فيليبي غونزاليث ماركيث، اسم صنع الانتقال الديموقراطي في إسبانيا وأخرجها من النفق الذي عاشت فيه طيلة عقود طويلة، فقصته لا تعدو كونها قصة ابن بائع الحليب الذي ولد في مدينة إشبيلية وبها تربى، مقسما وقته بين الدراسة التي لم يكن لامعا فيها وقيادة شاحنة العائلة لجمع الحليب من صغار المزارعين، بل كان يأتي إلى الجامعة وسترته التي تحمل بقع الحليب تدل على عمله، لكن ذكاءه وقوة شخصيته سيجعلانه يلمع مثل نجم صغير سيكبر مع الوقت ليتحول إلى رمز للديموقراطية في العالم بأسره. إنها تفاصيل حياة تبدو عادية لرجل غير عادي. خرج أدلفو سواريث من انتخابات يونيو 1977 بانتصار مبين دعمه في المشهد السياسي الإسباني، فجميع أحزاب المعارضة قامت بالتوقيع على مواثيق المونكلوا التي كانت تروم إيجاد أجوبة جماعية من طرف جميع القوى الديمقراطية على المشاكل الاقتصادية والاجتماعية وكذا الوقوف في وجه الإرهاب الذي كانت تتخبط فيه إسبانيا، كما أن سواريث استغل الرغبة الجامحة لدى سانتياغو كاريو، زعيم الحزب الشيوعي في الحصول على اتفاقات بعد النتائج المتواضعة التي حصل عليها حزبه في الانتخابات وهو ما سيمكن سواريث من اكتساب نفوذ وتأثير سياسيين في الساحة، خصوصا أن الشيوعيين يسيطرون على نقابة اللجان العمالية. وساهمت هذه المواثيق الموقعة في دعم الأنشطة الحكومية لحزب الوسط الاجتماعي الذي يترأسه ادلفو سواريث وهو ما ساهم في تحقق توازن وخلق ثقة اقتصادية، فنسبة التضخم تراجعت بأربع نقاط وكذلك تقلص العجز التجاري، وبالمقابل فلم يتم اتخاذ مجموعة من الإجراءات الاجتماعية والتربوية والمؤسساتية بيد أن الاتفاق الحاصل بين مختلف القوى السياسية كان أشبه ب«كارتا ماغنا» أو تعهد من أجل إرساء الديمقراطية. و تشكل مجلس الكورتيس عام 1977، وكان الهدف الرئيسي هو تدوين دستور للبلاد. الموضوع حظي بتوافق جميع ألوان الطيف السياسي باستثناء الحزب الوطني الباسكي الذي لم يكن له أي ثقل في لجنة الدستور المشكلة، وقال فيليبي غونزاليث حول هذا الموضوع «نحن في الحزب الاشتراكي تركنا مقعدا ضمن المقعدين اللذين حصلنا عليهما وفق الكوطا التي جرى بها العمل تركنا مقعدنا للكتالانيين، فيما رفض حزب الوسط الاجتماعي الذي يتوفر على ثلاثة مقاعد أن يترك واحدا للقوميين الباسك»، وكان من الطبيعي أن يصوت الحزب الوطني الباسكي ضد الدستور في هذه الحالة، ورغم ذلك فقد تحول الدستور الذي تم التصويت عليه إلى الأداة الرئيسية لدمقرطة البلاد. ورغم كل ذلك، فقد كان التوصل إلى اتفاق مع حزب الوسط الاجتماعي الذي يرأسه سواريث صعبا جدا بحكم أن ممثل الحزب الاشتراكي في اللجنة الدستورية بيسيس باربا اضطر للانسحاب مرتين، وكان يلح على أن يكون الدستور فعلا تعدديا حتى لا يجد الاشتراكيون أنفسهم مجبرين على تعديله عندما يصلون إلى السلطة وفي الأخير غير حزب الوسط الاجتماعي من مواقفه في 17 ماي 1978 بعد عشاء جمع قيادييه مع فليبي غونزاليث وألفونسو غيرا. ومنذ تلك اللحظة بدأ النقاش حول الدستور الذي استمر من شهر ماي إلى أكتوبر من السنة نفسها، كان العمل شاقا وتطلب الأمر من الجميع ساعات من العمل الليلي المتواصل حتى يمكن التوصل إلى اتفاقات موسعة ومستقرة يساهم في صوغها جميع أعضاء الفرق السياسية، وتمت المصادقة على الدستور عن طريق استفتاء شعبي شارك فيه حوالي 18 مليون ناخب امتنع حوالي 32 في المائة منهم عن التصويت وهو الرقم الذي وصل إلى 50 في المائة ببلاد الباسك، وكشفت صناديق الاقتراع عن تصويت 87 في المائة لصالح الدستور فيما صوت حوالي 8 في المائة ضده. وبمجرد ما صودق على الدستور تم الإعلان عن حل غرفتي البرلمان وتمت الدعوة إلى انتخابات جديدة في مارس 1979، وكشف أحد العقول المنظمة لحملة الحزب الاشتراكي «أردنا أن نحكم لكن في الوقت نفسه كنا متخوفين من أن يحصل شيء ونتحمل مسؤولية الحكم، لذلك لم يكن لدى غونزاليث رغبة في القيام بحملة» وكانت النتائج كما كانت وأعطت الفوز لحزب الوسط الاجتماعي الذي حصل على 168 مقعدا مقابل 121 مقعدا للحزب الاشتراكي، وبذلك بدأ سواريث أول دورة في ظل إسبانيا الديمقراطية وفي خطاب التنصيب في 30 نونبر بدأت مرحلة مختلفة عن سابقتها. وخلال 17 ماي 1979 عقد مؤتمر جديد للحزب الاشتراكي الإسباني الذي انتهى بتأكيد الخط الماركسي للحزب ضدا على إرادة الكاتب العام فيليبي غونزاليث منذ بداية الانتقال الذي كان يريد أن يتخلى الحزب عن هذا التوجه حتى يستطيع التموقع في وسط اليسار، وتماما مثلما حصل في البرتغال بعد أربعة عقود من الديكتاتورية فقد كان لزاما على الاشتراكيين أن يتعاركوا من أجل إيجاد موقع لهم داخل اليسار، فيظل مناسبة كبيرة مع الشيوعيين الذين قضوا سنوات أطول في العمل السري والنضال السياسي. التموقع في وسط اليسار لم يكن امرا سهلا بالنسبة للاشتراكيين في تلك الفترة، لذلك كان واجبا عليهم في البداية الدفاع على خط سياسي مناهض للامبريالية والرأسمالية مع أخذ المسافة من القطبين والدفاع عن حركات التحرر العالمية، لكنهم كانوا يعلمون أنه يمكنهم الوصول إلى السلطة فقط في حالة تموقعهم في وسط اليسار، وفي الحالة الإسبانية أدرك غونزاليث منذ وقت مبكر أن الطريقة الوحيدة أن يزيح الحزب كلمة ماركسية من مقرراته، وقبل المؤتمر بمدة عبر عن هذا المقترح علانية وفي الجهة الأخرى يوجد عدد كبير من المناضلين الذين التحقوا بالحزب بعد وفاة فرانكو وبينهم عناصر تلقت تكوينا ماركسيا وتعتقد أن التخلي عن الخط الماركسي للحزب سيجعله بدون هوية.