أن يبايع شعب، أو حزب، أو تنظيم رئيسه بالإجماع فهذه البيعة تتم لأمرين أساسيين، الأول أن يكون حقق إنجازات ضخمة وغير مسبوقة، والثاني أن يمثل خطا أو فكرا سياسيا إبداعيا يستحق التكريم والتفويض المفتوح. وانطلاقا من هذه القاعدة، نسأل أعضاء مؤتمر حركة «فتح»، المنعقد حاليا في مدينة بيت لحم، عن المعايير التي استندوا إليها عندما «صفقوا وقوفا» تأييدا لاقتراح بانتخاب الرئيس محمود عباس زعيما لحركتهم، خارج الانتخابات المقررة لاختيار أعضاء اللجنة المركزية الجديدة. الرئيس الراحل ياسر عرفات، المؤسس لحركة «فتح» والذي دفع حياته ثمنا لتمسكه بخطها كحركة تحرير وطني، لم يحظ بمثل هذه السابقة التكريمية في جميع مؤتمرات «فتح» الخمسة السابقة التي شارك فيها، بل على العكس من ذلك كان يواجه منافسة شرسة من قبل زملائه الآخرين على عضوية اللجنة المركزية، ويتعرض لانتقاد أشرس لسياساته ومواقفه. نفهم هذه «البيعة» لو أن السيد عباس حقق أهداف الحركة، والشعب الفلسطيني بأسره، في إقامة الدولة المستقلة بعد خمسة عشر عاما من هندسته لنهج أوسلو التفاوضي، أو أدت سياساته «المرنة» مع الغرب وإسرائيل إلى وقف الاستيطان وبناء الجدار العنصري العازل، وإزالة الحواجز في الضفة الغربية، وأنهى حال الانقسام الراهنة في أوساط الشعب الفلسطيني، ولكنه لم يحقق أيا من هذه الأهداف التي انتخب رئيسا للشعب الفلسطيني من أجلها. في خطابه، الذي ألقاه في افتتاح مؤتمر حركة «فتح» العام واستمر حوالي ساعتين ونصف الساعة تقريبا، لم يجد الرئيس عباس من إنجازات يتحدث عنها للمؤتمرين غير تقديم «جواز سفر» للفلسطينيين، وتوفير الأمن والرخاء لأبناء الضفة الغربية، حيث ردد الآية الكريمة «أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف». إنجاز آخر ذكره عندما قال إن قوات الأمن الفلسطينية نجحت في تغيير سلوك الناس، بحيث باتوا يبقون حزام الأمان أثناء قيادتهم للسيارة بعد عبورهم ما يسمى بالخط الأخضر من الأراضي المحتلة عام 1948 إلى نابلس وجنين وطولكرم وغيرها من المدن الفلسطينية. الثورة الفلسطينية بزعامة حركة «فتح» لم تنطلق في الأول من يناير 1965 من أجل «جواز سفر» للفلسطينيين، ولا من أجل توفير الطعام والأمن لهم، وتدريبهم على ربط حزام الأمان في سياراتهم، وإنما من أجل تحرير كل الأرض الفلسطينية من البحر إلى النهر، وإعادة اللاجئين الفلسطينيين جميعا. وحتى مسألة جواز السفر هذه تحتاج إلى مناقشة، فجواز السفر الفلسطيني لا يصدر إلا بعد موافقة إسرائيلية، ودور إدارة الجوازات في السلطة لا يتعدى دور ساعي البريد فقط، والشيء نفسه يقال أيضا عن السفارات والقنصليات الفلسطينية في مختلف أنحاء العالم. تكريس جميع السلطات في يد الرئيس محمود عباس ووضعه فوق كل أشكال المساءلة والمحاسبة، بالصورة التي شاهدنا بعض فصولها في مؤتمر «فتح» السادس، أمر خطير بكل المقاييس، لأن هذا قد يدفع بالرجل إلى مواصلة نهجه الحالي الذي يتناقض كليا مع منطلقات الحركة الأساسية وتراثها النضالي العريق والمشرف. الرئيس عباس ظل يردد، طوال الشهور الأخيرة، أنه رجل زاهد في الحكم ولا يريد الاستمرار في منصبه الحالي، ويروج المقربون منه هذه النغمة في مجالسهم الخاصة، ولكن ما نشاهده هو مخالف لذلك تماما، ونرى رجلا مريضا تجاوز منتصف السبعينات من عمره يتلهف إلى المواقع والجمع بين الصلاحيات المتعددة وكأنه في العشرين من عمره. المؤتمرات الحركية أو الحزبية تعقد عادة من أجل إجراء مراجعة دقيقة لكل وقائع وأحداث المرحلة السابقة، من أجل استخلاص الدروس والعبر وتصحيح المسيرة ورسم استراتيجية جديدة تدفع باتجاه تحقيق الأهداف المرجوة في أجواء من الشفافية والمحاسبة، ولكننا لم نر مثل هذه الشفافية ولم نسمع عن تلك المحاسبة. لم أشارك في أعمال مؤتمرات حركة «فتح» السابقة لأنني لست عضوا فيها، ولكنني شاركت في جلسات ومؤتمرات المجلس الوطني السابقة، إما كعضو مستقل أو كصحافي، أو الاثنين معا، وكنت أشاهد الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات يتعرض لكل أنواع المساءلة والمحاسبة من قبل بعض الأعضاء، وممثلي حركة «فتح» على وجه الخصوص، مثل السادة صلاح خلف (أبو إياد) وفاروق القدومي رئيس الدائرة السياسية. وأسجل هنا أنه كان يرتعد خوفا من شخصيات مستقلة مثل المرحومين شفيق الحوت وإدوارد سعيد ومحمود أبو لغد وياسر عمرو، وأذكر أن المرحومين شفيق الحوت وياسر عمرو ترشحا لرئاسة المجلس الفلسطيني ضد الشيخ عبد الحميد السائح، مرشح الرئيس عرفات، الأمر الذي دفع بالأخير إلى الاتصال بالأعضاء المستقلين خاصة فردا فردا متمنيا عليهم التصويت لمرشحه. مثل هذا الحراك الديمقراطي المسؤول لم نر له مثيلا في هذا المؤتمر، بل شاهدنا غالبية ساحقة تصفق للرئيس وتبصم على سياساته وتنتخبه رئيسا للحركة؛ وباستثناء بعض المناوشات البسيطة من قبل الأعضاء، لم يتعرض الرئيس لأي نقد أو محاسبة. ندرك جيدا الظروف الصعبة التي انعقد فيها المؤتمر، مثلما ندرك أيضا العوامل الإسرائيلية والأمريكية الضاغطة، ولكن كل ذلك كان محسوبا بعناية للوصول إلى نتائج محددة متفق عليها مسبقا. الرئيس عباس هو الذي اختار بيت لحم مكانا للانعقاد، لأنه يريد السيطرة على النتائج، ورفض كل الخيارات الأخرى، فقد كان يمكن أن يعقد المؤتمر في دمشق أو الجزائر أو اليمن أو أي عاصمة عربية أخرى لو كانت النوايا الحقيقية للقيادة قلب الطاولة احتجاجا على حال الهوان التي يعيشها الشعب الفلسطيني حاليا، ولكن النوايا لم تكن كذلك، وإنما مسايرة الرئيس وسياساته التي لم تقُد حتى الآن إلا إلى خيبة الأمل. فعقد المؤتمر تحت سمع وبصر الإسرائيليين هو سابقة تاريخية لم تقدم عليها أي حركة تحرير من قبل. فهل يمكن أن تعقد حركة التحرير الجزائرية مؤتمرها العام في إحدى ضواحي باريس مثلا، أو أن تعقد حركة «طالبان» الأفغانية مؤتمرها في ضاحية جورج تاون في واشنطن؟ تظل هناك بعض المؤشرات الإيجابية لا يمكن نكرانها، أطلت برأسها في المؤتمر، مثل انتخاب السيد عثمان أبو غربية رئيسا للمؤتمر على عكس رغبة الرئيس عباس. وكذلك النقاط الخمس التي أضيفت إلى البرنامج السياسي من قبل السيد محمود العالول وحظيت بالإجماع أثناء التصويت عليها، مثل تمسك الحركة بكونها حركة تحرير وطني تهدف إلى دحر الاحتلال وجزءا من حركة التحرير العربية، وأن عدوها الأساسي هو دولة الاحتلال الإسرائيلي، وأي تناقضات أخرى (مع حماس) هي تناقضات ثانوية تحل بالحوار، وعدم إسقاط أي خيار، بما في ذلك حق المقاومة بأشكالها كافة، بما في ذلك مواجهة محتليها. الرئيس عباس تعامل باحتقار شديد مع اللجنة المركزية السابقة وأعضائها، واستنكف عن حضور اجتماعاتها. وحول اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير إلى أداة بصم لتشريع بعض سياساته. ولذلك نأمل أن تقلب اللجنة المركزية الجديدة هذه المعادلة، وتضع حدا لتفرد الرئيس عباس بالقرار، وتفرض عليه العودة إلى المؤسسات والتشاور معها في الأمور المفصلية.