فيليبي غونزاليث ماركيث، اسم صنع الانتقال الديمقراطي في إسبانيا وأخرجها من النفق الذي عاشت فيه طيلة عقود طويلة، فقصته لا تعدو كونها قصة ابن بائع الحليب الذي ولد في مدينة إشبيلية وبها تربى، مقسما وقته بين الدراسة التي لم يكن لامعا فيها وقيادة شاحنة العائلة لجمع الحليب من صغار المزارعين، بل كان يأتي إلى الجامعة وسترته التي تحمل بقع الحليب تدل على عمله، لكن ذكاءه وقوة شخصيته سيجعلانه يلمع مثل نجم صغير سيكبر مع الوقت ليتحول إلى رمز للديموقراطية في العالم بأسره. إنها تفاصيل حياة تبدو عادية لرجل غير عادي. كان أكبر النجاحات التي حققها فليبي غونزاليث في الفترة الأخيرة لحكمه على المستوى الإعلامي وعلى مستوى المشهد السياسي الدولي هو احتضان مدريد في أكتوبر 1991 مقر الجولة الأولى من المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين من أجل السلام في الشرق الأوسط والتي حضرها جورج بوش الأب وغورباتشوف، رئيس الاتحاد السوفياتي المنحل والأمين العام للأمم المتحدة وأهم القادة الإسرائيليين والفلسطينيين، ومنذ سنة 1986 أقامت إسبانيا علاقات ديبلوماسية مع تل أبيب، كما اعترفت في نفس السنة بالسمة الديبلوماسية لمكتب منظمة التحرير الموجود في إسبانيا منذ نهاية السبعينيات من القرن العشرين، وتوج لقاء مدريد بالتوقيع بعد ذلك على اتفاقية أسلو عام 1993، ورغم أنه لم يكتب لها النجاح الكامل بيد أنها شكلت محصلة إيجابية للمجهودات المبذولة بحثا عن السلام في منطقة الشرق الاوسط. وتجسد الانفتاح الديبلوماسي الإسباني أيضا في التوقيع عام 1991 على اتفاقية الصداقة والتعاون مع المغرب، وخلال فترة حكم الاشتراكيين تم التوصل الى إرساء عرف عقد لقاءات قمة دورية بين المغرب وإسبانيا ونفس الشيء مع ألمانيا وإيطاليا والبرتغال وفرنسا، كما أن غونزاليث تحالف مع دول الحلف خلال حرب الخليج الثانية، وهو الحلف الذي كانت تقوده الولاياتالمتحدةالأمريكية عبر إرسال ثلاث بوارج حربية إلى المنطقة، إضافة إلى تقديم الدعم اللوجستي إلى الجيوش الموجودة في المنطقة، كما سمح باستعمال المقاتلات الأمريكية لمطارات عسكرية إسبانية. لكن هذه الفترة الأخيرة من حكم فيليبي غونزاليث لم تكن خالية من فضائح مثل تفجر قضية «الجال» والتي كشف فيها عن عصابات أمنية إسبانية تشتغل خارج القانون وتقوم باختطاف وتعذيب نشطاء منظمة إيتا، وكذلك قضية «خوان غييرا» أخ نائب رئيس الحكومة الذي استغل طيلة سبع سنوات المكتب الرسمي لمندوبية الحكومة في الأندلس من أجل التأثير في سير بعض المشاريع لخدمة مصالحه، وتحت الضغط استجاب ألفونسو غييرا لطلب المعارضة بإنشاء لجنة للتقصي، رغم أن مندوب الحكومة في الأندلس اعترف أنه كان سكرتيرا شخصيا لألفونسو غييرا الذي طلب مكتبا خاصا بأخيه، وكان ألفونسو غييرا يعرف بكونه مكيافيلي الحكومة، واضطر في النهاية إلى الاستقالة من منصبه، ونظرا لنفوذه في الحزب فقد بذل جهدا من أجل تحويل الحزب الاشتراكي ضد حكومة غونزاليث، وبات فليبي غونزاليث يشعر وكأن الحزب انقسم إلى نصفين، وبات الرأي العام الإسباني منزعجا من سلسلة من الفضائح التي بدأت ولم تنته، منها كشف تمويل الحزب الاشتراكي بألف مليون بسيطة بشكل غير مشروع، وأقر غونزاليث أنه لا يعرف أي شيء عن هذه القضية. و في ماي 1992 قامت النقابات بإضراب عام ثالث ضد الحكومة، وفي ظل هذه الأجواء دعا غونزاليث إلى إجراء انتخابات عامة في يونيو 1993، وأجريت الحملة الانتخابية بعيدا عن أدوات الحزب الاشتراكي الذي كان خاضعا لسيطرة أنصار «الفونسو غييرا» واختار شعار «من أجل تغيير التغيير»، كما أن ترشيح القاضي بالتسار غارثون الذي كان مكلفا بقضية الجال كان يعني أن فليبي غونزاليث يناهض الفساد، واستطاع الاشتراكيون أن يحصدوا 159 مقعدا، بمعنى 16 مقعدا أقل من الانتخابات التشريعية السابقة في إسبانيا مقابل حصول الحزب الشعبي على 141 مقعدا، وهو ما مثل بداية العد العكسي لرحيل الاشتراكيين عن المونكلوا وصعود نجم اليمينيين. و شكلت آخر حكومة لفليبي غونزاليث، وهو التشكيل الذي لم يمر دون صعوبات حقيقية بالنظر إلى الانقسام والصراعات الموجودة داخل الحزب الاشتراكي الإسباني، لكن مسلسل الفضائح الذي لم ينته حتى بعد إجراء الانتخابات عجل برحيل وزير الداخلية خوسي لويس كوركويرا بعد شهور قليلة من تعيينه في منصبه، واضطر خلفه انطونيو اسونسيون إلى المغادرة بدوره بسبب قضية رولدان في أبريل 1994 وعوض بخوان البيرتو بيلوتشي، لكن شهرا بعد ذلك سيستقيل وزير الفلاحة ونائب رئيس الحكومة و المرشح لخلافة غونزاليث ناثريس سييرا والمسؤول عن الدفاع خوليان غارثيا بارغاس بعدما تم فضح عمليات التنصت التي قامت بها الاستخبارات الإسبانية، وفي ماي 1994، ترك القاضي بالثسار غارثون منصبه كمكلف بالمخطط الوطني حول المخدرات، ومنذ تلك الفترة صار غارثون ينتقذ فليبي غونزاليث الذي اتهمه باستخدامه كحصان سبق في الحملة الانتخابية وعدم وفائه بوعوده في محاربة الفساد، وبعودته لمهامه القضائية قام بفتح قضية «الجال» من جديد، وهو ما كان مؤشرا على ترك غونزاليث لقصر المونكلوا بعدما أخرج سفينة إسبانيا من عين الإعصار.