ثمة توجه لدى العديد من الكتاب والروائيين المغاربة إلى جعل مفردات الدارجة قطع غيار ضرورية في ماكينة اللغة الفصحى، بحجة اقتراب الأولى من صميم البيئة ونبض الحياة اليومية، وعدم امتلاك الثانية أي الفصحى، مهما طاوعت، القوة اللازمة للنفاذ، أسلوبا وتمثلا ومحاكاة، إلى عمق مجتمع لا يوجد فيه شخص واحد يتداولها شفويا في حياته اليومية. ويذهب هؤلاء إلى أن الفصحى التي سنها رجال اللغة وقننوها لتصبح لغة علمية عالمة لا تتيح، بحكم وعائها النحوي والتركيبي المعقدين، هامشا كبيرا للمناورة الكتابية أو التعبيرية التي تمكن الكاتب من التقاط تفاصيل اللحظة بتدفقاتها المختلفة (أحاسيس، مشاعر، انفعالات...) فيصبح التغليف الدارجي ضروريا لأنه الأقرب فهما وتداولا واستيعابا. ولا يرى هؤلاء عيبا في أن يلجأ بعض المبدعين من روائيين وشعراء وصحفيين إلى انتقاء مفردات من اللغة العامية وسبكها لتشكل شحنة مكثفة ومعبرة بشكل أعمق عن الواقع الذي يعتمل في نفوسهم، لا سيما وأنها، أي الدارجة، تشكل خزانا تراثيا متجذرا في صميم النشأة الكلامية المغربية. أما المدافعون عن نقاوة الفصحى وصفائها والحريصون على سلامتها من شوائب الامتزاج، فيؤكدون أن الأمر أعقد من مجرد مزاوجة بين لغتين. إنه قصور في امتلاك أدوات اللغة وعجز في التجوال باسترخاء وتلقائية في رحابها للعثور على الأعمق والأدق من التراكيب والمفردات وافية المراد مبنى ومضمونا. قد نتفق مع الفريق الأول في كون الدارجة بنكهتها وإيقاعاتها المتميزة هي أكثر عمقا ونفاذا بما هي أداة وظيفية للتواصل بين فئات المجتمع، وقد نتفهم إصرار الفريق الثاني على العيش في أمجاد الفصحى وإمبراطوريتها باعتبارها لغة القرآن الكريم وبالتالي الوعاء الروحي للمجتمع. غير أنه من المنصف للغتين أن يجتهد الإبداع في رسم حدود للمزاوجة والتحاور بينهما، والبحث عن نقط الالتقاء في ثنايا اللغتين بما يضفي لمسة جمالية على الكتابة القصصية أو الروائية أو حتى الصحافية. فاقتراض بعض المفردات العامية وتوظيفها في الحوار بين شخوص وشرائح مختلفة لا يشوش في شيء على البناء اللغوي، بدليل أن معظم المبدعين المغاربة والعرب نجحوا ببراعة في توظيف حوارات باللغة الدارجة. غير أن هذا الاقتراض الذي له من الركائز الموضوعية ما يمنحه حجيته في المحاورة الأدبية، يصبح على التو ضارا بنفسه وبالعربية الفصحى حينما يوظف في البناء السردي للنص الروائي أو القصصي. فكون الفصحى غير متداولة في المعيش اليومي لا يعني في شيء الانتصار للدارجة في كل الأجناس الأدبية، وإلا سنفهم ممن يتكئون باعتباطية على الدارجة أنهم لا يمتلكون أدوات الفصحى وغير قادرين على سبر أغوارها. ومن هنا يحتاج التجانس بين الفصحى والعامية من الكاتب أن يرسم لنفسه سقفا محددا من المناورة الإبداعية، لا يجوز تجاوزه وإلا ضاع في متاهات وتنازعات عقيمة. ناهيك عن بعض المفردات التي يوظفها بعض الكتاب الحداثيين والتي لا هي بالعربية ولا بالعامية. فكلمة النبيذ مستبدلة بكلمة «رويجا» لن تسكر القارئ مهما حاول الكاتب شحنها أو تغليفها، لأنها ببساطة مفردة أجنبية وغريبة عن لغة المثقف ولغة الأمي معا، ولا حياة لها إلا في أماكن المجون المنحطة.. وبذلك تنقلب السخرية على الساخر لأنه اقترض المفردة من مصرف وهمي لا عنوان له في النشأة الكلامية المغربية. الرواية المسلسلة «حبك يا الضاوية» التي صدرت قبل أسبوعين للكاتب المعطي قبال (منشورات عيني بنايي، 108 صفحة)، هي نموذج لهذه المزاوجة التي فيها من الإسراف الدارجي ما يوحي بأنها خليط من الكلام العربي العامي، حتى وإن كانت ذات مستوى رفيع من حيث البناء السردي والمحاكاة والتشخيص لنبض الحياة المغربية من خلال «الأنا» الفعلية التي يجسمها البطل، وهو الكاتب، باسمه الحقيقي «المعطي». فلما تقرأ الرواية التي يزج المعطي فيها بنفسه في معترك الحكي إلى جانب الضاوية، الزوجة، التي هي مرآة المرأة المتحررة، تحس بأن الكاتب لم يبارح خريبكة، مسقط الرأس، حتى وإن كان يقيم ويشتغل في القلب الثقافي والفني لباريس. فتفاجئك بمعجمها البدوي العروبي الوفير والمثير للسخرية، ولكنه أيضا غزير يخلط بين السرد والحكي إلى درجة الملل والعقم أحيانا. قد يذهب البعض إلى أن الرواية تسهم في تأسيس جنس روائي يرد الاعتبار للدارجة، بما هي لغة اليومي والغالبية. ولست من المشاطرين لهذا الرأي، مع أنني أقر بالحس الفكاهي الفريد الذي اكتسبه المعطي، كما يقول، في الحلقة وهو صغير بتردده على حلقات الثنائي نعينيعة وولد خرشاش.. وليس من المستغرب أن يسكن بقوة هذا الحكي الفكاهي مخيلته ولغته.