلك رجلا وطنيا فقد جمعتهما ظروف النضال والكفاح فتزوجا. وقد كان والدي، رحمه الله، يحثها دائما على أن تكون لها مواقفها المستقلة من كل القضايا السياسية والاجتماعية المطروحة آنذاك، كما كان يشجعها على أن تبلور مواقفها وتعبر عنها من خلال مقالات في بعض الصحف، وبالمناسبة فإنني لازلت أحتفظ ببعض الرسائل التي كان يكتبها لها من داخل السجن، والتي تتضمن مشاعر قوية. لكنها كانت كذلك عبارة عن دروس في التاريخ والوطنية والسياسة، وقد فكرت في نشرها كذلك. - من كان أقرب أبنائه إليه؟ > لا يمكنني أن أقول إن أحد أبنائه كان هو الأقرب إليه، لأننا كنا سواسية عنده. - هل كانت له طقوس معينة في الكتابة أو القراءة؟ > نعم. فإذا كان يكتب شيئا ما كنا مضطرين في طفولتنا للالتزام بالهدوء. صحيح أننا لم نكن نتفهم هذه الأمور، لكن عندما كبرنا أصبحت مصدر فخر واعتزازا بالنسبة إلينا، خاصة في ما يتعلق بطريقته في تصحيح أوراق امتحانات الطلبة، حيث كانت هذه الأوقات أكثر اللحظات صرامة داخل البيت، وبسبب ذلك كان يضطر أحيانا للسهر حتى ساعات متأخرة من الليل، وأحيانا كان يظل منهمكا في تصحيح الأوراق حتى الفجر. وعندما كبرت احترمت فيه هذا الأمر الذي برهن أي على أنه أنه شخص مسؤول، يعمل بضمير وإخلاص. أما بخصوص القراءة فإنه لم يسبق لي أن رأيته يوما وهو لا يقرأ كتابا ما. وفي هذا الصدد أذكر أنني رافقته ذات مرة إلى مراكش، وكان يفترض أن يقضي شهرا كاملا هناك. وقد أخبرني بأنه لن يحمل معه كتبا لأنه يريد أن يرتاح، لكن عندما وصلنا فوجئت بحقيبة ملابسه وقد امتلأت عن آخرها بكتب لهيجل وسبينوزا ودواوين شعرية، ولما سألته لم حمل هذه الكتب معه أجابني قائلا: «هذه كتب تريحني». - ما هي المواقف التي أغضبتك منه؟ > لم يسبق لي أن غضبت منه. قد يحدث أن نتناقش حول أمر ما ونختلف فيه، لكن في اليوم التالي يأتي إلي ويحدثني بشكل عادي وكأنه لم يحدث شيء، وقد كان ينتظر مرور بعض الوقت لفتح باب النقاش من جديد ورفع اللبس أو سوء التفاهم. لقد كان رحمه الله لا يترك الأمور هكذا دون أن يحسم فيها، لأنه كان رجل حوار وتواصل بامتياز. لكن هناك بعض الأشخاص الذين قطع صلته بهم بشكل نهائي. - من هم هؤلاء الأشخاص؟ > كان يقطع صلته بأي شخص يخون الأمانة والمسؤولية التي تحملها. - ما هي الأمور التي لم يمهله الوقت والظروف لإنجازها؟ > أخبرني ذات مرة أنه لو أتيحت له فرصة العودة إلى الوراء لخصص بعض الوقت لدراسة العلوم والرياضيات. عاشق موزارت وبتهوفن - ماذا كانت هواياته المفضلة؟ > بالإضافة إلى القراءة والكتابة التي كانت طقسا يوميا، كان والدي رحمه الله، يستمع للموسيقى، وكان محبا لمحمد عبد الوهاب والموسيقى الكلاسيكية الغربية، من موزارت وبيتهوفن وباخ وغيرهم. وأذكر بهذا الخوص أنه كان يطفئ الأضواء ويطلب منا ونحن صغار أن ننصت للموسيقى الكلاسيكية، وبعد الانتهاء من الاستماع يسألنا بماذا كانت توحي لنا تلك الألحان التي استمعنا إليها، ثم ينخرط في إعطائنا بعض الدروس عن تاريخ الموسيقى والفن. وحتى أثناء أسفارنا لم يكن يفوت فرصة إلا وأعطانا لمحة عن تاريخ المنطقة التي نتواجد فيها، وكمثال على ذلك فخلال زيارتنا لمدينة غرناطة حدثنا عن حكم المسلمين في الأندلس وسقوط هذه الإمارة إلخ. لقد كان يرفض أن نبقى مكتوفي الأيدي دون أن نفعل شيئا، وكان يحثنا على استغلال كل دقيقة للقيام بعمل مفيد. - كيف كانت علاقته بطلبته، خصوصا وأن بعضهم كان يتحفظ من صرامته في وضع النقط؟ > كان بيتنا يعج بالطلبة، سواء تعلق الأمر بطلبة الطب زملاء شقيقتي أو طلبته. لقد كان صارما بالفعل، لكنه كان يشرح للطلبة المستائين من نقطهم سبب حصولهم على تلك النتائج. وقد كان يحدث أن أذهب معه الى الجامعة، خاصة في السنوات الأخيرة وأضطر إلى انتظاره ساعة أو أكثر، وعندما أبحث عنه أعثر عليه محاطا بالطلبة. - كيف كان يعيش أيامه الأخيرة باعتباره سياسيا لا يفوت فرصة للإفصاح عن مواقفه مما يجري من أحداث؟ > لقد بقي والدي متتبعا لما يجري داخل الساحة السياسية إلى آخر يوم في حياته. وقد كانت له مواقف جد إيجابية من السياسة بشكل عام، بحيث كان يقول لنا دائما: «إذا لم تكن تمارس العمل السياسي فهو يمارس عليك». - لكنه اعتزل العمل السياسي منذ سنوات طويلة ولم يعد فاعلا؟ > كانت لوالدي مواقفه الخاصة من الحياة السياسية والمشاركة فيها، وقد كان دائما يعبر عنها بوضوح وشفافية، لكن ذلك لم يمنعه من أن ظل متتبعا لما يجري وحاضرا بقوة إلى آخر دقيقة من حياته، بل أكثر من ذلك فهو لم يكن يكتفي بالتحليل فقط، بل كان يساهم في طرح حلول بديلة كلما دخلت الحياة السياسية في بعض المنزلقات، أو وصلت إلى طريق مسدود. علاقته بالقادة السياسيين - من هم القادة السياسيون الذين كانوا يزورونه في البيت لإجراء مشاورات؟ > كثيرون. والغريب في الأمر أن بعضهم كان ينتمي إلى تيارات يمينية وإسلامية. ولذلك كان بيتنا يعج بالمناقشات السياسية بين مختلف الفاعلين. كما كانت له أيضا علاقات متينة مع كتاب مغاربة وأجانب، ومنهم من كان يتواصل معه باستمرار كالشاعر الراحل محمود درويش. بالإضافة إلى أشخاص ينتمون إلى عالم الأدب والفن والسياسة. - من هم أصدقاؤه المقربون؟ > هم كثيرون، ومنهم أبناؤه طبعا. لقد كان بالنسبة إلينا صديقا حقيقيا. الآن وبعد مرور ثلاث سنوات على رحيله أصبحت قادرا على التحدث عن علاقتي به، وفهمت معنى أن تفقد صديقا حقيقيا من الصعب تعويضه. لقد كنت أحدثه كما لو كان صديقا لي، وكنت أحدثه عن بعض الأمور الحميمية، وكنت في بعض الأحيان أشير إلى بعض الأشياء وكان يفهمني بسرعة دون أن نضطر أحيانا للمكاشفة، وكنا أحيانا أخرى نتحدث بخصوص أمور يصعب على ابن مناقشتها مع والده. - تحضرني هنا صورة نشرتها جريدة الاتحاد الاشتراكي للأستاذ عبد الله ابراهيم وهو ينتظر القطار، وبجانبه طفلة تلعب، وتساءل التعليق المصاحب للصورة إن كانت هذه الطفلة تعرف أن الذي يجلس بجانبها هو رئيس أول حكومة يسارية بعد استقلال المغرب. كيف تعلق على ذلك؟ > نعم أتذكر هذا الأمر جيدا. والحقيقة أننا تساءلنا وقتها عن ضرورة طرح ذلك السؤال لأن والدي كان دائما يتصرف كأي مواطن عادي. فقد كان يركب القطار ويتنزه في الحدائق مثل كل المواطنين. وأن تكون وزيرا أو ما شابه ذلك لا يعني ألا تركب القطار أو أنك لا تتصرف مثل باقي المواطنين أو أن تحظى بامتياز ما، وهذه هي المبادىء والقيم التي كان والدي يناضل من أجلها. وحتى أثناء أسفارنا سواء إلى مراكش أو غيرها من المدن كان أبي يرتاد أماكن عادية كغيره من المواطنين. الحاضر الغائب - بعد مرور ثلاث سنوات على وفاة الوالد عبد الله ابراهيم، رحمه الله، ماذا افتقدت فيه بعد رحيله؟ > افتقدت وجوده إلى جانبي كأب. وأعترف أن غيابه خلف فراغا كبيرا بالنسبة إلى العائلة لأنه كان حاضرا بقوة، ليس في ما يخص مشاكلنا اليومية فحسب، ولكن في مسار تطورنا الفكري والوجداني أيضا. ومع ذلك أستطيع أن أقول إنه أعطانا الأسس الحقيقية التي نحتاجها. ورغم مرور ثلاث سنوات على وفاته فإنه لازال حاضرا بقوة في اختياراتنا وطرق تعاملنا مع مشاكلنا وحلها. - هل هذا يعني أنكم تتصورون كيف سيتعامل مع كل مشكلة لو كان حاضرا بينكم، وأنكم ستتصرفون وفق ما كان سيشير به؟ > لا، ليس هذا بالضبط ما قصدت قوله. لكنه كان، رحمه الله، يضعنا دائما أمام مسؤولياتنا. وبهذا الخصوص فأنا لا أذكر أنه فرض رأيه يوما على أحدنا، بل كان دائما يكتفي بإبداء رأيه وما يراه صائبا، ويترك لنا حرية الاختيار، مع تحمل مسؤولية ما اخترناه. وفي بعض الأحيان كان يعمل بالقول السائد: «قد أكون مخطئا في ما أراه... هذه هي وجهة نظري ولكم كامل الحق في اختيار ما ترونه مناسبا لكم». لقد كانت هذه هي الروح التي يتميز بها، وهي التي لازالت حاضرة بقوة معنا حتى بعد رحيله المفجع. - ألم يحن بعد وقت نشر سيرته؟ > ليست سيرة بالمعنى الصحيح للكلمة، بل هي سلسلة من المواقف والأفكار التي كتبها والدي في الفترة الممتدة بين بداية نشاطه السياسي والوطني إلى غاية أربع سنوات قبيل وفاته. وهي مواقف وطروحات تناقش الأفكار بشكل عام، والأحداث التي طبعت تاريخ المغرب السياسي, وليس الأشخاص. - متى ستنشر؟ > في المستقبل القريب. لكن لم يتم تحديد الموعد بعد. - سبق لمحمد لوما أن نشر تفاصيل عن لقاءات جمعته بالمرحوم عبد الله ابراهيم. > نعم نشر كتابا. على أي حال لا أريد أن أخوض في هذا الحديث الآن. - هل علقت على ما نشر؟ > طبعا فعلت وعبرت عن موقفي في بعض الصحف، وقلت إن هناك أشياء صحيحة وأخرى مغلوطة. لقد كان والدي تحت تأثير بعض الأدوية التي كان يتناولها، وليس بهذا الشكل نكافئ مناضلا. الكلام طويل ولم يحن بعد وقت الرد. - أين تكمن الصعوبة في أن تكون اب شخص بحجم الأستاذ عبد الله ابراهيم؟ > المسؤولية كبيرة أمام أنفسنا وأمام وطننا. كما سبق وأن قلت فإن المبادئ التي زرعها فينا لازالت حاضرة. وعلى أي حال فقد كان حريصا على أن نتحمل مسؤوليتنا كاملة في اختياراتنا وتوجهاتنا.