فيليبي غونزاليث ماركيث، اسم صنع الانتقال الديمقراطي في إسبانيا وأخرجها من النفق الذي عاشت فيه طيلة عقود طويلة، فقصته لا تعدو كونها قصة ابن بائع الحليب الذي ولد في مدينة إشبيلية وبها تربى، مقسما وقته بين الدراسة التي لم يكن لامعا فيها وقيادة شاحنة العائلة لجمع الحليب من صغار المزارعين، بل كان يأتي إلى الجامعة وسترته التي تحمل بقع الحليب تدل على عمله، لكن ذكاءه وقوة شخصيته سيجعلانه يلمع مثل نجم صغير سيكبر مع الوقت ليتحول إلى رمز للديموقراطية في العالم بأسره. إنها تفاصيل حياة تبدو عادية لرجل غير عادي. كان انقسام الحزب الاشتراكي إلى تيارين، التيار «التاريخي» وتيار المجددين، اجبر القيادة الخارجية على الاعتراف بوجود التيار الثاني، خلال المؤتمر المنعقد في يناير 1974، والواقع أن الفترة التي كانت تفصل بين مؤتمر 1972 ومؤتمر 1974 لم تكن سلمية أبدا، فقد تخللتها العديد من المواجهات مثل تلك التي تواجه فيها ألفونسو غييرا المسؤول عن منشور «الاشتراكي» مع ناشره في فرنسا ارسينيو خيمينث، فبعبارات الأول، فإن الثاني كان يريد نشر ما يتماشى مع أهوائه، وقدم فيليبي غونزاليث الدعم لغييرا في هذه المواجهة، كما كانت هناك مواجهات بين قادة الحزب في اشبيلية والتيار الديمقراطي الاجتماعي داخل الحزب الذي كان يمثله آنذاك كاستيانو وموخيكا. و هذه الاختلافات التي ظهرت حول الخط السياسي للحزب، كانت تخفي في الواقع حربا تروم السيطرة على قيادة الحزب، وهكذا ترك غييرا اللجنة التنفيذية في نهاية عام 1972 والتحق به فيليبي غونزاليث في أبريل من عام 1973، وستتعقد الأمور أكثر عندما سيتعرض ريدوندو الذي كان أحد أبرز الوجوه في القيادة الجديدة إلى الاعتقال من طرف قوات الأمن الفرنكية وبقي يقبع في السجن طيلة خمسة أشهر، ورغم أن غييرا وفيليبي قدما استقالتهما شكليا فقد استمرا في العمل من أجل إرساء أسس الحزب الاشتراكي في الداخل، وفي فندق «خيثكيبيل» بفوينترابيا، في شتنبر1974 استطاع الاشتراكيون في الأندلس وبلاد الباسك الاتفاق فيما بينهم على التشكيلة القيادية التي يجب أن تخرج عن المؤتمر، وهو ما عرف باتفاق «بيتس»، وكان الاتفاق ينص على أن يكون فيليبي غونزاليث الكاتب العام ونيكولاس ريدوندو، كاتب عام للتنظيمات وموخيكا مكلفا بالتنسيق ولوبيث البيثو بالإدارة وتيكسي بينيغاس بالشباب وكاستيانو مكلفا بالعلاقات الدولية، وما كان ظاهرا في هذه التشكيلة الجديدة أن الأندلسيين ظفروا إضافة إلى الكتابة العامة للحزب بثلاثة مقاعد في اللجنة التنفيذية للحزب، كما أن الباسكيين بالاضافة الى وضعهم لريدوندو في موقع استراتيجي استطاعوا وضع ثلاثة أشخاص في القيادة بدورهم. وكان أول القرارات التي اتخذتها القيادة الجديدة بعد مؤتمر 1974، هو عدم الانخراط في اللجنة الديمقراطية التي كانت بمثابة هيئة توحد المعارضة، من أجل توحيد الصفوف بهدف مواجهة الفرنكاوية تحت قيادة الحزب الشيوعي الاسباني الذي كان التنظيم السري الأحسن تنظيما، وكان الاشتراكيون الإسبان واعين بضرورة أن يتمتعوا بالاستقلالية عن الحزب الشيوعي، لكن فيليبي غونزاليث ومنذ عام 1974 حتى وفاة الجنرال فرانكو كان يواجه معركة الحصول على المصداقية باعتباره زعيما للمعارضة في اسبانيا والوصول إلى توحيد الاشتراكيين. في تقرير سبق لفيليبي غونزاليث قراءته حول الوضعية السياسية في إسبانيا اعتبر أنه لا بد من قطيعة ديمقراطية مع الماضي من أجل دمقرطة البلاد والتوصل إلى تعاقد من اجل الديموقراطية، فالمفهوم الأول يفترض وضع حكومة مؤقتة التي تضع حدا لجميع المؤسسات المشكلة في عهد الجنرال فرانكو، والمفهوم الثاني يقود بالضرورة إلى التفاوض مع الفرنكية من أجل نزع مجالات للحرية. وقرر غونزاليث عدم الدخول في اللجنة الديمقراطية بحكم أن هذه الأخيرة تطالب بقطيعة جذرية مع النظام الفرنكي، ولم يكن سهلا أن يحتفظ المرء ببرودة الدم ويقوم بتشخيص واقعي للأوضاع التي كانت تعيش فيها إسبانيا في تلك الفترة، وكذا الانفلات من قبضة التطرف في مواجهة النظام القائم، وتزامن هذا التحليل الذي قام به فيليب غونزاليث للأوضاع مع موجة الإصلاحات التي باشرها رئيس الحكومة آنذاك ارياس نبار، الذي استطاع أن يقنع النظام بضرورة القيام بإصلاحات عاجلة حتى تتفادى إسبانيا تكرار نفس السيناريو الذي عاشت على إيقاعه البرتغال. وفي ظل هذه الأجواء السياسية اعتقل فيليبي غونزاليث في 23 أكتوبر 1974. بمدينة اشبيلية وقضى ليلة بأكملها في مخفر الشرطة، والهدف من الاعتقال هو إبلاغ النظام رسالة مفادها أنها تعرف الكاتب العام للحزب في الداخل رغم أن انتخابه كان سريا، وتراقبه وقادرة على اعتقاله في أي وقت تريد، لذلك أعادت اعتقاله مرة أخرى في مدريد إلى جانب زعماء آخرين معتدلين للمعارضة وهم رويث خيمينيث وخيل روبليس وانطونيو كانياس، عندما كانوا بصدد البحث عن بديل لجنة الديموقراطية التي يسيطر عليها الشيوعيون عبر وضع لبنات أرضية أطلق عليها اسم «التجانس الديمقراطي».