زار المؤرخ الإسرائيلي، شلومو ساند، المغرب الأسبوع الفارط وشارك في عدد من اللقاءات الحوارية للتعريف بكتابه (كيف اختُلق الشعب اليهودي) وبما جاء به من مضامين لها أهميتها التاريخية والعلمية لاسيما أنها تتعلق بموضوع حساس مرتبط بصراع الشرق الأوسط والسليبة فلسطين. يعود أستاذ التاريخ بجامعة تل أبيب إلى الأزمنة الغابرة ليتفحص التاريخ اليهودي والهجرات القديمة، ثم يقارن بين أحداث الماضي وأحداث الزمن المعاصر على ضوء الحفريات الأركيولوجية والكتابات التاريخية، ليخلص إلى أن مفهوم «الشعب اليهودي» مفهوم مختلق ليس إلا، وأن مفهوم «الأمة» لا يستند إلى أساس علمي ثقافي حقيقي، بقدر ما هو مفهوم تولد عن إرادة مبيتة في إنشاء «أمم» داخل حدود معينة بعد أن تطورت المفاهيم القانونية وتغيرت أحوال الدول وكبرت المطامع وزادت حدة الهواجس الأمنية. يعتبر المؤرخ الإسرائيلي أن «الشعب اليهودي» تبلور بشكل كبير بداية من النصف الثاني من القرن التاسع عشر خاصة من قبل المؤرخين اليهود الألمان، الذين فبركوا حكاية العودة إلى أرض فلسطين ومهدوا، بالتالي، لقيام الدولة الإسرائيلية على أساسات إيديولوجية وفكرية ثم استيطانية وعسكرية. ربما لم تكن أطروحة شلومو جديدة، كما أقر بذلك هو نفسه، لكن الجدة في الموضوع هي أنه تجرأ على رفع هالة القدسية عن موضوع أضحى اليوم من طابوهات الفكر العالمي بسبب اللوبيات اليهودية والإسرائيلية. وفي الوقت الذي تجرأ فيه هذا المؤرخ اليهودي على فضح هذه الأسطورة الكاذبة من صلبها، لم نسمع للإعلام العربي إلا القليل من تردد الصدى بعد أن مر على صدور الكتاب ما يقارب السنتين، كما لم نقرأ من تعليقات المفكرين العرب عليه إلا النزر القليل. وهنا المفارقة الغريبة. لقد قامت إسرائيل، أو لنقل سلُبت فلسطين، بسبب فكرة كاذبة جند الفكر الصهيوني كل ما يملك من طاقات ومكر تاريخي ليطبقها على أرض الواقع، فصارت الفكرة حقيقة ألغى بها الكيان الإسرائيلي حقيقة أخرى، هي حقيقة الشعب الفلسطيني؛ فصارت أكثر المفاهيم بعثا على الحزن والأسى من نصيبنا نحن العرب: النكبة، الهزيمة، الانتكاسة... حفنة من المنظرين وكثير من الأوهام وعمل كبير انتهى بخلق أسطورة بات العرب والمسلمون يحضنونها اليوم بعد أن عجزوا عن مقاومتها وهم أصحاب الحقيقة الأصل. في مقابل ذلك، انطوينا على أنفسنا، نجتر نكباتنا، ونصارع أوهامنا، ونلهث وراء سراب أحلامنا ونصرنا الذي رسمه لنا كتبة النصوص الرسمية والمحررون الذي يحولون، ببراعة، الهزيمة إلى نصر. يقول شلومو إن المعركة المقاومة - الحقيقية التي سيواجهها كتابه هي تلك التي ستجري على أرض أمريكا ضد اللوبي الإسرائيلي الأمريكي بعد أن يصدر كتابه باللغة الإنجليزية مطلع أكتوبر القادم. وفي قوله هذا كل الصحة لأن بقاء أساطير إسرائيل تؤلف، اليوم، في معاهد الأفكار الأمريكية ودوائر القرار العليا هناك، ولأن كتابا يقول بأسطورة «الشعب اليهودي» في قلب أمريكا الإسرائيلية لن يكون من السهل احتضانه، كما سبق وأن حدث مع كتب أخرى كشف أصحابها ألاعيب اللوبي الإسرائيلي هناك، لاسيما أن الكتاب يضرب الأساس الديني لقيام إسرائيل. لكن، وراء «غيرة» اليهود على أساطيرهم تتجلى العزيمة والإصرار على استكمال مشروع الدولة اليهودية ويتجلى، كذلك، الضعف والوهن الفكري العربي الإسلامي. فنحن لا نستطيع مجابهة الفكر بالفكر، ولا العمل بالعمل؛ كل ما نحن مجتهدون فيه هو الانفعال وردود الفعل العاطفية التي لا يمكنها إلا أن تزيد من قتامة صورتنا. بالأمس القريب، فقط، اهتز الشارع الإسلامي احتجاجا على الرسومات الدانماركية المسيئة لرسول الإسلام، وتحول الاحتجاج السلمي إلى غليان ثم عنف وتخريب فأزمة استغلتها بعض الأطراف لمصلحتها الخاصة. ولم يكن من الآخر إلا أن أمعن في استفزاز عاطفتنا بعدما أدرك أننا أمة تفيض عاطفة، وصراخا وبكاء ونحيبا... وانفجارا أيضا. يقول شلومو، كذلك، ليست الكتب هي ما يغير الأشياء، بل تغير الكتب الأشياء بعد أن نسعى إليها بدافع ما. فهلا قلبنا القول وسعينا إلى الكتب ما دمنا لم نستطع أن نتغير من تلقاء ذواتنا؟