أزيد من 200 شخص يقتاتون على مهنة « الترياش»، أغلبهم شيوخ أو شباب، يشكلون فئتين، الأولى «تريش» الدجاج ب «الناشف»، وهم يكونون فئة العجزة الذين مازالوا يقاومون من أجل كسب لقمة قالوا عنها «حارة»، والفئة الثانية «تريش» بالماء المغلى، وأغلبهم شباب، نظرا إلى أن الطريقة تحتاج إلى أفراد أكثر دينامية. «بوطوار الحي المحمدي للدجاج» يبتلع في أحشائه أشخاصا حكمت عليهم ظروفهم الاجتماعية بأن «يقضو باللي كاين» وأن ينخرطوا في مهنة لم يتعلموا أصولها إلا عن طريق الحاجة، حيث ارتبط عملهم بها بعد أن تعذر عليهم العمل بجهات أخرى، وقالوا عن «البوطوار» إنه «مكان لعيش الدرويش». تتوافد يوميا ما بين 30 و40 شاحنة محملة، تضم كل شاحنة 4 إلى 5 أطنان. ويعتبر «البوطوار» نقطة سوداء في أعين الكثيرين بالنظر إلى الطريقة التي يهيأ بها الدجاج، والتي تفتقر إلى أدنى شروط السلامة الصحية، غير أنها عكس ذلك بالنسبة إلى زبنائه الدائمين. كل شيء يوحي بالإهمال.. أكوام من بقايا الدجاج هنا وهناك، وروائح نتنة ترغمك على كتم أنفاسك لتتحاشاها، وغير بعيد عنك، وفي كل شبر من «البوطوار» ترى شبابا مفتولي العضلات يتحركون بنشاط غير آبهين بروائح المياه، الآسنة التي تضم أشلاء الدجاج التي تراكمت ببعض الحفر، وشيوخا آخرين وقد تربعوا على أكوام من «الريش» غير آبهين بالروائح ولا بغيرها، فقط هم هناك من أجل «ترياش أكبر عدد ممكن من الدجاج ليس إلا» وضمان مدخول جيد في كل يوم جديد. «ترياش بالناشف» كانوا يحركون أيديهم ببطء شديد بعد أن أخذ منهم العياء ، لا يتحدثون ولا ينظرون إلى بعضهم إلا عند الضرورة، أو عن طريق إيماءات، وحتى إن استفسرتهم عن شيء فإن جوابهم يكون مقتضبا لأن كل دقيقة « زايدة فيهم»، حسب السي حميد «حوالي 80 سنة» لذلك فإنهم يجيبونك بطريقة «حديث ومغزل» وحتى إن رفعوا أعينهم إلى أحد المارة، للمناداة على زبون مرتقب، فإن ذلك يكون بنظرة خاطفة فقط. كان كل واحد منهم يضع بين يديه، وفوق «مزبلة» من «ريش الدجاج»، دجاجة وينهمك في إزالة ريشها بحركات تنبع عن مهنية، رغم بطء العملية، ربما لعامل السن. يقول أحد «الرياشة»، بعد أن عجز عن تحديد مدة عمله ك «رياش للدجاج» : «هذي هي الخدمة اللي عرفني الله، بلا حساب ونا خدام فيها هي باش عايش أنا ومالين الدار». أزيد من 100 شخص يعملون «رياشة»، أغلبهم من الشيوخ و «العجزة»، الذين مازالوا يجبرون أنفسهم على العمل رغم أن صحتهم لم تعد تسعفهم على العطاء بشكل يجعل مدخولهم أكبر، خاصة بالنسبة إلى من لا أسرة ولا معيل له، وأصبح لزاما عليهم تأمين مدخول للعيش تحت أي ظرف. يقول أحد «الرياشة» الذي كان العياء باديا على ملامحه: «نهار واحد إلى ما خدمتش كتبان عليا، شكون غادي يدخل عليا شي حاجة، ما عنديش لوليدات، ما جابش الله، ما نرضاش نمد يدي لشي واحد اللهم هذ الخنز وٌتًمارة ألاَ نمد يدي لشي واحد». درهمان فقط ما يجنيه أحمد، «رياش» يبلغ من العمر قابة 80 سنة وأمثاله عن الدجاجة الواحدة، وتزداد الدراهم كلما كان عمل الرياش أسرع، بالإضافة إلى كثرة الزبناء، الذين غالبا ما تكون زيارتهم مناسباتية، ترتبط أساسا بحفلات الأفراح أو الأحزان، وما عدا ذلك فإن المدخول يبقى قارا ما بين 40 و 50 درهما في اليوم، وهو « لا يكفي لسد متطلبات الحياة، خاصة مع ارتفاع أثمان الكراء» يؤكد أحمد. كان كل واحد من الرياشة يضع بين ركبتيه دجاجة وهو يزيل ريشها «بطريقة جنونية» محاولة منه لربح الوقت، فالسرعة والدقة في العملية تعني الرفع من عدد الدراهم وإرضاء للزبناء الذين لا محالة أنهم سيعودون في مرات قادمة، لأن «الترياش بالناشف» ليس كغيره من الطرق الأخرى لأنه صحي إلى حد كبير إذ لا يعتمد لا على الماء ولا على غيره وهو ما يجعله الطريقة المفضلة لدى العديد من الزبناء، تقول إحدى الزبونات: «أنا أقتني الدجاج من البوطوار منذ سنين خلت وهذه هي الطريقة التي أفضلها لإزالة ريش الدجاج حيث أستطيع الاحتفاظ بها في الثلاجة لمدة طويلة عكس الذي أزيل ريشه بالماء المغلى». «ترياش» بالماء المغلى غير بعيد عن «الرياشة بالناشف» يوجد رياشة من نوع آخر، لا يعملون باستقلالية، بل هم كخلية نحل نشيطة، عمل كل واحد مرتبط بغيره، هناك من يجلب الماء والحطب ويضمن أن يبقى قدر الماء مليئا بالماء المغلى، وآخرون «يريشون الدجاج» وآخر يقدم للزبناء سلعهم. يشتغلون بمكان لن تحسبه مخصصا للذبيحة أو «الترياش» أو أن الأمر يتعلق بعملية يفترض فيها أن تمر في ظروف أكثر صحة وملاءمة مما هي عليه، رغم أنهم نصبوا طاولة مقارنة مع سابقيهم الذين يشتغلون فوق الأرض، لا لشيء سوى لأن الدجاج يذبح على أرض «غير نظيفة»، تتحرك فوقها كلاب حرة طليقة كيفما شاءت، ويوضع في أواني بلاستيكية «عشوائية»، ثم يرمى بعد ذلك في «برميل حديدي» مسود بفعل ألسنة النيران، وهو سواد طلا الجدار أيضا، والأخطر من ذلك أنه لا يتم تجديد المياه كليا، بل كلما انخفضت كميتها أضاف القائم على العملية مياها جديدة، وهي مياه سبق استعمالها في أشياء أخرى «غسل الدجاج الذي أزيل ريشه». و«الرياشة» بالماء هم ك «الرياشة بالناشف»، إذ رغم اختلاف طريقة العمل فهم يتقاضون أيضا درهمين للدجاجة الواحدة، والاختلاف الوحيد هو في العدد، حيث إن «الرياشة» بالماء قد يهيئون عددا كبيرا من الدجاج في اليوم الواحد لأن الماء المغلى يسهل عليهم إزالة الريش، في الوقت الذي قد يستغرق «الرياش بالناشف» أزيد من نصف ساعة في الدجاجة الواحدة، وهي عملية «معقدة نسبيا»، غير أن أحمد قال عنها إنها «صحية، بالإضافة إلى أنه يمكن الاحتفاظ بالدجاجة مدة طويلة داخل الثلاجة، وأن الدجاج الذي «يريش» عن طريق الماء المغلى يستحسن استهلاكه في نفس اليوم». «الترياش» مهنة من لا مهنة له « احنا هنايا حينت ضربونا الحيوط». كان أحمد يتحدث بعصبية وهو يروي كيف كان وضعه وإلى أين انتهى، «لم أتصور يوما أني سأصبح «رياشا» محترفا، وأن هذه المهنة ستصبح مورد رزقي الوحيد. كنت أشتغل مع أحد الأشخاص بكل تفان طيلة 15 سنة، غير أنه طردني شر طردة وجعلني عرضة للجوع أنا وأطفالي، لأني لم أكن أشتغل بأوراق قانونية، لذلك كان من السهل عليه التخلص مني». ويضيف أحمد «بسبب الوضع الاجتماعي القاهر انقطعت ابنتي، التي كانت من نبهاء فصلها، عن الدراسة، ولم أجد من يشد عضدي غير هذا المكان». «بوطوار» الحي المحمدي بؤرة سوداء من الناحية الصحية، غير أنه «مزيان للدراوش»، فهو مكان آمن لعيش مئات الأشخاص العاطلين وأسرهم، إذ إن أغلب الشباب الذين يشتغلون به من حاملي الشهادات المهنية ممن لم يسعفهم الحظ في الحصول على عمل بمكان أكثر رحابة من «البوطوار»، أو من الطلبة الذين يواظبون على العمل به في عطلة نهاية الأسبوع أو في العطل الدراسية. يقول خالد أقدار «18 سنة» : «منذ أربع سنوات وأنا أشتغل ك «رياش» هنا، ولن أنكر أن العمل هنا ساعدني كثيرا في ظروفي المعيشية العائلية، وبفضلها أنا أساعد أسرتي وأحاول من خلالها أن أكمل مسيرتي الدراسية». يتم اقتسام الحصيلة اليومية بالتساوي ما بين الأشخاص الذين يعملون بتعاضد في ما بينهم، ويؤكد خالد «نصيبي يكون ما بين 150 و200 درهم بالنسبة إلى عطلة نهاية الأسبوع». ويصل نصيب كل واحد من «الرياشة» في أحسن الأحوال إلى 80 درهما، وينزل إلى 30 درهما في الأيام العادية، وهو ما يضطر عددا منهم إلى الاستعانة ب «بريكولات» أخرى في ميادين مختلفة «في سبيل تأمين لقمة عيش مرة». «الرياشة» غير راضين عن السوق «نحن غير راضين عن الوضع هنا، في البداية كنا على الأقل نعمل بمكان منظم يراعى فيه عامل النظافة، أما الآن فنحن نعمل في جو غير سليم بالمرة» .. « دابة مازال شوية أما ملي كانت الشتا راه كان واحد المنظر كيبكي».. «راه السوق كله عامر غير مشاكل حتى حاجة ما مقادة فيه» كان كل المهنيين الذين يسترزقون من سوق الدجاج بالدارالبيضاء «البوطوار» تحركهم رغبة قوية في سرد ما يعانونه من مشاكل داخله، وهم يطالبون بتدخل المسؤولين لجعله أكثر تنظيما، والعشوائية التي أصبح عليها «البوطوار» هي التي جعلت زبناءه ينفرون منه، حيث إنه لا ينتعش إلا في يومين في الأسبوع، وهما الخميس والسبت. قال أحد «الرياشة» إنهم كانوا «معززين مكرمين في مكان أعد في البداية خصيصا لهم، يضم أرقاما ترتيبية خاصة بكل فرد منهم، غير أن طردهم منه شكل لهم مأساة حقيقية، «لا وجود للنظام، ولا النظافة، ولا أي شيء، رغم أن النظافة تدخل ضمن همام إحدى الشركات التي خول لها ذلك إلا أن الرياشة أنفسهم يقومون بذلك بكيفية يومية أو يفوضون ذلك لأحد الأشخاص بمقابل مادي.. السوق يغرق في العشوائية». وأكد أحد «الرياشة» أنه سبق لهم أن طالبوا الجهات المعنية بتمكينهم من محلات تجارية تضمن لهم الاستقرار والعمل في ظروف جيدة وصحية أكثر للمستهلك» غير أنهم لم يجدوا آذانا صاغية. وأبان «الرياشة» عن رغبة للعمل في محلات مقابل أن يؤدوا أثمنة رمزية تكون لهم القدرة عليها، وأن تتم مراعاة أوضاعهم الاجتماعية، حيث إنهم قضوا فصل الشتاء الماضي في ظروف جد صعبة، إذ إن المياه غمرت المكان وتكبد باعة الجملة خسائر مادية فادحة نتيجة موت عدد كبير من الدجاج لانعدام أماكن مخصصة له، حيث إن الأقفاص توضع ب «ديبو» وهو مكان منفتح، من واجهتيه الرئيسيتين، مما سهل عملية تسرب المياه بكثرة، حيث كان «الرياشة» يضطرون إلى العمل وسط برك الماء، وعدد كبير منهم اضطر إلى مقاطعة المكان، رغم أنه مورده الوحيد. «بوطوار» بدون أبواب ستجد نفسك مضطرا لاقتحام «بوطوار الحي المحمدي» رغم انعدام الأبواب به. يقول أحد الرياشة: «السوق يتوفر على ثلاثة أبواب غير أن لا واحد منها يتوفر على باب يضمن الأمن به»، فحتى الرياشة، رغم أنهم أبناء المكان، كانوا يتساءلون عن جدوى الأبواب الثلاثة ما دامت مفتوحة على مصراعيها في كل وقت وحين، وهو تساؤل يطرح كلما تمت سرقة أشياء من السوق. وأكد أحد «الرياشة» أن الأبواب ليست السبب الوحيد الذي يؤمن للصوص تحقيق مبتغاهم، بل منهم من يتقمص دور «رياش»، إذ إنهم يقودون الزبناء إلى «الكرو»، وهو مكان لبيع الدجاج بالجملة، حيث يلعبون دور الوسيط ما بين الزبون وبائع الجملة، ومن ثم يقدمون للزبون عددا من الطيور هو أقل من العدد الذي أدى ثمنه للبائع، علما أن بائع الجملة على علم بما يقع، غير أنه لا ينبه الزبون الذي لا ينتبه إلى عملية النصب إلا بعد فوات الأوان، وكثيرا ما ينصح «الرياشة» الذين يهيئون الدجاج الزبون بإعادة عد سلعته والتأكد من أنه لم يكن ضحية لهؤلاء اللصوص. 400دجاجة تنفق يوميا في «البوطوار» أزيد من 400 طائر من الدجاج ينفق يوميا، علما أن «البوطوار» يستقبل يوميا ما بين 35 و40 شاحنة محملة بالدجاج، كل شاحنة تضم 4 أو 5 أطنان، وتتضارب الأقوال ما بين مؤكد على أن الدجاج الميت «الجيفة» له زبناؤه الخاصون الذين اعتادوا اقتناءه بأثمان جد بخسة، ويتعاطى هؤلاء إليه لانخفاض ثمنه، حيث إن هاجس الربح يسيطر عليهم ويتناسون الأضرار الصحية له على المستهلك، ونفى مهنيون آخرون من داخل «البوطوار» ذلك، مؤكدين أنهم لا ينكرون أن ذلك كان في وقت سابق، غير أن الوضع تغير الآن، وأن الدجاج النافق يشتريه أشخاص لإطعام كلابهم، وهو لا يباع لهم، بل إن مبلغ 20 درهما أو أكثر يعطيها صاحب الكلب للشخص الذي يتكلف بإزالة كل الزوائد من الدجاجة. وأضاف المهنيون أنفسهم أن هناك ما يصطلح عليه ب «الرجوع»، حيث إن «الدجاج الذي يكون به كسر أو كدمات أو مرض ظاهر يرفض بائعو الدجاج بالتقسيط شراءه، ويخصص له مكان بمدخل السوق، إذ إن هناك عددا كبيرا من الأشخاص، الفقراء طبعا، يقصدون المكان المخصص له مباشرة ويشترونه بملء رغبتهم وعقب ذبحه يزال نصفه أو ربعه، حسب طبيعة الكدمات، ويأخذه الشخص عن طيب خاطر، وهنا لا يمكن أن نسميه نافقا، كما أن المواطنين يأخذونه بمحض إرادتهم فقط لأن ثمنه يكون أقل بنصف ثمن الدجاج العادي أو أكثر». وبالإضافة إلى الزبناء الذين يتعاطون لاقتناء دجاج «الرجوع» هناك أيضا عدد كبير من بائعي الدجاج المذبوح بالتقسيط، إذ إن عددا كبيرا منهم يواظب على اقتنائه دون أن يفكر في شراء «الدجاج الصاين». يقول أحد المهنيين: «أغلب البياعة والشراية ديال الدجاج بالتقسيط -بالكيلو والنصف كيلو والرابعة- كياخذو دجاج «الرجوع»، حيث كيربحوا فيه مزيان، أما الدجاج المزيان راه غير على قد الحال وصافي، اللهم ياخذو اللي فيه العطب، والشاري هو اللي غادي ياكل العصا».