ثقف (بفتح وتشديد القاف) يثقف تثقيفا، أي ربط وكبل بإحكام الأشياء والحيوانات. ويقابل هذا اللفظ في الدارجة المغربية «لكريز أو التزيار على أيادي بنادم وكرعين الحيوانات». تبعا لهذا التعريف، فإن وظيفة المثقف هي وظيفة ضبط وتمكن من المفاهيم وأساليب العرفان. معنى آخر متداول عن فعل «ثقف» يشير إلى الشخص الحاذق، ذاك الذي يظفر بخصومه. وفي عرف الشعراء، فالمثقف هو الرمح. ثم لا ننسى ممارسة «الثقاف» الذي يقوم بها بعض النساء لتحييد أزواجهن جنسيا. وعليه، فحقل الثقافة ميدان حربي بامتياز؛ وفي هذا المجال حديث ومغزل. انبثق مفهوم مثقف، بالمعنى المتداول اليوم، في العالم العربي غداة الحرب الكونية الثانية. ويعد محمد حسنين هيكل من الأوائل الذين استعملوا الكلمة في كتابه «أزمة المثقفين»، مشيرا إلى أن هذا المفهوم حل محل مفاهيم مثل مفكر، صاحب رأي، كاتب، أديب، عاقل، عالم، متعلم، طالب. في المشهد المغربي، بل المغاربي، لعبت المدرسة دورا رئيسيا في ولادة هذه الفئة الحضرية؛ وكانت لها بالكاد مساهمة مهمة في نزع الاستعمار. لكن خيبة الاستقلال الشكلي أو المزيف لهذه البلدان دفعت بالمثقف إلى أداء دور ما أطلق عليه العلامة ابن خلدون «الناقد القسطاس». في زمن «الزيار»، أو سنوات الرصاص في المغرب، وهنا المفارقة، كان للمثقف حضور فاعل بدور استكشافي وتنظيري لآليات السلطة وميكانيزمات المجتمع. كانت النخبة بمثابة دورية تجوب حقول الفكر والمعرفة، إن من خلال التنظير والإبداع أو من خلال الترجمة وتمرير فكر مغاير. وقد وفرت للمغرب شفافية معرفية بالداخل والخارج. كان المهجر، إلى جانب الأوضاع المحلية، مرجعا ووقودا لهذه النخبة التي جربت عنف السلطة وعنف الاغتراب، ذاقت نكهة الحرية في المنفى وحلمت بعودة مظفرة بوردة مغروسة في فوهة بندقية... لكن من عادوا وقفوا على حقيقة سراب اليوتوبيا الخصيبة. ومن أعضاء هذه النخبة من التحق بركب المخزن، ومنهم من أكله النسيان، ومنهم من لا يزال يجتر خطابا مترهلا. الرافد القوي، اليوم، وبفعل الهامش الذي وفره الانفتاح الذي ينغلق بين الفينة والأخرى من دون سابق إنذار، هو بروز وتميز الصحافي المثقف المستقل عن الحزب السياسي أو عن النظام، والذي أصبح بمثابة عين ساهرة لفضح الاختلالات، التجاوزات والانحرافات، وذلك بتوظيفه لكتابة قادحة وساخرة. ونحن في غمرة تقييم حصيلة العشر سنوات التي مرت على وصول الملك محمد السادس إلى الحكم وإمساكه بدفته، يلاحظ غياب للنخبة، سواء منها المخزنية أو غير المخزنية، في مجال نقاش المنجزات والتعثرات. مما يدعو إلى طرح السؤال: ماذا تبقي من الأنتيلجانسيا؟ أليست، اليوم، ظلا باهتا لنفسها؟ إذ يكاد «المثقف»، في زمن ما يسمى بالتحول والانتقال، يندثر من المشهد السياسي، المعرفي، التنظيري؛ فالجامعة، التي كانت خلية لإنتاج النخبة، لم تعد تفرخ سوى «البيطالة»، إلا في المهجر وفي أوساط أبناء «موالين الحبة»، وهؤلاء الطلبة هم من سيشكل غدا الذراع الأيمن والقوي للتكنوقراطية المغربية الجديدة. يفكرون في المناصب، في الحقائب الوزارية، في خلافة الأب على رأس هولدينغ أو شركة، يتقنون لغة الكاك 40 والداو-جونس والنازداك... ولا يعرفون من المغرب سوى الفيلات ذات الخمس نجوم، سيارات اللوكس ونهاية الأسبوع بعلب مراكش... في فرنسا وحدها، يتابع 30000 طالب مغربي دراستهم في المدارس والمعاهد الكبرى، وبخاصة تلك التي ستخول لهم غدا تبوؤ مناصب سلطوية في المغرب؛ يعيشون في ما بينهم في فقاقيع دافئة ومخملية؛ توفر لهم العائلة الإمكانيات المادية المثلى لمتابعة تخصص في الهندسة، الطب، التكنولوجيا، التجارة،... إلخ. اليوم، لا يغامر بدارسة الفلسفة والأدب والتاريخ سوى لمزاليط. في غياب الثقافة والمثقف، دخلنا في زمن التفايس (من الفايس بوك)، اليوتوب، الألعاب الإلكترونية وغياب القراءة، أي في زمن «الثقاف» الفكري؟