دأب الساسة ووسائل الإعلام على اعتبار بداية شتنبر افتتاحا لموسم سياسي جديد بعد عطلة يكون الجميع فيها قد نال قسطا من الراحة بعد سنة من العطاء والبذل والجهد. وقد صار هذا تقليدا مسلما به في كل الدول، حيث تتسابق وسائل الإعلام في الحديث عن مميزات هذا الدخول السياسي وأولوياته وانتظارات الرأي العام منه وأجندة كل الفاعلين المجتمعيين. لكن الملاحظ، بالموازاة مع هذا الاهتمام، هو حرص البعض في بلدنا المسكين هذا على التعسف على «الدخول السياسي» وتحميله ما لا يحتمله وتضمينه ما لا يطيق، فتراهم يولدون من الفراغ شيئا يضاهون به الدول والمجتمعات التي تعيش، فعلا، دخولا سياسيا، وتتوفر على فرقاء سياسيين ببرامج سياسية ووسائل عملية، ويملكون قرارهم بأيديهم، ويخضعون لمبدأ المراقبة، ويحسبون ألف حساب لسنة مضت من ولايتهم الانتخابية لأنهم يستشعرون بأن ساعة الحساب اقتربت، وهم ملزمون بتقديم الحصيلة بناء على الوعود التي أطلقوها في حملاتهم الانتخابية. ولا أخفي أنني كلما قرأت شيئا عن هذا الدخول السياسي أو استمعت إلى حديث أو كنت في حوار مع أحد، إلا وتملكتني حيرة وانتابني إحساس وتشكل لدي يقين بأن ساسة بلدنا في واد والرأي العام في واد آخر وأن انشغالات أولئك غير اهتمامات هؤلاء. ينشغل البعض بالدخول السياسي، فيحدد له مميزات، ويتحدث عن هذا الاستحقاق، وذاك الورش المفتوح، وذلك الملف الحساس، والآخر الأكثر منه حساسية. يحاولون، تعسفا، وضع جدول عمل وهم يعلمون بأنه سيبقى حبرا على ورق، بل تجدهم أعدوا مسبقا الجواب عن أسباب الإخفاق التي لن تخرج، كما دائما، عن المستجدات الدولية الصعبة وقلة الإمكانيات المتاحة والظروف الموضوعية المحيطة، وغير ذلك من المبررات التي صارت محفوظة عن ظهر قلب، مما يضفي على المشهد السياسي رتابة مخيفة وغير مطمئنة؛ وهذه صارت صفة لصيقة بالسياسة في المغرب. لن يهتم المواطنون بهذه المبررات ولا بتلك الأولويات، ليس لأنهم لا يريدون ذلك ولكن لأن لديهم أجندتهم الخاصة وانتظاراتهم الغائبة عن تفكير من يتولى الحديث باسمهم، ولن ينشغلوا باستحقاقات هؤلاء المنتفعين لأنها بعيدة عن معاناتهم. ما يميز الدخول السياسي لهذه السنة هو الوضع الاجتماعي المتدهور لغالبية الأسر التي صارت تعيش الفاقة بسبب الزيادات المهولة في أسعار المواد الأساسية وهزالة الأجور، ويميزه كذلك انشغال ملايين الأسر بالهم المؤرق لجفونهم: تعليمُ الأبناء وتغطية نفقات الدراسة والأفقُ المسدود لأبنائهم حتى وإن حصلوا على الشهادات وتفوقوا. يعني الدخول السياسي عند المغاربة التحاق أفواج من المتخرجين بطابور المعطلين الآملين في إيجاد شغل يتوجون به مسارهم الدراسي، وهو أمل يتحول، مع مرور الزمن، إلى حلم، ثم إلى كابوس، فيأس، فمعاناة يومية في الوقفات والاعتصامات المهددة دائما بالتدخل الوحشي لقوات الأمن. الدخول السياسي عند المغاربة يعني استقبال فصل خريف وفصل شتاء تعري فيه الأمطار هشاشة البنية التحتية وحجم التلاعب والغش في بناء الطرقات ومجاري المياه وشبكات الوادي الحار، لتكشف حجم الفساد والتبذير ونهب المال العام. سنرى جميعا مناطق من المغرب تعزل عن العالم، وبلادا مقطوعة الأوصال، وطرقا تغلق، ومنازل تهدم، وعائلات تفترش الأرض وتلتحف السماء دون طعام أو شراب أو دواء، فهذا مشهد صار مألوفا كل سنة. سيزداد يقين المغاربة حينها بأن هذه البلاد غير مستعدة لمواجهة الأمطار كما الحرارة، وهم الذين عانوا خلال الصيف من المآسي مع قطارات بأسعار مكلفة وبدون مكيفات ولا أدنى شروط للراحة، ناهيك عن عدم احترام الوقت وسوء المعاملة، وذاقوا مرارة التنقل في حافلات رديئة كانوا فيها عرضة لحوادث قاتلة وضحايا سماسرة يضاعفون ثمن التذكرة مرات دون حسيب أو رقيب. الدخول السياسي عند المغاربة يعني بحثا عن شروط أفضل للاستفادة من سلف يغطون به نفقات التمدرس والكسوة والمعيشة، فيصبحون لقمة سائغة لمؤسسات القروض التي تمتص دماءهم و«تأكل عرقهم» بتشجيع من الحكومة التي تسمح بنظام الربا أضعافا مضاعفة. الدخول السياسي عند المغاربة يعني ترقبا للأسوإ خوفا من مصنع يغلق وعمال يسرحون لأن لا قدرة لاقتصادنا على المنافسة، ولا مراقبة صارمة ضد من يستغلون ثغرات القانون للتخلص من العمال. حينها، يكتشف الجميع أن شعار «المقاولة المواطنة» ما زال حبرا على ورق، وأن الفقراء وحدهم مطلوب منهم أن يضحوا. الدخول السياسي عند المغاربة يعني انتظارا لما سيقوله الملك في خطابه الافتتاحي للسنة التشريعية في بداية أكتوبر، فهم يعرفون أن الملك هو كل شيء، والباقون خدام ومنفذون، ولا جدوى من الانشغال بتحليلاتهم وبرامجهم وخطبهم. الدخول السياسي، بالمناسبة، حتى عند السياسيين يعني ترقبا لهذا الخطاب، فمنه يتلقون الإشارات لأن قوتهم الاقتراحية عاطلة. ولذلك سيشتغلون على الخطاب الملكي ليستخرجوا منه الدرر والنظريات والبرامج والخطط ويملؤون بذلك صفحات الجرائد وساعات البث في الإذاعة والتلفزيون، ومنصات الخطابة. وفي الأخير، لا ينجزون شيئا. قد يكون هؤلاء المنتفعون على صواب لأنهم كانوا في عطلهم، منهم من غادر البلاد، ومنهم من نسي السياسة، ومنهم من ابتعد عن كل ما يذكره بها.. وهم محقون حين يقولون إنهم على أبواب دخول سياسي، فهم كمن كان في عطلة سنوية مؤداة الأجر. أما المواطنون فهم دائما في معترك السياسة، دخلوها بغير إرادتهم منذ خرجوا إلى الوجود، يولدون في مستشفيات لا توفر أدنى شروط السلامة، ولا تكاد تنتهي الأسرة من مصاريف الولادة حتى تبدأ معاناة التطبيب، وحين يصبح المولود تلميذا تبدأ معاناة أخرى مع تكاليف الحياة المرتفعة بوتيرة صاروخية، وحتى بعد التخرج فهو معطل مضطهد أو موظف يتقاضى أجرا لا يغطي ربع حاجياته، ثم يعيد التاريخ نفسه مع أبنائه. يتزامن الدخول السياسي عند المغاربة مع فصل الخريف حيث تتساقط أوراق الشجر الذابلة ويتغير الطقس، ورجاء الجميع أن تتساقط معها حصون الفساد وتعصف رياح التغيير بالجاثمين على نفوسهم والناهبين لخيراتهم. لدخول السياسي كما يتوهمه المنتفعون مصطنع، أما الدخول الحقيقي كما يعيشه المواطنون فهو معاناة وطاحونة تطحن العقول والإرادات والأبدان فتنتج مواطنا يائسا وحاقدا وغير مبال، ولا تنمية ترجى إن لم نستدرك هذا الخلل.