يقدم غاني منجزه التشكيلي الجديد برواق باب الرواح بملامح واقعية تجريدية، في أشكال تقول معناها بأبعاد شعرية، تطرح أسئلة داكنة حول الأرض والحياة في انبجاسهما وتحدرهما الرافض... وبتقديم ملامح شخوص غائبة/ حاضرة تبحث عن جوهرها، تأتي فاترة كالصمت أو كمعنى القول في الصمت. تتميز لوحات غاني بالتوظيف الجريء للون، حيث الاهتمام بالإيقاع الداخلي للشخصية والأشياء، باندغامها في الظل، مع إعطائها لونا حيويا وموقعا مركزيا في بؤرة النظر، وبقدر ما هي معتمة فهي بارزة في التوليف الشكلي وعبر التراكيب اللونية المحاطة بفراغ المنظور وتوهيم عمقه وتقديمه بطرق معاصرة ضمن فضاء خاص، إذ تصبح خلفية المشهد هي مقدمته، واستنادا أيضا على تدرجات لونية يتفرد بها غاني، تبتعد عن مفهوم الهارمونية، وذلك بمزاوجته ألوانا لم يسبق أن تزاوجت مع بعضها، دون السقوط في تكرار نفس اللون في لوحاته، وهو ما جعل بعض النقاد الأمريكيين يؤكدون على فرادة أعماله على مستوى الفن المعاصر، باعتبارها مغايرة للأنماط السائدة. تتسع مساحة اللوحة وتختفي بعض العناصر وتقل أهميتها أو تبرز أو تذوب في تكوينات المكان وتداعياته باختزال التفاصيل وإعطائها بعدا أعمق في إيقاظ مشاعر المشاهد واستفزازه، لما تحمله من قيمة تعبيرية وشاعرية ونزوع وجداني وتأملي يهيكل المضمون بسمات فوتوغرافية بثقلها ونقائها، مع جعلها في الآن نفسه منفية، تلتقط الحركة في التحول وتقبض على المنفلت بما يقوي الطاقة الداخلية للعمل، سواء في علاقته مع كائنات حية أو مع أمكنة، لتشكل اللوحة إيقاعها الداخلي من هذه الطاقة من زاوية نظر تقف على ما يمتد بمنآى عن التلوث والضجيج، فينشد موضوع اللوحة اغترابه في الإنصات والإصغاء لرنين سعير يشتغل فيما وراء اللوحة، ليصبح مالا يرى، يرى في أحواله المتعددة. بهذا البعد الشعري وباختزال مفردات المدلول، نخرج من إطار اللوحة وننسحب الى دواخلنا، لنعاود السؤال من جديد. يمتح غاني من الفوتوغرافيا ومن تجارب التكنولوجيا الحديثة والفيديو والتنصيبات والنحت، مندمجة ومؤطرة بمعارف في علوم السلوك البشري وعلم النفس، وعلم الجمال...بوتقة ثقافية راكمها من خلال معارفه، وعبر رحلاته ومغامراته المتجددة في انعطافاته الفنية والزمكانية ما بين المغرب وإقامة دائمة بفرنسا، فالرحيل نحو أمريكا مكان إقامته الحالية، مع الحفاظ على سفر متواتر مثل طائر السنونو نحو تخوم الأرض، وكأنه لا يرتوي إلا في الرحيل، لتمتلئ ذاكرته بإحساس صائت يزف ما انطبع في الذاكرة، ولتأتي تجربته ضمن هذه التشخيصية الجديدة معتقة بين عناصرمشهدية تحيل على فضاءات الواقعية بخلفيات لونية ذات طابع تجريدي، مؤسسة لغة تشكيلية تقوم على التفاعل الخلاق بين التقرير والإيحاء، ومستلهمة معالم موضوعاتها البصرية مما يصطلح عليه بالحنين في اللانهائي. وتولي أعماله الابداعية أهمية خاصة للشخوص التعبيرية بمختلف فئاتها العمرية، مشتغلة على أمكنة تتجاوز في مقاربتها كل الحدود الجغرافية لتنفتح على زمن كوني يتخذ من المتخيل الجماعي بؤرته البصرية. فالفن، حسب تصريح غاني، تجربة ذاتية تسائل كل الأسندة التعبيرية المألوفة، وتحاول صياغة مسالك إبداعية تتسم بالانزياح والمغامرة، ليبقى الهم المركزي في العملية الإبداعية هو تحقيق المعادلة الصعبة للتشخيص الجديد الذي يكمن في محو الفواصل بين التجريد الخالص والواقعية القصوى. الواضح أيضا أن الفنان غاني يسافر في ذاكرة الأمكنة الواقعية في ضوء ثنائية الهنا وهناك، مستثمرا تفاصيل الواقعي، واليومي، والحيوات الصغيرة على نحو وظيفي وبليغ. اقتصر غاني في معرضه الحالي على عرض اللوحات، بحيث لا تسعفه قاعة باب الرواح كغيرها من الأروقة في إنجاز منشآت فنية، لكون القاعات غير مجهزة لهذا الغرض، إضافة إلى كلفة نقل تنصيباته الفنية من ورشته بالولايات المتحدة الى المغرب. انطلقت تجربة غاني الإبداعية بداية الستينيات، واتسمت في مراحلها الإبداعية الأولى بالطابع التجريدي مع حضور نفحة واقعية، ليبدأ في الانتقال بشكل تلقائي من التجريد إلى الواقعية الجديدة في بداية السبعينيات، باحثا عن تفرده، ليهاجر نحو فرنسا في بداية الثمانينيات، وهنا ستقدم له وزارة الثقافة الفرنسية إقامة فنية حصل عليها بفضل أعماله واعترافا بإبداعيته وإشعاعه، ونفس الأمر حصل مع عمودية باريس، وهنا سيلعب غاني أدوارا مهمة في التعريف بالتشكيليين المغاربة وتقديم الدعم للفنانين، مع تنظيم معارض لفائدتهم دون أن يحصر نفسه في نزعة إقليمية إذ لم يكن يبخل عن تقديم المساعدة أيضا لفنانين آخرين من جنسيات مختلفة، وسيؤسس إلى جانب ثلة من الفنانين جمعية البحث في الفنون المعاصرة بفرنسا وشبكات فنية على صعيد كل من أوروبا وأمريكا، وحين لاحظ بداية انحسار الفن التشكيلي بفرنسا، قرر الهجرة نحو أمريكا في مطلع التسعينيات، حيث ازدهار الفن التشكيلي هناك وقوته وسيطرته على مجمل الحركات الفنية بالعالم. يقول غاني في هذا الشأن: «رحلتي نحو أمريكا كانت بهدف التجدد والبحث الفني، فأنا لا أريد أن أكرس عطائي في الجمود والتكرار، وأن يظل هاجسي محصورا في الشق التجاري، لأن عملية البحث عن الجدة الإبداعية ترتبط عندي بالدراسة والرحلة، والانفتاح على جميع الأشكال التعبيرية، وعلى مستجدات التكنولوجيا الحديثة التي أصبحت تفرض نفسها. يتوفر غاني على خزانة فوتوغرافية قوية وغنية، يقتنص من خلالها لقطات هاربة، ويرصد في بعضها مظاهر التحول، كما هو الأمر بالنسبة إلى غروب الشمس في مختلف القارات، حيث تابعه عبر العالم من بلد إلى بلد رصد من خلالها تغير ضوء الفضاء، والضوء في حد ذاته، ليقدم نتائج هذا البحث الفني صمن معرض للمنشآت الفنية كان أقامها بكارولينا الشمالية بالولايات المتحدة. يشار إلى أن غاني يشتغل أيضا أستاذا محاضرا في الجماليات ببعض الجامعات الأمريكية وهو حاصل أيضا على دكتواة تحت عنوان الجمالية ودكتوراة العلوم وتكنولوجيا الفنون،(الفن: النظرية والتطبيق). يقام المعرض من 23 يونيو إلى 23 يوليوز.