عرفت انتخابات المكاتب المسيرة للجماعات، المنبثقة عن اقتراع 12 يونيو 2009، نوعين من الظواهر الغريبة عن منطق الصراع السليم في عرف المجتمع الديمقراطي، وهكذا عاين الجميع: - من جهة، قيام تحالفات «غير طبيعية» بين الأحزاب، وهذا يعني أن التحالف لم يكن مستنداً إلى تقارب الأفكار والتوجهات والمرجعية أو إلى صياغة رؤية برنامجية مشتركة قابلة للتنفيذ. لقد تم التحالف بين أحزاب كان يظهر، بحسب تصنيف خانات انتمائها الإيديولوجي، أنها لا تتقاسم ذات الأفكار والمنطلقات، ولا رابط بينها، وأنها كانت غارقة في خصومة إيديولوجية وسياسية أبدية وخالدة. - ومن جهة ثانية، تظافرت مجموعة من القرائن والوقائع لتأكيد الاستعمال الواسع للوسائل غير الشريفة وغير النزيهة في صنع أغلبيات التسيير الجماعي، مثل الضغط والتهديد والإغراء واستخدام المال والاحتجاز، واحتمال تورط الأجهزة الإدارية في ممارسات تخرق مبدأ الحيادية الذي يتعين أن تلتزم به الأجهزة المذكورة. وإذا تأكد، مثلاً، صدق التصريح الأول الذي أدلت به المستشارة فدوى المنوني بخصوص انتخابات مجلس وجدة، فإن ذلك يعني وجود قرار بضبط خارطة الأجهزة المسيرة وفق مقتضيات مسبقة لا علاقة لها بإرادة الناخبين وحرية المنتخبين في الاختيار. ومن تلك المقتضيات، منع الإسلاميين من رئاسة مدن الرباط والدار البيضاءووجدة. الرباط لأنها العاصمة، ولا يمكن السماح لحزب إسلامي بهذا الامتياز. والدار البيضاء لأنها القلب النابض للبلاد، فوجود عمدة من حزب العدالة والتنمية بالدار البيضاء هو، في نظر البعض، ربما بمثابة صعود الحزب إلى موقع الوزير الأول. ووجدة قريبة من الجزائر؛ ومن الناحية الرمزية، لا يمكن أن تفضي الانتخابات إلى وضع يوحي بوجود المغرب على أبواب السيناريو الجزائري، وإن رياح ذلك السيناريو بدأت تهب من الشرق وتتسلل إلى التراب الوطني عبر حدوده مع جارتنا الجزائر. إن هناك الكثير من العناصر التي تفيد بأن الحزب الإسلامي يخضع لمعاملة تختلف عن معاملة بقية الأحزاب، فهو -في نظر البعض- غير كامل الأهلية الحزبية، وما يُسمح به لغيره لا يُسمح له به، وعليه أن يدرك ذلك تلقائياً، وأن يتذكر دائماً أن الظروف الخاصة التي دخل بها الحقل السياسي لا زالت تنتج أثرها؛ وإذا لم يفعل، فإن وسائل مواجهته ستزداد حدة وعنفاً. وبصدد حكاية التحالفات، رأينا أن الأحزاب المغربية عموماً، على اختلاف ألوانها وشعاراتها وتجاربها التاريخية، تتصرف كما لو كانت جميعاً عبارة عن حزب واحد متعدد التسميات، فالجميع -تقريباً- حرر تحالفاته من أي إكراه أو ضابط، ورضي أن يكون حليفاً لأي كان، بدون مراعاة التباينات الإيديولوجية أو البرنامجية، وبدون أي احترام للاعتبارات التالية: - الاعتبار الإيديولوجي والسياسي الذي يفرض أن تكون التحالفات ثمرة الوعي بوجود إرادة مشتركة للسير موضوعياً كأحزاب في طريق واحد، ووجود اتفاق على خط السير، ورسم للمهام والأهداف التي تقرر السعي إلى بلوغها سوية، واستنادها إلى حظوظ واقعية جيدة على الأرض. - الاعتبار الأخلاقي الذي يتنافى، مثلاً، مع وجود قوة نعتبرها خطراً على الديمقراطية ونصدر في حقها أشنع النعوت، ثم نضع يدنا في يدها في أول مناسبة لتسيير مجلس جماعي. فهذا يقدم الصراع السياسي في صورة استعراض مسرحي لا علاقة له بالحقيقة والواقع. - الاعتبار الانتخابي، إذ لا يعقل، مثلاً، أن يحرم حزب منحه الناخبون الأغلبية النسبية من رئاسة مجلس جماعي، وتؤول تلك الرئاسة إلى حزب مرتب في مؤخرة لائحة الفائزين. يمكن أن تكون هناك استثناءات طبعاً، فنحن هنا لسنا بصدد قواعد قانونية ملزمة. ولكن تشكيلة الهيئات المسيرة يتعين أن تكون مطابقة، ما أمكن، للمعطيات الانتخابية التي أفرزها الاقتراع، وأن تخضع لحد أدنى من الانسجام والتماسك واحترام الناخبين، فالناخب الذي صوت على الحزب الاشتراكي الموحد، مثلاً، سيصدمه بكل تأكيد تحالف هذا الأخير بعد ذلك مع الحركة الشعبية. هناك ثلاث جهات حزبية كانت، على الأقل، واضحة في التحديد المسبق لإطار تحالفاتها: - فحزب الأصالة والمعاصرة أعلن عن اختياره التحالفي بدون التواء أو غموض، فأبدى استعداده للتحالف مع الجميع باستثناء حزب العدالة والتنمية. إن من حق أي حزب سياسي أن يحدد خصمه الأساسي، وأن يعمل على إضعافه وهزمه وتفنيد أطروحاته وفضح تناقضاته، المهم ألا يستند في ذلك إلى وسائل غير مشروعة أو منافية لأصول الصراع الديمقراطي. - وحزب العدالة والتنمية من جهته، أعلن، على الأقل عبر خطابات بعض قادته، عن فتح باب التحالف مع الجميع، ولم يرَ في هوية أي من المكونات السياسية الأخرى ما يفرض التزام نوع من الحذر في التحالف مع تلك المكونات. إننا، على كل حال، نقدر صراحة الحزبين المذكورين. - وتحالف اليسار الديمقراطي، المشكل من ثلاثة أحزاب معارضة، منع على مناضليه، في دورية خاصة، أي نوع من التحالف مع أحزاب من خارج «الصف الوطني الديمقراطي» وعدّد أحزاب هذا الصف بالاسم. لم يترك تحالف اليسار لمستشاريه المحليين أي هامش للتصرف وتعامل مع مسألة التحالفات بصرامة تنم عن نزعة تغليب المبادئ، بقي فقط أن تُترجم تلك الصرامة إلى إجراءات في حق من ثبتت مخالفتهم للقواعد التي وضعها التحالف لتدبير إشكالية التحالفات. أما بقية الأحزاب، فإنها اختارت أن تركب لغة الغموض واللعب على الكلمات، ومحاولة إخفاء التوجه البراغماتي الذي عبر عنه صراحة قياديو حزب العدالة، والتصرف ب«مرونة» زائدة في تكوين التحالفات. أغلب الأحزاب، إذن، فضلت، لتبرير المرونة الفائقة وحرية التصرف بدون حدود في مجال التحالفات، أن تنتج خطاباً قائماً على قاعدتين: الأولى هي «خصوصيات المناطق»، والثانية هي «أولوية محاربة الفساد». فبناء على القاعدة الأولى، أظهرت القيادات قدرة عجيبة على التجاوب مع آراء المناطق وإرادات «القواعد» التي ظلت تُلغى من الحساب في العديد من المناسبات، واعتبرت أن سلطة الحسم في أكثر قضايا التحالفات بين المستشارين يجب أن تعود إلى الأعضاء «في عين المكان». وبناء على القاعدة الثانية، أصبح شعار محاربة الفساد طريقاً سالكاً لقبول التحالف مع أي كان بدعوى أن الناس الشرفاء موجودون في كل الأحزاب. إن الانطلاق من أن لكل منطقة خصوصيتها يفضي، عملياً، إلى تقرير أن لكل منطقة أحزابها التي ليست مجرد فروع لأحزاب وطنية، وهذا عين الخلط. وإن التصريح بأن الناس الشرفاء موجودون في كل الأحزاب إذا كان صحيحاً، فهو يجب ألا يحجب عنا حقيقة كون التحالف السياسي يكون مع أحزاب وبين أحزاب، وليس بين أشخاص في أحزاب. فما عساه يصنع شخص نزيه يناهض الفساد، إذا كان منتمياً إلى بنية حزبية تمثل ثقافةُ الفساد عمودَها الفقري. ومن المؤلم حقاً أن نرى أحزاباً، في حملتها الانتخابية، تحدد للناخبين من تعتبرهم «رموز الفساد» بالمنطقة، وتقول في حقهم ما لم يقله مالك في الخمر، ثم تُسارع بعد إعلان النتائج إلى الاصطفاف في خندقهم والتحالف معهم، بدون أي حرج، كأنما المواطن المغربي بلا ذاكرة. إن الصراحة تقتضي القول بأن التفسير الحقيقي للتحالفات غير الطبيعية يكمن، ربما، في وجود دافعين اثنين لدى المستشارين: - الدافع الأول هو اعتبار أن الفوز بمقعد المستشار في مجلس جماعي لا قيمة له، إذا لم تكن هناك مساهمة في التسيير وعضوية بالمكتب. ولهذا أصبح هاجس التسيير بأي ثمن طاغياُ، فبواسطته يضمن المستشار بقاءه وتجديد ولايته، وبه يؤمن خدمة كتلة من الزبناء الخاصين الذين يتحولون إلى أتباع قارين فيما بعد. فلا أفق انتخابي لمن لا يباشر التسيير، والمستشار في موقع «المعارضة» محكوم عليه بالتهميش. لقد غدا الانتداب الجماعي هو التسيير، لتثبيت المكاسب الانتخابية والتطلع إلى مكاسب انتخابية جديدة، فكأن لسان حال البعض يدعونا إلى سن قانون جديد يُكتفى فيه بالتصويت فقط على أعضاء المكاتب، فما عاد أحد تقريباً يرضى بالتواجد في المجلس كعضو عاد، فكأنه في هذه الحالة لم يفز أصلاً. - الدافع الثاني هو نشدان المصالح الخاصة والشخصية للمنتخبين، والتي تُقدّم محلياً حتى على مصلحة الحزب. لقد نما طموح ونفوذ المنتخبين داخل أحزابهم، ولم يعد بوسع الهياكل الحزبية أن تلجم أو تحد ذلك الطموح، وانتهت تلك الهياكل إلى البحث عن صيغ «سياسية» مقبولة لمراعاة تلك المصالح. فالأعيان المنتخبون في جل الأحزاب يسايرون الحزب مادام يساير مصالحهم الخاصة، وإذا ما أصدر تعليمات تضر بتلك المصالح، غادروه إلى غيره وأبحروا صوب وجهة أخرى، مما جعل الأحزاب تتحول إلى مجرد أدوات تعبير عن محصلة المصالح الخاصة لأفراد نخبها وأعيانها ليس إلا، وضمرت فكرة نشدان المصالح العليا الموضوعية والمجردة للحزب كهيئة اعتبارية وكأداة لخدمة مشروع ما. إن التحالفات غير الطبيعية تؤدي إلى المزيد من العزوف السياسي للناخبين، وتنذر بموت السياسة بوصف الأخيرة عبارة عن تعددية في الحلول الموجهة إلى ذات القضية وتعددية في الأجوبة الموجهة إلى ذات السؤال. ومثل تلك التحالفات يعني وكأن كل الفاعلين – رغم تعددهم الشكلي – لهم نفس الجواب ونفس البرنامج ونفس التصور لتدبير الشأن العام. إن المفروض أن نكون في المغرب، كما في كل أرجاء العالم، مختلفين في طرائق التسيير الحكومي وأولوياته وبرنامجه، بينما يظهر اليوم أن دخول الحركة الشعبية المحتمل إلى الحكومة، مثلاً، لا يطرح لدى الأحزاب المشاركة أي قلق بصدد ما يمكن أن يُفضي إليه ذلك من تغيير في تلك الطرائق والأولويات والبرنامج. فلم يعلن حزب منها أنه فتح نقاشاً عاماً في صفوفه لإمكان إعادة تقديره العام لموقف المشاركة على ضوء مثل هذا المستجد. وإن المفروض، أيضاً، أن نكون مختلفين في تسيير مدينة من المدن: فالموقف من سلطة الوصاية وآلياتها يختلف بين من يعتبر الوصاية المتسعة مقبولة، لأننا في نظام سياسي أبوي ونسلم بجدوى استمرارية هذا الطابع، وبين من يعتبر أن استراتيجية النضال الديمقراطي تروم «دمقرطة» أجهزة الدولة نفسها؛ والموقف مختلف بصدد المهرجانات ونوع الفن والإبداع والفرق التي يتعين تعهدها وتشجيعها؛ والموقف مختلف بصدد جدوى أو عدم جدوى خوصصة القطاعات ذات العلاقة بالاحتياج الحيوي كالماء، وبصدد مآل التدبير المفوض؛ والموقف مختلف بصدد جدوى ووتيرة الانتقال من نمط الديمقراطية التمثيلية الكلاسيكية إلى نوع من الديمقراطية التشاركية؛ والموقف مختلف بصدد التعامل مع مؤسسة القانون، وهل يجوز التساهل لضمان زبناء؛ والموقف مختلف بصدد وظيفة المستشار و»المسافة الضرورية» مع السلطة، وبصدد مفهوم «الخدمة العامة»، وبصدد برامج المساواة بين الجنسين ومقاربة النوع؛ والموقف مختلف بصدد حدود ودور الهوية والماضي ومآل عدد من الطقوس التقليدية والتعامل كجماعات محلية مع أضرحة الأولياء والمواسم؛.. إلخ. عندما نتغاضى بكل سهولة عن اختلافاتنا المفترضة ونبدي استعداداً عاماً وغير مشروط لإبرام تحالفات مع أي كان، ويصبح ذلك سلوكا سياسياً سائداً، فهذا يعني أننا نقبل مسبقاً بالتنازل عن برامجنا ورؤانا الخاصة، وهذا هو الوضع الغالب، أو نقبل باضطراب السير الجماعي نتيجة تضارب التوجهات، أو نقبل باللجوء إلى السلطة لضبط الإيقاع و«لمّ الصفوف»، ونعتبر بالتالي، كثابت مشترك بيننا، أن تأمين مصالحنا الانتخابية فوق أي اعتبار آخر. وبذلك، عملياً، نسير رويداً رويداً نحو تشخيص الانخراط في شيء أقرب إلى حزب واحد أوحد، يضمنا جميعاً، لا طعم له ولا رائحة!