كان خبر في صحيفة يهز الدنيا لكن حجم المعلومات الهائل الآن لا يحرك أحدا بل أصبح يزيد من حجم الفساد التقارير التي تناولتها الصحف البريطانية في الأسابيع الماضية، حول استشراء الفساد بين أعضاء مجلس العموم البريطاني وأعضاء الحكومة، عكست تغيرا واضحا في مساحة وحجم الشفافية والنقاء اللذين كان يتمتع بهما السياسيون في هذه البلاد. وقد سعى رئيس الوزراء البريطاني، جوردون براون، إلى احتواء الأمور بعدما وصلت شعبية حزب العمال إلى الدرك الأسفل وسط توقعات معظم المراقبين بأن الحزب سيخسر الانتخابات البرلمانية القادمة لا محالة. وما حدث في بريطانيا حدث أكبر منه في فرنسا، حيث تصدر الصفحة الأولى لكبرى الصحف الفرنسية «لوموند»، في عددها الصادر في 23 يوليوز الماضي، تقرير أصدره ديوان المحاسبة، أعلى سلطة رقابة مالية في البلاد، عن التجاوزات المالية في قصر الإليزيه والنفقات الباهظة للرئيس ساركوزي. وهذه هي المرة الأولى في تاريخ الجمهورية الفرنسية التي يفتح فيها ملف نفقات الإليزيه بعدما تجاوزت نفقات ساركوزي نفقات كافة الرؤساء الذين سبقوه. وقد أشار التقرير إلى أن التنقلات الرئاسية لعام 2008 بلغت 14 مليون يورو مع أسطول من السيارات والطائرات؛ أما باقات الورود، فإن الرئيس وزوجته المطربة كارلا بروني ينفقان من أجلها يوميا 763 يوروها، أي 257809 يوروها سنويا على الورود فقط؛ أما تنظيف ملابس الرئيس وكارلا فإنه يكلف الخزينة الفرنسية 155396 يوروها؛ هذا علاوة على رصد كثير من المخالفات المالية التي يتجاوز كثير منها الملايين. وقد أ كد ديوان المحاسبة أن ساركوزي قد تجاوز في نفقاته كل من سبقوه من الرؤساء في تاريخ الجمهوريات في فرنسا. ولم يمنع رئيسَ الديوان، الذي أصدر التقرير ورفض أن يكون سريا ونشر في الصحف، كونُ الرئيس هو الذي يعيّنه من أن يواجهه بمخالفاته التي هزت الطبقة السياسية والمجتمع الفرنسي في ظل ما يقوم به ساركوزي من دور خطير في تدمير معارضيه، سواء باستيعابهم في منظومة الدولة أو إقصائهم من مناصبهم بأسلوب لا يقل عن أساليب حكام العالم الثالث في التعامل مع معارضيهم. ورغم العراقة التي تتمتع بها مؤسسات الدولة في فرنسا، فإن بعض المراقبين يرون أن ساركوزي يقوم بتفكيك بنية النظام الجمهوري في فرنسا بأسلوب الديكتاتورية الناعمة، وأنه يسترشد ببعض زعماء دول العالم الثالث، وعلى رأسهم زعماء عرب ممن قضوا في السلطة ثلاثة عقود أو أكثر، ويلتقي ببعضهم من آن إلى آخر ليطبق شيئا من تجاربهم في تفكيك ليس بنية المعارضين له وإنما حتى بنية الدولة، حتى يبقى أكبر فترة ممكنة في السلطة. ويرى بعض المراقبين في فرنسا أن ساركوزي سوف يجري تغييرات كبيرة في فرنسا خلال فترة حكمه، منها تغيرات في الدستور تتيح له البقاء أكبر فترة ممكنة في السلطة، علاوة على قيامه بتحييد أو إبعاد أو إغواء معارضيه، بحيث يميّع المعارضة، سواء كانت سياسية أو إعلامية، ويقوم بتفريغ المؤسسات الإعلامية من كبار منتقديه من الصحفيين المستقلين، عبر علاقاته المتشعبة والعميقة مع أصحاب رؤوس الأموال ورؤساء مجالس الشركات والمجموعات الاقتصادية العملاقة في البلاد والتي تمتلك معظم المؤسسات الإعلامية الفاعلة في فرنسا. ولم يتورع ساركوزي، الذي يتمتع بسلطات واسعة في تعيين كبار المسؤولين بمن فيهم رئيس ديوان المحاسبة، عن تغيير من يمكن أن يشكل له حرجا في تصرفاته. ويتوقع كثيرون أن يشكل تقرير جهاز المحاسبات عاملا في تغيير رئيسه على يد ساركوزي قريبا، حيث إنها المرة الأولى في تاريخ فرنسا التي يُنتقد فيها رئيس في السلطة بشكل رسمي وفق تقرير محاسبي. وعلى خُطى ساركوزي يمشي بيرلسكوني، رئيس الوزراء الإيطالي، الذي تجاوز الثانية والسبعين من العمر ومع ذلك يعيش حياة «البلاي بوي» الذي لا يقيم وزنا لأحد، ويقوم من خلال إمبراطوريته المالية بالمزاوجة بين السلطة والثروة، على غرار ما يحدث في معظم الدول العربية، ولاسيما الأنظمة الجمهورية التي تتمتع بحجم عال من الفساد. ولا عجب أن يكون بيرلسكوني هو الآخر على علاقة وثيقة بزعماء هذه الدول ويطبق تجربتهم رغم الاختلاف الجذري بين تلك الأنظمة والنظام الجمهوري في إيطاليا، لكن ضعفَ المعارضة وذوبانَ القوى التي تعدل كفة الميزان في تلك المجتمعات وتقويضَ الزعامات السياسية واختفاءَها ساعد على بروز هذه الفقاعات في عصر أزمة الزعامة الذي يجتاح العالم في هذه المرحلة، مما جعل هؤلاء يكفون تماما عن الحديث عن الديمقراطية أو أي شيء يمت إليها وأصبح دعم الأنظمة الديكتاتورية في بلادنا هو المنهج الثابت لديهم. إن هذه التحولات الهائلة في الغرب والتي بدأت بعد الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، حيث تجاوزت الولاياتالمتحدة كل الأعراف والقوانين الدولية والمحلية وفتحت الباب على مصراعيه لثقافة القتل وجرائم الدولة تحت حماية مجلس الأمن وانتهاك سيادة المواطن الأمريكي تحت رعاية وزارة العدل الأمريكية وطاقم بوش الذي يطالب البعض بمحاكمته بسبب تجاوزاته ثم التجاوز على العالم كله عبر نشر عصابات القتل التي ترعاها «السي آي إيه» والجيوش المجرمة في أفغانستان والعراق ومناطق أخرى من العالم، هذه التحولات كانت البداية لترسيخ الديكتاتورية والفساد في الغرب، حيث انتقلت من الولاياتالمتحدة إلى أوربا وسقطت تلك القشرة التي كانت تستر عورات المجتمع الأوربي والتي كانت تتحدث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، لكنها في النهاية أصبحت هي المتجاوز الرئيسي لكل هذه الأعراف. ورغم أن بعض المراقبين يعتبرون أن ما حدث كان ذروة التجاوزات، فإن آخرين يرون أن ما يكشف عنه النقاب الآن ليس سوى البداية لتحولات هائلة في الغرب سوف تنعكس، قطعا، على الشرق وسوف ترسخ لأنظمة ديكتاتورية واستبدادية تعيد العالم، ربما، إلى ثقافة القرون الوسطى رغم تفاؤل الآخرين بأن الزمن لا يعود إلى الوراء في عصر المعلومات والأنترنيت، لكن الخطورة هي من المعلومات والأنترنيت، فقبل ذلك كان خبر في صحيفة يهز الدنيا، لكن حجم المعلومات الهائل الآن لا يحرك أحدا، بل أصبح يزيد من حجم الفساد وممارسات الديكتاتورية في ظل انعدام رد الفعل، سواء من المعارضة التي تم تقزيمها أو من الشعوب الغارقة في مشاكلها الاقتصادية أو المكتفية بثقافة الفرجة أو انتظار من يمكن أن ينوب عنها في تقويم الحكام وفسادهم. إننا مقبلون على عصر خطير.. عصر الديكتاتورية والفساد العالمي.