تنشر «المساء» في واحتها الصيفية، صفحات من تاريخ الكرة المغربية، خاصة في الجانب المتعلق بوفيات رياضيين في ظروف لفها الغموض، وظلت جثامينهم ملفوفة بأسئلة بلا جواب، رغم أن الموت لا يقبل التأجيل. العديد من الرياضيين ماتوا في ظروف غامضة، وظلت حكايا الموت أشبه بألغاز زادتها الاجتهادات تعقيدا. ونظرا للتكتم الذي أحاط بالعديد من الحالات، فإن الزمن عجز عن كشف تفاصيل جديدة، لقضايا ماتت بدورها بالتقادم. انتهت المسيرة الموفقة للملاكم المغربي محمد فازة باندلاع الإضراب العام الوطني يوم 20 يونيو 1981، الذي شكل أبرز مظهر للاحتجاج والغضب الشعبي في تاريخ المغرب المعاصر، حيث أسفرت أحداث السبت الأسود عن الزج بعشرات الضحايا في السجون أو المقابر الجماعية. شاءت الأقدار أن يعود الملاكم الدولي المغربي، المنتمي إلى نادي الاتحاد البيضاوي والمعروف في أوساط الملاكمة المغربية بلقب «الشينوا»، إلى الدارالبيضاء قادما إليها من أكادير، حيث كان في زيارة وداع لبعض أفراد عائلته. صادف وصوله إلى العاصمة الاقتصادية، صباح السبت 20 يونيو، حالة من الطوارئ، إذ انتشرت في جل أزقة المدينة فصائل الأمن من أجل قمع احتجاج المتظاهرين وإخماد الغضب الشعبي، حيث طوقت قوات الجيش بالدبابات والسيارات العسكرية كل أحياء الدارالبيضاء، وأغلقت المحلات التجارية وبدت المدينة وكأنها ساحة لحرب أهلية. توجه محماد إلى بيت والدته بالحي المحمدي، هناك هيأ لوازم التدريب والتحق بمقر نادي الاتحاد البيضاوي بالحي المحمدي، لينخرط في تداريبه الروتينية إلى جانب ملاكمي النادي، مثل بوشعيب نفيل، بتأطير من الحاج الغزواني. انتهت الحصة التدريبية الشاقة فاستحم الشينوا وقرر الالتحاق بحي البرنوصي حيث تقطن أسرته الصغيرة المكونة من زوجة وثلاثة أبناء: ابنتين وابن. كان الإضراب العام يشل حركة المدينة، لكن الملاكم المغربي أصر على زيارة أبنائه رغم محاولات الأم ثنيه عن الذهاب ومطالبتها إياه بتأجيل الزيارة. وقف أمام سينما «السعادة» ووضع جسده في بطن سيارة أجرة مكدسة بالهاربين من جحيم الإضراب، وتبين أن الرحلة تقود أسرته نحو الألم والشقاء. أسفرت تلك الأحداث، التي اتسمت باستعمال العنف إلى حدود يوم 21 يونيو، عن سقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى، كانوا ضحايا مصالح الأمن التي لم تتردد في استعمال أسلحتها بدون سابق إنذار، وسقطت أول ضحية بفعل إطلاق الرصاص بدرب غلف وعمرها 12 سنة، ثم توالت عمليات إطلاق الرصاص، وبينت التحريات فيما بعد أن الإصابات شملت الرأس والصدر والقلب، وكان عدد المقتولين الذين تم إقبارهم جماعيا يفوق بكثير ما تم الإعلان عنه رسميا من طرف الجهات الرسمية. توقفت سيارة الأجرة أمام سينما «السلام» وتبين للراكبين أنه لا أثر للسلم والأمان في البرنوصي، إذ داهمت الركاب فور نزولهم دورية عساكر مدججين بالأسلحة ذات الذخيرة الحية، طالبتهم بامتطاء شاحنة كانت تمارس عملية «كنس للشوارع والأزقة».. زج بالبطل في جوف الشاحنة التي كانت تضم عشرات الضحايا من مختلف الأعمار، احتج فازة على الوضع، لكن لغة العنف كانت الجواب المفضل لدى قوات الردع. لم تنفع الشروحات التي قدمها محماد إلى القوات العسكرية، ولم يُجدِ كشفُه عن بطاقته وصفته كبطل مغربي حمل راية المغرب في المحافل الدولية في تليين موقف العساكر، لكنه لم يكن يتوقع أن تقوده خطواته في ذاك اليوم الدامي نحو قدره الأخير. نقل البطل المغربي رفقة الركام البشري صوب المقاطعة 46 بحي البرنوصي، وهي المقاطعة التي أصبحت فيما بعد مقرا لعمالة البرنوصي والتي كانت نقطة لتجميع المتظاهرين. كشف للمحققين عن هويته كملاكم ينتمي إلى الفريق الوطني المغربي وتنتظره استحقاقات دولية وقارية في الأسابيع القادمة، لكن المحققين كانوا يكتفون بتدوين الاسم واللقب في سجلٍ وإحالة المعتقلين على زنازين فاقت طاقتها الاستيعابية، خاصة وأن الدوريات «اصطادت» في ظرف ثماني ساعات مئات الأشخاص من مختلف الأعمار. نتجت عن الاكتظاظ الرهيب في أقبية المقاطعة اختناقات في صفوف «المعتقلين»، وكان من نتائج ذلك القمع سقوط شهداء أبرياء في المقاطعة 46 من جراء الازدحام، حيث وصل عدد القتلى إلى أزيد من 637 قتيلا، حسب تنظيمات المعارضة. وقدرت إحدى الجمعيات عدد القتلى بما يزيد على 1000 قتيل، أما وزير الداخلية الراحل إدريس البصري فحددها في 66 قتيلا فقط، نافيا أن تكون هناك وفاة بالرصاص الحي، كما وصف الضحايا الذين سقطوا في تلك الأحداث، في تصريحه، ب«شهداء كوميرا». قتل البطل المغربي الذي حمل قميص المنتخب في ظروف غامضة وظلت أسرتاه الصغيرة والكبيرة تبحثان عن نقطة ضوء تقودهما إلى حقيقة الاختفاء. عانت أسرة الراحل من الخصاص قبل أن تظهر تباشير الأمل، من خلال هيئة الإنصاف والمصالحة التي بادرت إلى جبر الضرر، وتوصلت بعد تحريات طويلة إلى الكشف عن قبور الشهداء، وأكدت أن البعض قتل رميا بالرصاص والبعض اختناق جراء شدة الاكتظاظ في المعتقلات الضيقة والتي افتقرت إلى أدنى شروط الكرامة، كما حدث في مقاطعة البرنوصي، إذ تم تنقيل الجثث إلى مقابر جماعية، ودفنوا فيها في سرية تامة ودون إخبار أسرهم بموضوع الدفن أو مكانه. توصلت أسرة الفقيد إلى أن الراحل كان من بين مئات الضحايا الذين دفنوا في سرية تامة داخل ثكنة عسكرية تابعة لرجال المطافئ بالقرب من الحي المحمدي «المقبرة الجماعية» الشهيرة في الدارالبيضاء وهي المقبرة الجماعية التي كشفت عنها التحريات التي أشرفت عليها هيئة الإنصاف والمصالحة بالاعتماد على محاضر الشرطة وتقارير المنظمات الحقوقية وسجلات وزارة الصحة، والتي دفن تحت تربتها أشخاص دون تحديد هوياتهم، قبل أن يعاد دفنهم في مقابر فردية في انتظار ظهور نتائج التحاليل الجينية. بعد طول معاناة، توصلت أسرة الفقيد بمبلغ مالي يقدر ب700 ألف درهم، بدد جزءا من النكد الجاثم على قلوب زوجته وأبنائه، لكنه لم يعوض مكانة الراحل في نفوس أفراد أسرته وأسرة الملاكمة المغربية.