الولوج إلى دوار «طوما» و«السكويلة» وغيره من الأحياء الصفيحية بمقاطعة سيدي مومن بالدارالبيضاء يبث في الزائر مزيجا من الأحاسيس تتوزع بين الخوف من مصير مجهول قد يلحقه جراء اختراق دروب صفيحية «تطوي بؤسا جليا»، والرأفة على حال أطفال وشيوخ وشباب ينتشرون عشوائيا بمداخل «كاريان طوما» و «السكويلة»، اللذين ارتبط اسماهما في مخيلة العموم بأنهما مكانان يختزلان كل أشكال الانحراف. كانت نظراتهم تختزل كل مظاهر البؤس والقنوط. «طوما» أشبه ببؤرة خطر تجعلك تتأبط الحيطة في كل خطوة تدنو بها نحوه أو ترمي بك في أزقته الملتوية التي ربما لن تخرج منها بسلام إن كانت تلك زيارتك الأولى إليه، وحتى إن زرته مرارا فشباب الدوار من «طينة خاصة»، وغالبيتهم لا يتقنون إلا «لغة العنف»، وهو ما يجعل اقتحام الكاريان أشبه بالارتماء وسط أمواج هوجاء، حسب أحد أبنائه، الذي أقر بأن السكان أنفسهم لا يسلمون من مخاطر الاعتداء من طرف المنحرفين فكيف يمكن أن يسلم غيرهم؟ استقبال من نوع خاص مع الخطوات الأولى لولوج الكاريان، وكما يقول المثل المغربي «أمارة الدار على باب الدار»، وربما هو ما أنذرنا بأن التوغل داخل أزقته ربما يكون مغامرة محفوفة بالمخاطر، صادفنا شابا يرغد ويزبد ويهذي بكلام ناب، ويحطم كل ما صادفه في طريقه بحجارة يقتلعها ويرمي بها إلى وجهة من اختيار «اللاوعي»، كان المنظر مألوفا بالنسبة إلى السكان، لأنهم لم يعيروا تهديداته وحركاته الرياضية والبهلوانية، أي اهتمام. كان البعض يمر بجانبه دون أن ينال الخوف منهم شيئا، ومنه من حاول أن يهدئ من روعه حتى يسمح لبعض الغرباء الذين أخافهم المشهد من المرور لاختراق الأحياء ا لقصديرية. المسرحية، التي كان بطلها أحد أبناء الكاريان، واقعية، لم تخضع لكتابة سيناريو ولا لإخراج كل ذلك كان من وحي واقع يعيشه سكان كاريان طوما على مضض. تقول سعيدة (من سكان كاريان طوما): « لو كانت لنا قدرة على اقتناء سكن في مكان آخر لما قضينا ليلة واحدة أخرى هنا، كثيرا ما نقضي ليالي بيضاء، ليس لأننا نرغب في ذلك، ولكن لأن عربدة المنحرفين، وهم كثر بالكاريان، تمنعنا من الخلود إلى النوم». بكاء على الماضي كان كاريان طوما والسكويلة وغيرهما مجرد أحياء هامشية عادية تمتد على هوامش المدن، وكان سكانها محط رأفة وشفقة في أعين الجميع، لأن استقرارهم في مثل هذه الأماكن يدل على مستواهم الاجتماعي. فقد ترسخ لدى المتخيل الاجتماعي بأن الكاريان رمز للتخلف ولكل مظاهر الإقصاء والفقر.. كما أن الفكرة المعممة عن سكان الكاريان هي أنهم غير حضاريين، وهم ذوو نزعة عدوانية.. غير أنه كان من المستبعد أن يكون من بينهم «إرهابيون» يسخرون أجسادهم لقتل الآخرين دون مبررات، هذا ما صرح به أحد السكان، الذي لم يستوعب بعد انخراط بعض شباب الكاريان في أحداث 16 ماي 2003، التي كانت الدارالبيضاء مسرحا لها. «كنا ننعم باستقرار تام» رغم أن العيش في الكاريان هو مغامرة قد تجر على قاطنه تبعات ربما تكلفه أطفاله، فالعيش في الأحياء الصفيحية كالقمار نتائجه غير مضمونة، فمثلما تربح الرهان قد تخسره، تضيف ربيعة (من السكان) «مهما كانت التربية التي تلقنها لأطفالك لا بد لهم من أن يتأثروا بالجو العام الذي يعيشون فيه، إضافة إلى ذلك يظل الجميع ينظر إلى سكان الكاريان بازدراء واحتقار، وربما هو ما يجعل بعضهم يلجؤون إلى العنف في أحيان كثيرة». وتابعت ربيعة بملامح شاحبة، وهي تبكي سنوات الاستقرار الاجتماعي بطوما، أن السكان كانوا يعضدون بعضهم في السراء والضراء، وكان الصبر على واقع التهميش الذي يعيشونه سمة تميز الجميع، وهو ما أصبح اليوم مفقودا. ما بعد أحداث 16 ماي تحدث الكثير من سكان طوما والسكويلة باستياء ل «المساء»، ممن لم تشملهم بعد عمليات الترحيل، عن واقع التهميش الذي كانوا ومازالوا يعيشونه، وتساءلوا لماذا لم تتدخل الحكومة لإعادة إسكانهم منذ زمن بعيد، منذ كان آباؤهم وأجدادهم يستقرون به، ولماذا التهبت حماسة المسؤولين منذ التفجيرات التي شارك فيها أبناء الكاريانات؟ وأضاف أحد أبناء المنطقة : «لم أر يوما قناة تلفزية أو إذاعة من الإذاعات المغربية أو العربية تحمل نفسها عناء الانتقال إلى الأحياء الهامشية لتنقل الواقع الاجتماعي المزري لهذه الفئة من الشعب إلا بعد أحداث 16 ماي، وكأنهم «كانوا ينتظرون مصيبة بهذا الحجم ليلتفتوا إلينا، حيث أصبح الحديث عن كاريان طوما والسكويلة حديثا عن «الإرهاب والإرهابيين»، وهنا دخل سكان هذين الحيين التاريخ من بابه الواسع، لكن لسوء الحظ كان دخولهم «معوجا» يحمل العار والشؤم إلى أناس لم يختاروا العيش هنا بقدر ما حكمت عليهم الظروف بذلك. أصبحت عدسات الكاميرات تتبع خطوات السكان وترصد أحزمتهم الرمادية لتبين للعالم أجمع أن هؤلاء أيضا هم من سكان المغرب ومازالوا يستقرون تحت القصدير ويحتمون به من لفحات الشمس وقطرات المطر، وعملت العدسات أيضا على إظهار طينة جديدة من البشر ممن يحسنون «فن الإرهاب والترهيب» ويتضلعون فيه رغم انتمائهم إلى دور الصفيح التي ترمز إلى كل أشكال التخلف الاجتماعي. هكذا أصبح الإرهاب لصيقا بكاريان «السكويلة» وكاريان «طوما»، رغم أن السكان لم يسمعوا به من قبل إلا عبر الإذاعات والقنوات التلفزية، يؤكد أحد الشباب، الذي كان يتحدث بحنق، وصوبت إليه أنظار العالم بحقد، وكأنهم أجمعوا جميعا على تنفيذها، والواقع أن لا علم لهم بكل هذا، وهم أيضا فوجئوا بالخبر مثلما فوجئ غيرهم. «فقط هم يبحثون عن كسرة خبز لإشباع بطون أطفالهم». آمال سكن « عالقة» ينقسم السكان، الذين مازال أمر انتقالهم إلى أحياء أخرى موقوف التنفيذ إلى أجل غير مسمى، في إطار إعادة إيوائهم، إلى فئتين: الأولى فئة الملاكين، والثانية العائلات المركبة، واعتبرت الأخيرة نفسها غير محظوظة لأنه «تم إهمالها بطريقة ملتوية»، وأكدت على رفضها الطريقة التي يريد المسؤولون الاستفادة بها رفضا باتا، إذ إنه من قبيل الغرابة، على حد تعبير فاطمة (أم لخمسة أطفال)، أن يعرض القائمون على المشروع أن تستقر عدة أسر مركبة في بقعة واحدة، علما أن إمكانيات السكان محدودة، حيث إن أغلبهم استعانوا بأشخاص لا تربطهم بهم أية علاقة من أجل بناء البقعة الأرضية على أساس أن يستفيد الشخص الذي بناها من النصف. وعن فئة الملاكين، يقول أحدهم: «لا يعقل أن يتنازل الملاك عن أزيد من 500 متر أو أكثر من أجل الاستفادة من شقة وربما يقتسمها مع أحد أفراد عائلته». وأضاف أنه يجب أن يتم التعامل مع الملاك الأصليين وتعويضهم بما يتناسب ووضعيتهم العائلية والقانونية كملاكين لا مكترين، قالت إحدى السيدات :«أنا غير متزوجة، وفتحت عيني بهذا المكان، وأنا من الملاكين، وعرض علينا المسؤولون الاستفادة من بقع أرضية مساحتها محدودة جدا مقارنة بالمساحة التي نقطن فيها حاليا»، وأضافت باستنكار «يجب على القائمين على عملية الترحيل أن يراعوا الجانب النفسي والاجتماعي للعائلات، وأن يجدوا لنا حلا يرضي كل الأطراف، إذ إنه من غير المنطقي أن أتقاسم شخصيا مع أحد إخوتي بقعة أرضية، فأنا وريثة ومن حقي أن أستفيد من بقعة أرضية خاصة بي، خاصة أني غير متزوجة وليس لي أطفال فماذا سيكون مصيري غدا؟». وأكد سعيد، من مالكي بلوك 1 «طوما»، «رفض المسؤولون الاستجابة لمطالبنا في ما يخص التعويض، حيث إننا نطالب ببقعة خاصة بكل وريث لأننا نستقر بهذا المكان منذ 1931»، وهو ما يزيد من تعميق المشكل بالنسبة إلى السكان. وأفاد سعيد، بناء على وثائق رسمية، أنه في إطار قرار نزع الملكية الصادر سنة 1989، تم إدراج ملف القضية لدى المحكة الإدارية بالدارالبيضاء، قسم التعويض، ملف عدد 11897، حيث أصدرت حكمها تحت عدد 208 بالتعويض بمبلغ 1000 درهم للمتر الواحد، وأنه بتاريخ 18 غشت 2006 صدر عن المؤسسة الجهوية للتجهيز والبناء للناحية الوسطى عدولها عن نزع الملكية بخصوص العقار موضوع الرسم العقاري عدد 12.586، الملك المسمى «لافوريج»، وهو الملك الذي مازال سكانه يرفضون الانتقال وفق معايير اعتبروها «ليست في صالحهم». يقول سعيد:«إن كان أمر تعويضنا ببقعة واحدة لكل وريث مرفوض من طرف الجهات المسؤولة على هذا المشروع فنحن نطالب بأن يعاد إسكاننا بعقاراتنا، ونحن مستعدون للتكفل بجميع المصاريف التي يرونها ضرورية، وأظن أن هذا حلا سيرضي جميع الأطراف، وبالتالي يمكن أن يتم تحقيق برنامج القضاء على دور الصفيح بمنطقة سيدي مومن، كما سننعم بسكن لائق وعلى مسافة معقولة، إذ سنقسم العقار موضوع الإرث على جميع الورثة بالتساوي». وعبر عدد من الملاكين عن استنكارهم للطريقة التي تمت بها معالجة ملفات المكترين بالرسم العقاري المذكور، إذ اعتبروه لم يحم حقوقهم المادية، كما أنه لم يتم إشراكهم في تحديد المكتري الحقيقي من الدخيل. وأكد الملاكون أن عملية الهدم التي ستطال المحلات السكنية المكتراة داخل رسمهم العقاري ستترتب عنها أضرار مادية، إذ إن هذه المحلات هي أيضا في ملكيتهم الخاصة. وعن الأحياء المستقطبة، قال عنها سكان «طوما» و «السكويلة» إنها لا ترقى إلى ما كانوا يتطلعون إليه، واعتبروا الترحيل تغييرا ل«سكن عشوائي» بآخر عشوائي أيضا، وأن التغيير فقط في «الحيوط» ليس إلا، حيث أحسن ما حمله الانتقال هو الاحتماء بجدران إسمنتية عوض صفحات قصديرية، حيث إن السكان الذين تم ترحيلهم تزودوا بالكهرباء من الشارع العمومي، بالإضافة إلى غياب الأمن وأشياء أخرى كثيرة.. تحت رحمة المنحرفين لم يعد سكان دوار «طوما» بسيدي مومن مطمئنين على سلامتهم، حسب تعبير عدد منهم، بعد أن تم تخريب نصف «براريكهم» في إطار مشروع إعادة إسكان قاطني الأحياء الصفيحية بمقاطعة سيدي مومن التي تضم 24.196 براكة، أي أن 20 في المائة من مجموع الأحياء الصفيحية بالمغرب توجد بهذه المقاطعة. وأكدت حليمة، من قاطني دوار «طوما» أن «النوم فارق جفوننا، خاصة في فترات الليل، حيث نبيت في جحيم جراء الماراطون الذي يخوضه اللصوص والسكارى فوق البراريك، دون أن يجرؤ أحد السكان على النبس ببنت شفة خوفا من بطش المنحرفين». ويضيف أحمد: «استيقظت على وقع الضجيج، بعد أن سقطت إحدى المتلاشيات من فوق «البراكة»، فإذا بي أفاجأ بشخص لم أتمكن من معرفة هويته، كان يحاول الدخول إلى البراكة، حيث فر بعد أن رآني». ووصف السكان أنفسهم بأن الوضع بالدوار يسير نحو الأسوأ، بعد أن كانوا يعيشون حياة مستقرة، خاصة بعد أن تم تخريب حوالي نصف «البراريك»، وهو ما فتح المجال أمام اللصوص لإيجاد ثغرات، انطلاقا من الدور التي تم هدمها، للولوج إلى «براريك» أخرى مازالت تستقر بها العائلات، لطبيعة بناء الأحياء الصفيحية التي تلتصق فيها «البراريك» بعضها ببعض، والفاصل ليس سوى لوحة صفيحية في بعض الأحيان أو حائط غير سميك قابل للانهيار في أية لحظة، أما الأبواب فهي غالبا ما تكون عبارة عن قطع مركبة يدويا من الخشب المتآكل. وعبر فاعل جمعوي عن أن السكان يدفعون مقابلا ماديا للمنحرفين الذين يعترضون سبيلهم عند دخولهم ومغادرتهم الدوار ضمانا لسلامتهم، خاصة أن المنحرفين يكونون مدججين بأسلحة بيضاء، وإذا ما امتنع أحد السكان عن تأدية ما أسماه الفاعل الجمعوي «ضريبة الدخول والمغادرة» فآنذاك يتعرض للضرب والجرح والسب. وتحدث المصدر نفسه عن أن السرقة أضحت شيئا عاديا بالنسبة إلى السكان المحليين، أما إن كانوا من خارج الدوار فالأمر يكون أشد خطورة. ولم ينف أحمد بريجة، رئيس مقاطعة سيدي مومن، وجود منحرفين أصبحوا يستغلون الفجوات الناتجة عن الهدم لاتخاذها فضاء لشرب الخمر وتناول مختلف أصناف المخدرات، لكنه نفى وقوع أي انفلات أمني بالمنطقة، وأن حالات الإجرام بالمنطقة عادية ولا تسجل ارتفاعا ملحوظا مقارنة بالمناطق الأخرى. وأكد بريجة على أن المنحرفين هم من أبناء الدوار ولا يوجد بينهم أي وافد من منطقة أخرى ولا حتى من الأحياء الصفيحية المجاورة له كالرحامنة والسكويلة.. وهو ما نفاه مصدر جمعوي آخر الذي أكد وجود عناصر أجنبية بين المنحرفين. ويطالب السكان الجهات الأمنية بحمايتهم من اللصوص، خاصة في الوقت الراهن، إذ يستغل هؤلاء الفترة الانتقالية التي يعرفها الدوار، التي ينشغل فيها الجميع بأمور التحاقهم بالأحياء المستقطبة، وهو ما جعل السرقة تنشط بالمنطقة، بل إن أسطح «براريكهم» وجنباتها أضحت مكانا لمعاقرة الخمر وجلسات المجون، وهو ما يزيد من تخوفهم على أمنهم واستقرارهم الاجتماعي والنفسي، حسب تعبير سكان طوما الذين طالبوا بالتعجيل بتسوية ملفهم.